شهدت مصر الدولة المعاصرة بزوغ شمس القرن ال 21 واحتفلت مع بقية دول العالم المعاصر بدخول الألفية الثالثة بينما شهد العالم احتفالها على ثرى هضبة الهرم بدخول الألفية السابعة لتؤكد للعالم أنها صاحبة أعرق أمة، دولة، حكومة وحضارة عرفها التاريخ. وعلى رغم أن مصر قد شاركت بدرجة ما في قيام الحضارات الكبرى في العالم فإنها في الوقت ذاته صاحبة أعتى مركزية عرفها التاريخ وأقدم بيروقراطية عرفتها البشرية وقاهرتها يتكدس داخلها وحولها ربع سكان الدولة بكل ما يحمله ذلك من مخاطر اقتصادية، اجتماعية، بيئية وأمنية. لقد استطاع المصريون أن ينجزوا الكثير خلال القرن العشرين مثل: تحقيق الاستقلال الوطني وتبؤ مكانتها التقليدية في المجال الثقافي، وتحقيق انجازات اقتصادية لا بأس بها، وتحقيق كسب السبق في المجال الدولي بحصول أبنائها على جوائز نوبل في الآداب والكيمياء والسلام. وعلى رغم هذه الانجازات المصرية استأثرت قضية الاستقلال والبقاء القومي بمعظم سنوات القرن العشرين ولم تترك إلا القليل للتحديث وتطوير للنموذج المصري الذاتي للتقدم العصري على نحو ما حدث خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وعلى رغم الانجازات الاقتصادية خلال العقد الأخير فإن أمام المصريين الكثير للحاق بركب الدول المتقدمة اقتصادياً. ولا تزال مصر في عداد دول العالم الثالث "متوسطة الدخل" حيث تأكل أكثر مما تنتج وتستورد أكثر مما تصدر، كما انها لا تزال مدينة للعالم الخارجي. والواقع ان هناك أسباباً أفرزت تلك الظاهرة أهمها ان طاقة الشعب المصري وحكوماته المتعاقبة خلال القرن العشرين قد استنزفت في مقاومة الاحتلال الأجنبي أو التهديد الخارجي حيث كان الهدف في الحالة الأولى تحقيق الجلاء والمطالبة بدستور للبلاد بينما تركز في الحالة الثانية على تعبئة الموارد والطاقة البشرية لمواجهة التهديدات التي حاقت بالأمن القومي المصري. وعلى رغم التوصل الى اتفاقية سلام مع اسرائيل عام 1979 فما زال هناك الكثير لتحقيق أمن واستقرار الشرق الأوسط وفي مقدمه ذلك الاحتفاظ بالتواصل المصري مع مشرقها العربي والحيلولة دون قيام توازنات شرق أوسطية جديدة من شأنها تهميش الدور المصري أو الاضرار بالمصالح القومية المصرية. لقد أدى قيام دولة اسرائيل في منتصف القرن العشرين الى خلق أبعاد جديدة للمعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط عامة وفي المشرق العربي على وجه الخصوص. فالمعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط على مر العصور القديم، الوسيط، الحديث احتفظت لمصر بمركز القوة الاقليمية في المنطقة القادرة على خلق التوازن بين وحداته والتصدي لأي هجوم أو هيمنة تستهدف الاقليم. لقد صدقت هذه المعادلة في العصر القديم الذي دام آلاف السنين وبصفة خاصة خلال فترة الرعامسة كما صدقت خلال العصر الوسيط عندما أصبحت مصر قطب الرحى في دولة الخلافة الاسلامية أو الامبراطوريات الاسلامية المتعاقبة: الأموية، العباسية، والعثمانية. فالدور المصري سواء في الدولة الطولونية، الاخشيدية، الفاطمية، والمملوكية كان أوضح تعبير عن هذه المعادلة الاستراتيجية. ولعبت مصر نفس الدور عندما كانت ايالة عثمانية مع بداية العصر الحديث خلال حكم علي بك الكبير وتأكد الدور خلال ولاية محمد علي باشا ابتداء من 1805 وحتى 1841. وإذا كان التاريخ قد شهد فترات فقدت مصر فيها ذلك الدور بسبب صعود قوة منافسة برية من داخل الاقليم أو برمائية من خارجه فقد استطاعت أن تستعيد هذا الدور على وجه السرعة. وكانت مصر - وما زالت - قطب الرحى لمشرقها العربي ونقطة الارتكاز مع وجود قوى الحافة الاقليمية تركيا - ايران. والثالوث الاقليمي الشرق أوسطي مصر - ايران - تركيا يمثل نقاط الارتكاز للتوازن في منطقة الشرق الأوسط. وقد شهدت المنطقة - بعد هزيمة يونيو 1967 - تحولاً دراماتيكياً أضاف قوة رابعة هي اسرائيل حيث أتاح لها انتصارها العسكري في حرب يونيو 1967 القدرة على التحكم في التوازن الاقليمي والسعي نحو محاولة التأثير في التوازن الاستراتيجي الكوني عام 1972 الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من خلال التحكم في التوازن الاقليمي حيث صدر بيان قمة موسكو بين نيكسون وبريجينيف بالمطالبة بإبقاء "حالة الاسترخاء في الشرق الأوسط" على رغم استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية. وجاءت حرب اكتوبر 1973 لتعيد التوازن في المنطقة إلا أنها من خلال معادلة جديدة وقواعد استراتيجية مستجدة وعصر يتسم بالعولمة ونظام عالمي جديد ما زال هيكل قوته في مرحلة التشكل. وإذا كانت مصر تواجه في بداية القرن الحادي والعشرين تحديات داخلية فانها تواجه في نفس الوقت تحديات اقليمية Regional ودولية International تتطلب استجابة فكرية وحركية في آن واحد. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورات ثلاثا غيرت شكل العالم ومجرى التاريخ هي: 1- ثورة العلم والتكنولوجيا والاتساع المذهل لشبكة المعلومات الانترنت. 2- ثورة المواصلات التي تكاد أن تلغي البعد المكاني. 3- ثورة الاتصالات باستخدام الأقمار الصناعية التي تكاد تلغي البعدين المكاني والزماني. وفي نفس الوقت شهد العقد الأخير من القرن العشرين نهاية الحرب العالمية الثالثة دون قتال عسكري ومعها الحرب الباردة بين الغرب والعالم الشيوعي وذلك بانهيار المعسكر الشيوعي وتقاطر دوله لتنضم الى الغرب وتحاكي نظمه وتتبنى قيمه وعقائده. وخلال العقد الأخير ذاته من القرن المنصرم قدم الفكر الغربي نظريتين مختلفتين حول شكل العالم خلال القرن الحالي وطبيعة العلاقة التي ستربط الغرب بدول الشرق ومن بينها مصر وهو ما يستوجب أيضاً الاستجابة الفكرية والتأمل العقلي. فقد جادل المفكر الأميركي "فوكياما" ان الهزيمة التاريخية للشيوعية وانتصار الديموقراطية الليبرالية يعنيان نهاية التاريخ وأن جميع دول العالم باختلاف ثقافاتها سوف تلحق وحضاراتها - عاجلاً أم آجلاً - بقطار الليبرالية. ويجادل المفكر الأميركي أنه في الوقت الذي تخطت الدول الغربية التاريخ بسبب تبنيها الليبرالية وقيمها الاجتماعية والسلوكية فإن العديد من دول العالم الأخرى ما زال حتى الآن غارقاً في التاريخ. ومن جانب آخر طرح المفكر الأميركي "هنتنغتون" نظريته عن صدام الحضارات حيث جادل بأن الصراعات الدولية خلال القرن الحالي سوف يكون موضوعها خطوط التقاطع الثقافية التي تفصل بين الحضارات لتحل محل خطوط التقاطع السياسية والايديولوجية التي سادت خلال فترة الحرب الباردة. ويرى أن صداماً سيقع بين الحضارتين الغربية والاسلامية خلال القرن الحالي. والتحديات الدولية لمصر الغد لا تقف عند حد الثورات العلمية أو النظريات والتأملات الفكرية وانما تتخطاها الى المخاطر الناجمة من التحركات الاستراتيجية اقليمياً ودولياً ومحاولات تحديد شكل هيكل القوة في الشرق الأوسط ومكانة كل دولة في نظام العولمة الآخذ في التشكل. ومكمن الخطر في أن العالم يشهد في الوقت الراهن عملية تشكل نظام عالمي جديد يتسم هيكل قوته بالليونة مع غياب قواعد واضحة الأبعاد للشرعية الدولية. ويقف جميع القوى غير الغربية موقف الترقب والحذر حيث تبدو روسيا في وضع حرج من الناحية الاقتصادية وتحاول اثبات وجودها في السيطرة على أطراف روسيا الاتحادية الشيشان بعد أن تهاوت الامبراطورية السوفياتية وذلك في مواجهة الهجوم الكاسح لحلف شمال الأطلسي، بينما يلملم المارد الأصفر قواه الصين - اليابان ليمارس دوره في القرن الحالي. لقد بات واضحاً ان مصر ستواجه مع بداية القرن الحادي والعشرين تحديات قومية ودولية عليها أن تعد العدة لمواجهتها إذا أرادت ان تحتفظ لنفسها بالمكان اللائق بها بين الأمم والشعوب. ونورد أهم هذه التحديات على النحو الآتي: 1 القضاء على الأمية التي هي وصمة في جبين أقدم شعوب الأرض وأعرق حضارة. 2 إعادة توزيع السكان على مختلف أرجاء التراب الوطني وتنفيذ مشروع الوادي الجديد في جنوب مصر، وتعمير سيناء والساحل الشمالي ومنخفض القطارة والمشروعات المماثلة. 3 حتمية نقل العاصمة من القاهرة الى مدينة يتم انشاؤها لتكون نواة اقليم مصري عصري يساير آخر ما بلغه التقدم البشري ويراعي الاعتبارات الاستراتيجية. ولعل المشاكل البيئية التي بدأت العاصمة في مواجهتها هذا العام تشكل حافزاً لاتخاذ هذا القرار القومي. 4 إعادة بناء القرية المصرية على أسس عصرية تأخذ في اعتبارها الأبعاد الحضارية والبيئية. 5 تعديل وتصويب مسار المجتمع من خلال تغيير بعض الأنماط والمفاهيم الاجتماعية السائدة التي تمثل عائقاً لرقي وتقدم المجتمع. 6 تحقيق الانطلاق الاقتصادي من خلال ايجاد قطاع اقتصادي قائد يقود التقدم الاقتصادي ويحقق نسبة عالية من النمو من خلال التمتع بميزة اقتصادية نسبية. 7 تحديد موقف الاقتصاد المصري في مواجهة التكتلات الاقتصادية الكبرى وأسس وأساليب التعامل معها، خاصة وأن البدائل أصبحت عديدة والخيارات مطروحة من عدة أطراف وفي مقدمها التكتل الاقتصادي العربي. 8 تحقيق التوازن بين التقدم العلمي، والفني، والاقتصادي من جانب والتقدم الاجتماعي والسياسي من جانب آخر. 9 تحقيق أكبر قدر من المشاركة السياسية الشعبية لمختلف الفئات والطبقات. 10 الاتفاق على عناصر واضحة للمصلحة القومية المصرية ومبادئ محددة للأمن القومي المصري. وفي مواجهة التحديات يثار السؤال التقليدي: كيف تتم الاستجابة الآمنة لمواجهة التحديات وما هي الأدوات الكفيلة بتحقيق ذلك؟ والرأي عندي أن الحل لن يكون سياسياً وان كان توافر الإرادة السياسية شرطاً أولياً للتوصل الى الحل الآمن؟ ان المجتمع المصري، وأجياله المعاصرة، مدعو لمواجهة التحديات وتحديد أسلوب الاستجابة مع بزوغ شمس عام جديد وقرن جديد وألفية جديدة وحقائق جديدة في الشرق الأوسط. * باحث سياسي مصري