الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    "الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    التزامات المقاولين    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم براءة الذمة: مسألة نية أم مسألة نتيجة ؟
نشر في الحياة يوم 25 - 02 - 2000

1- عبارة براءة الذمة من العبارات الجاهزة الكليشيهات الشائعة، التي يرددها كثير من الناس، تكية يستندون إليها، في تبرير معالجة غير منتجة، في موقف من مواقف الحياة، أو لتبرير تصرف غير كاف، أمام حدث من الأحداث، أو لتبرير سعي لم يوفق إلى الصواب، أو لتبرير تهور في العمل، يؤدي إلى الخسارة.
براءة الذمة الحقيقية، ليست موقفا منفصما عن النتيجة، وعن حسن التفكير والتدبير معا. فإذا أدى الإنسان عملاً، فأفضى العمل إلى عاقبة وخيمة، يصبح التذرع ببراءة الذمة، وهماً من أوهام الذات. فالتاجر الذي لم يحسن المضاربة، لن يبرئ ذمّته المالية من الديون شيءٌ من الركون إلى التبرير، فضلا عن الأماني والأحلام. عبر الزمن تحرفت مفاهيم الشريعة، فأمسك الناس بألفاظ القرآن والحديث، ولكنهم حرفوا المفاهيم، ومن ذلك مفهوم براءة الذمة.
خذ مثلاً ذلك الذي يقفز فوق معادلات القوى، وفي حركة، لا تحسب النتائج ولا تعتبر بالتجارب، فينكر منكراً ظاهراً أو خفيا، فإذا به يفتح الباب لسلسلة من المنكرات، فيئول بالناس، الأمر، إلى مزيد من الفساد، فإذا ناقشته، قال: إن الله أخذ الميثاق على العلماء، ببيان الكتاب والصدع بالحق، وعلى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعد نفسه مقتديا بالأنبياء، الذين جاءهم الخطاب الإلهي: "فاصدع بما تؤمر"،
وهذا خلط يجر إليه ترك التمعن في الأمور، فالأنبياء يؤمرون بالوحي، فبراءة الذمة عندهم، إنما هي تنفيذ وحي يوحى، وليست أمراً يوكلون فيه إلى اجتهادهم، فالأنبياء قد حددت وظيفتهم بالبلاغ، بصرف النظر على النتيجة، كما قال تعالى "فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر". وحين نزل الكتاب، أصبح دور البشر هو تطبيق الكتاب، والذين يطبقون عليهم إذن حسبان النتيجة، كما يحسب التاجر كيف يستثمر رأس ماله، بصورة تجلب له الربح وتجنبه الخسارة.
ولعله ينبغي التفريق هنا بين أمرين يخلط بينهما بعض الناس: القدوة بالأنبياء في اعتناق العقيدة والإيمان والأخلاق، هذه ليست مجال نقاش ولا خلاف. أما القدوة بهم في أساليب الدعوة ووسائلها، فهي مسألة اجتهاد، حسب أحوال التضاريس والمناخ.
الصدع بالحق وبراءة الذمة
بعض الدعاة يقفزون فوق الواقع الاجتماعي، من دون إدراك معادلات القوة، فيصطدمون بقوى اجتماعية مستقرة الأركان، وينسون أن هذه القوى ستدافع عن نفسها، بما تملك من سلطان، لأنها حين تخاف تبطش، فإذا بطشت ازدادت خوفا، فإذا ازدادت خوفا ازدادت بطشا، والنتيجة أن ينعزل الداعية ومعه ثلة قليلة من الناس، والداعية ومعه الرجل والرجلان، والداعية وليس معه أحد. ويتسببون في إقصاء فكرة الإصلاح نفسها، وفي تشويه منهجهم، إن كان لهم منهج سديد.
وهم أيضاً عندما يستفزون تلك القوى استفزازاً غير محسوب النتائج، بمقولات هلامية، لا تربط بين العمل ونتائجه، أو أعمال استدرجوا اليها، تكون مسألة براءة الذمة، طريقاً إلى الفوضى والخراب، لأنها تكوَّن عند العامة اتجاهات سلبية، ضد قوانين ونظم مدنية مشروعة، لا تقوم أمة بدونها، ويندفع الناس إلى الحيل، وإلى التهرب من قوانين للحياة المدنية، جاءت بها الشريعة في الجملة، ولا تستقر حياة مجتمع بدونها.
وقد يضعف النظام العام، فتنشط قوى ساكنة تحت الأرض، تستثمر ضعف انسجام، أو فراغ مجال، فيؤدي ذلك إلى اختلال الأمن والفساد. فالصدع بالحق ليس من دون ضوابط ولا شروط، بل لا بد له من الحس الاجتماعي، الذي يجعل الإنسان يتحسس جغرافية المناخ والتضاريس، قبل أن يخطو لسببين:
الأول: أن الحجة قائمة على البشر، بموجب خطاب التكليف، الذي ورد في القرآن الكريم.
الثاني: أن التبليغ المشروع، هو الذي يأخذ بالأسباب المشروعة للنجاح، ويقدر النتائج تقديراً صحيحاً، بعيداً عن العفوية والارتجال، والعاطفية والخيال، وليس لازما على الداعية أن يعيد إنتاج المقولات الدينية الجزئية، إذا كانت إعادة انتاجها، تخل بمقاصد شرعية كلية، ولذلك أثر عن علال الفاسي، أنه قال إذا كان تطبيق جزء من الشريعة، يؤدي إلى ضرر أكبر، فليس من الشريعة في شيء.
وهذا الضابط إذا لم ينتبه إليه أهل العلم، أوقعوا الناس في البلبلة، لأن المسائل التطبيقية للنص الشرعي، تستدعي فهما للنوازل والمتغيرات، وتسمح بمزيج مؤتلف وآخر مختلف من الاجتهادات، يؤمن خلالها كل فريق من الناس، بحقه في اكتشاف الصواب الشرعي، ما دامت المسألة اجتهاداً في فهم نص غير محكم.
لكن الصواب الشرعي عند التطبيق، لا يعد شرعيا، إذا لم يؤد إلى صواب عملي، فالله قد حدد الصواب، بأنه ما ينفع الناس، وحدد الخطأ بأنه الغثاء الذي لا يمكث في الأرض، وهذا تحديد عملي سلوكي، لا يفطن إليه كثير من الناس.
والبراءة من كتمان العلم، ليست موقفاً قوليا خطابيا غير مدروس النتائج.، فإذا كانت كلمة الصدع بالحق، تؤدي إلى ما هو أسوأ، فهذا خطأ شرعي تطبيقي، لا يجوز قبوله ولا تسويغه، عبر النصوص الشرعية النظرية، لأن الأحكام الشرعية ليست نصوصاً مجردة عن التطبيق، إن هي إلا وحدة عضوية، بين النص والمسرح الاجتماعي.
وما أكثر وهم الذين يتصورون أن براءة الذمة موقف خطابي، معزول عن النتيجة المتوخاة، وكأنه موقف تاريخي يسجل في ذاكرة الناس، من دون أن يكون له دور في علاج مشكلات الحاضر.
ومن أجل ذلك ألا ينبغي لدعاة الإصلاح، أن يستوعبوا عبر التاريخ كي لا تعميهم الحمية والحماسة، عن أساليب النجاح والكياسة، فإذا حسبوا الأمور حسابا واقعيا عقلانيا، وأخففت النتائج، فلا لوم عليهم ولا تثريب، فالمجتهد معرض للخطأ والصواب، أما إذا لم يحسبوا الوقائع، ولم يعرفوا ما للناس من دوافع وغرائز، وأخطأوا خطأ منهجيا في الدعوة، فذلك جهل فظيع.
افعل ما تراه مناسبا
ومثل ذلك العبارة التي يطرحها بعض طلاب العلم تحت عنوان "افعل ما تراه مناسباً، حتى تبرأ ذمتك" وهذا تبسيط لأمور تحتاج إلى تأمل وتريث، إذ إن هذا المبدأ يحدث خللا كبيراً في الإصلاح الإجتماعي، ويؤدي إلى أن يعبر كل متحمس عن توتره بأي طريقة، والمناسب في الحقيقة، هو الذي يؤدي إلى نتائج حسنة. والنتائج الحسنة ترى بالعيون، وتسمع بالآذان، لأنها كالشمس يراها ثاقب البصر وحسيره.
في مجال النوافل الروحية الشعائرية، وفي الأعمال الفردية التي تخص ذات الإنسان، يمكن أن يقال للفرد: افعل ما تراه مناسباً، من ذكر ونوافل، وصيام وقيام زراعة وتجارة، أما في مجال العمل العام، فيجب على الإنسان، أن يدرس النتائج. ليست القضية قضية أجر واحد له أو أجرين، القضية قضية نجاح أو خسارة للأمة.
لأن المبتدع فضلا عن المهتدي، قد يفعل ما يراه مناسباً، ويؤجر على اجتهاده، كما ذكر الامام ابن تيمية، ولكنه قد يقوم بعمل يهدم ولا يبني، ويحول طاقته وطاقة من يتبعه إلى أذى للأمة. العمل العام، لا تبرأ به الذمة إلا إذا قام به من يكفى ويغنى، ولا يعتبر القيام به قياما شرعيا، حتى تتصور النتائج، فيكون خيراً كله، أو تكون الأضرار المرافقة للعواقب، أقل من أضرار ترك القيام به، وتوهم القيام به خارج هذه المعادلة، جهل بروح الدين ومقاصد الشريعة.
هذا المجال لن يحتاج فيه الناس إلى الفتاوى المنفلتة، التي قد تتعدد بتعدد الرؤوس، وقد تختلف باختلاف طبائع النفوس، إنما يحتاجون إلى إدراك علم النجاح، الذي يبين لهم أنه لا تتحقق مقاصد الشريعة، إلا عندما ترتبط براءة الذمة بسلامة النتيجة.
وسلامة النتيجة ليست أمراً غيبيا، بل هي أمر من عالم الشهادة، لا ينبغي فيه القفز فوق جدران الواقع، ولا تجاهل عبر التاريخ، ولا الغفلة عن السنن الاجتماعية، كما ذكر عماد الدين خليل: إن المنهج القرآني يؤكد أن النجاح البشري، لا ينتج من دون رؤية استشرافية، تدرك العلائق والارتباطات، لكي تصل إلى الغايات، وتاريخ الأنبياء والجماعات والأمم، يؤكد خضوع حركة الحياة، للسنن الاجتماعية، والنواميس التي أوجدها الله، لتحكم سير البشرية وتطورها، وانتقالها من حال إلى حال، ومن دون إدراك هذه السنن، لن يصل بشر إلى الأهداف، مهما كانت جسامة التضحيات، ومهما كانت سلامة النيات انظر تشكيل العقل المسلم، 63-78.
والذي لا يملك بصيرة واقعية، تُعَقْلِنُ حركته برباط السبب والنتيجة، وتعرفه بحركة المجتمع ومتغيراته، ليس أهلا لأن يفتي الناس في المناسب وضده، بل ليس أهلا لأنه يفتي نفسه، لأنه افتقد البوصلة، التي تهديه إلى التفكير الصحيح.
ولذلك نجد القرآن الكريم يركز على العمل الصالح، أي الذي يؤدي إلى النتيجة النافعة، ولم تأت كلمة النية القلبية الساكنة، لا مرة واحدة في الذكر الحكيم، بل إن الله نعى على المفسدين في الأرض، عملهم الفاسد، ولم ينظر إلى نياتهم، لأن كثيراً من المفسدين، يحتجون بسلامة مقاصدهم، فقال وهو الحكيم الخبير: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" فجعل الله ميزان الحكم على عملهم هو النتائج، لا الدوافع والمشاعر. فالذين لا يشعرون مهما كان صلاح نياتهم، لا ينفعون ولا ينجحون.
نماذج ناجحة ومخفقة
هناك نماذج مخفقة، لم تدرك صلة براءة الذمة بسلامة النتيجة، استطاعت استقطاب الجماهير، ووظفت جماهيرها توظيفا حماسيا، وألهبت بخطابها العاطفي قلوب الناس، واستثمرت الظروف المحلية والإقليمية والدولية، لكنها أجادت في فن الثورة، الاحتجاج والاستقطاب، ولم تجد فن الاستثمار والإدارة، فدرجت واستدرجت، إلى مزيد من الفوضى، والخراب والدمار، فأساءت إلى مشروع النهوض الإسلامي، الذي هو أمل الأمة، في كافة أقطارها، بالتقوقع في خندق براءة الذمة، وتزكية النفس. فتشوهت صورة الإسلام، لأن النيات لم تنضبط بضوابط الأداء الاجتماعي الممتاز، ولم تربط بين الحركة والنتيجة، ولم تقدم المصالح العامة على المصالح الفئوية والحزبية، ولم تقدم الأهداف الحقيقية الاستراتيجية، على الأهداف المرحلية الآنية، ولم تدرك ارتباط العوامل المحلية بالإقليمية والدولية، فتحولت الثمار الدانية، إلى أوهام وأحلام باعدة.
إن نموذج براءة الذمة الحقيقية، ربما يتراءى في أسلوب الإسلاميين في تركيا، الذين عرفوا إمكانهم، فتشكلوا حسب المساحة المتاحة لهم، وقابلوا العنف باللطف، والتصلب بالمرونة، والرصاصة الطائشة، بالكلمة الحكيمة، وقابلوا قابيل بهابيل، وراجعوا عثراتهم على ضوء التجربة، ولم يصروا على صواب أسلوبهم، لأنهم أدركوا أن الصواب الشرعي النظري، ليس منعزلاً عن النجاح العملي.
وهذا يفضي بالمتأمل، إلى إدراك حقيقة يغفلها كثير من المتحمسين، هي أن الإصلاح الاجتماعي، إنما هو تدرج تربوي قاعدي، وليس انقلاباً فوقيا، وهذا المبدأ توحي به سنن التغير الاجتماعي، ولن يخرق هذا القانون، تمترس بصلاح الدوافع، أو تذرع ببراءة النيات، وبوصلة ذلك فهم الواقع فهما حقيقيا، من دون أوهام أو زيف أو غشاوة. لأن العجز عن فهم الواقع معضلة كبرى، تقف أمام كثير من المشغولين بتصحيح النيات، عن تصحيح النتائج. كما أن ترك ربط براءة الذمة بسلامة النتائج، قد يجعل الدعوة فن قول وخطابة، أو تسجيل مواقف عاطفية حماسية، أو فن مقامرة وإحباط، لا فن عمل وممارسة، فيقف الداعية على المستوى الصوتي، وينفخ في الجماهير الأفكار الهلامية المثالية، ويصدر الأفكار الخيالية الشمولية، البعيدة عن ملامسة حاجيات الناس ونوازعهم، فتضيع العلاقة بين الصوت والصدى.
لماذا تكثر التجارب، ولكنها تذهب هباء منثوراً؟ أليس ذلك لأن منهاج الإصلاح صارم متصلب خيالي، يقفز في الهواء، ولا يدرك ما هو ثابت من الدين، من ما هو متحول متقلب، ولذلك يعجز عن إنتاج الأفكار التي تعالج الواقع. لأن فصم علاقة براءة الذمة بالنجاح، يؤصل النرجسية واحتكار الصواب، ويؤدي ذلك إلى الإحباط، فيفضي أخيراً إلى الانغلاق والتزمت.
من أجل ذلك لا ينبغي إساءة الاستدلال بالنصوص الدينية، لضرب سنن الله الاجتماعية والنفسية في البشر.
وقد يحفظ بعض الناس مدونات كثيرة، وقد يقرأ تراثا كثيراً، ولكن الرسوخ في فهم الشريعة، لا يكون إلا بالممارسة والاحتكاك، وامتزاج التجربة العلمية بالعملية معاً. وقد يظن المرء أنه حري بالصواب، بسبب تخصص أو كثرة قراءات أو كتاباته، أو كثرة جمهور وأتباع، فيعفي نفسه من مبدأ المحاسبة، ويهمل النقد الذاتي عندما يفشل، لأن ذهنه يصور له أنه على صواب. لماذا؟ لأن النظام المعرفي، الذي ورثناه من ثقافة ما بعد الراشدين، له دور كبير، في تضليلنا، عن المفاهيم الشرعية التي تربط بين الجهد والجدوى. وقد دمر هذا النظام عقلانية الأمة وروحها العملية، ونحن نرث اليوم هذه العقلية المقفلة عن الاستفادة من التجارب، التي تقدم فضيلة الصبر والتضحية، من دون أن تدرك أن الفضل ليس لمن خسر ولو صبر، إنما الفضل لمن نجح وعبر. فكم خسرت هذه الأمة، بسبب جهود صالحين متحمسين خياليين، لم يسيروا على الأرض هونا؟
هذا الإخفاق والاحباط، يفضي إلى تبرير عملي، لمواقف أولئك المروجين لمفهوم الإنكار بالقلوب هذا المفهوم التأويلي للدين، الذي جعله الخاملون، تكية للتقوقع والسكون، فتخلوا عن دورهم، وزعموا أن الوقوعية في الواقع هي أضعف الإيمان، وهو تأويل صارخ، لمفاهيم الدين في الإصلاح، لا يتسع المجال لبسطه.
تحرير مصطلح براءة الذمة من الأوهام
عندما تربط براءة الذمة، بالعائد والجدوى والنتيجة، يعقلن العاطفيون مشاعرهم، ويلجم المتهورون أفراسهم، ويمشي الخياليون على الأرض هونا، لكي يزنوا الأمور بنتائجها، لا بمقاصدها المجردة. فيضعون النقاط على الحروف، ويدركون أن التضحية والفداء والصبر والشجاعة، ليست فضائل مطلقة، إنما تكون فضائل بما لها من نتائج، مادية أو معنوية، حاضرة أو مستقبلية... وليست مشروعة بهدف ذاتي، يخص به الإنسان نفسه بأن يسعى إلى الجنة، بل هي مشروعة لهدف اجتماعي، وهذا أمر يغيب عن بعض المتحمسين، فكل عمل يهدف إلى إصلاح المجتمع، فإنما الفضل فيه لمن فكر فظفر، لا لمن خسر ولو صبر. فالجهاد كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهدف إلى الاصلاح الاجتماعي، وكل عمل اجتماعي، فهو مرتبط بنفع المجتمع، لا بنفع الذات. إذا ارتبطت براءة الذمة بمراعاة النتيجة، أدرك المتحمسون للإصلاح، أن مراجعة الخطوات، لا تنافي الصبر والثبات، وأن إبراز النموذج الذي يؤدي إلى استيعاب الواقع، خير من النموذج الذي يقفز فوق أسوار النواميس الاجتماعية، لأن القفز يؤدي إلى السقوط الكارثي.
ليس هذا دعوة إلى ترك الأمر بالخير والنهي عن الشر، ولكنه دعوة إلى فهم الإسلام ومنهجه في التغيير والإصلاح، وإلى استنطاق عبر التاريخ القديم والمعاصر، وإلى البدء من حيث انتهى الذين جربوا، وإلى فهم القوانين الاجتماعية والنفسية، فمن لم يفهمها، لن يفهم من الدين شيئاً، ولو درس ما درس.
ولكنه دعوة إلى تجنب التخندق ببراءة الذمة والصدع بالحق، وتبرئه النفس من الخطأ، وإلى إعتبار أي عمل اجتماعي، إنما هو تجربة في الحقل، والتجربة يمتزج فيها الخطأ بالصواب، ومن أجل ذلك لا بد من الحساب، فالخطأ ينتج تداعيات من الأغلاط، إذا أغلق الإنسان ذهنه، والتجربة تنجب الصواب، عندما تتراجع إلى الوراء، عندما تنغرز عجلات السيارة في الرمال، ويكتشف السائر وظيفة الريوس في السيارة، كما قال أحد العلماء، وبذلك يدرك أهل الحسبة، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، كيف ينجحون بحسبان النتائج، لا بحسبان الدوافع، من دون أن يتخندقوا في خندق براءة الذمة، والإخلاص والتضحية والحماسة.
ويدرك أصحاب أضعف الإيمان أيضاً، أن كلمة الحق لا غنى عنها، عند السلطان الجائر أو العادل، ولكنها كلمة حق وعدل وخير، أي رصينة عادلة سلمية عاقلة عملية، وليست الكلمة الناشزة، التي تقفز فوق الامكان الاجتماعي، وليست الموقف الوعظي العابر الذي يسجل في كتب التاريخ، من دون أن تكون له جدوى أو صدى، وأنها هي التي تجعل ثقافة الاصلاح منتشرة بين الناس، حتى تكون قيما وأعرافاً، يدرك بها كل إنسان أن له دوراً، وهذا يعني أن الثقافة الإصلاحية، هي أساس النهوض بالمجتمع، وأنها هي التي تستحق النضال والتضحية، وأنها هي الخطوة الأولى، في غرس قيم الإصلاح السلمي، وأن بين الغرس والثمار، مسافة زمنية تخضع للتربة والمناخ والرياح، وجودة البذور، والمعرفة بطرق السقي بالتنقيط. فالاصلاح الاجتماعي، يحتاج على كل حال إلى شرطين: حرارة العقيدة، وإنارتها والبصيرة بالحقل الاجتماعي، فاذا افتقد الناس الحرارة أو الاستنارة، في النص أو افتقدوا الحس الجغرافي جيروا الفرص السانحة إلى خسارة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.