ما سبب هذا الصعود والهبوط في "بورصة استئناف المفاوضات" على المسار السوري، واستطراداً على المسار اللبناني؟ الانطلاقة عند الرئيس الاميركي لكنه يحجم عن الاقدام عليها، الا بموافقة اسرائيل، واسرائيل وضعت شروطاً جديدة تقول الادارة الاميركية انها تعمل لإيجاد "صيغة" لتذليلها. وفي الأيام الأخيرة عكست الصحف العبرية وتصريحات مسؤولين اسرائيليين نوعاً من التصعيد اللفظي، الذي لا ينتقد المواقف السورية فحسب بل يضيف اليها انتقادات للرئيس السوري و"نياته" السلمية ورد بعضها على لسان المرشح لجائزة نوبل للسلام ! عازر وايزمان. لكنه تصعيد في اطار التفاوض على كيفية التفاوض، وشيء من الحرب النفسية بين طرفين يستعدان للنزال التفاوضي. يسعى ايهود باراك، الذي كان شارك في مفاوضات الترتيبات الأمنية، الى انتزاع تغيير في المنهج السوري للتفاوض. فهو يعلم ان ذلك المنهج كان دفع سلفه اسحق رابين الى تقديم تعهد بالانسحاب من الجولان الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، وان هذا التعهد الذي تسميه دمشق "وديعة" موثق عند الادارة الاميركية. وخلافاً لبنيامين نتانياهو الذي ابدى منذ لحظته الأولى في الحكم اعتراضه على تلك "الوديعة" وعدم اعترافه بها، فإن باراك لا ينكرها لكنه يعتبرها مجمدة الى ان يحصل على ثمن تحريكها، والثمن هو ما عبر عنه بالالحاح على لقاء مع الرئيس السوري، وعلى تفاوض مباشر مشابه للذي يحصل مع السلطة الفلسطينية. لكن "التجميد" المفروض على الوديعة، بالاضافة الى جملة مواقف اسرائيلية مخالفة لمفهوم التعهد بالانسحاب، اشعرت دمشق بأن باراك يريد ان يعيد التفاوض من نقطة الصفر. وبذلك فهو لا يختلف عن نتانياهو الا بأنه اعاد صياغة سلبية الزعيم الليكودي السابق في قالب ظاهره ايجابي. وهكذا، تعود الكرة الى "الوسيط" الاميركي الذي شارك في كل مراحل التفاوض السابقة، ويملك الأوراق التي تخول اليه اعادة تحريك المسار، لكن هذا يتطلب منه موقفاً لا ترغب اسرائيل في سماعه. عندما قال وزير الخارجية السوري، امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ان الاعتراف ب"الوديعة" ليس شرطاً مسبقاً لاستئناف التفاوض، فالارجح انه كان يرد على ادعاء اسرائيلي. فأن يطالب طرف طرفاً آخر باحترام تعهده لا يعني انه يفرض عليه شروطاً، وإذ يتصرف باراك كأنه لم يعرف اية ظروف وأسباب جعلت رابين يقدم تعهده فإنه لا يريد فعلاً استئناف المفاوضات "من حيث انتهت". اذن، ثمة عقدة ومن الواضح ان باراك يفتعلها بناء على "اعادة نظر" في تعهد رابين. اي انه لا يحترم هذا التعهد ولا يعتبره خياره في اكمال التفاوض مع سورية. اي انه يعود الى موقف نتانياهو. مشكلة اسرائيل مع المنهج السوري للتفاوض بدأت منذ اليوم الأول. وفي المراحل الأولى كان هذا المنهج مشكلة للأميركيين أيضاً. لماذا؟ لأنه يناقض المفاهيم الاسرائيلية - الاميركية المشتركة ل"عملية السلام"، لكنه مع ذلك يستند الى منطق قانوني - حقوقي اي انه لا يخرج عن حدود ما هو متفق عليه في ما يسمى "صيغة مدريد" وقد درج التعبير عنه ب"الأرض مقابل السلام" وبالقرارات الدولية كمرجعية لأي اتفاق سلام. وكل ما هو خارج هذه الصيغة ما لبثت دمشق ان ابدت فيه كل المرونة، سواء في ما يتعلق ب"التزامات" في القضية الفلسطينية، او حتى ببحث مسبق في "ترتيبات" امنية - استراتيجية للمنطقة. لذلك لم يعد هناك مجال للمساومة لأن الهدف السوري من التفاوض هو استرجاع الأرض لقاء "متطلبات السلام". ستكون هناك صيغة لاستئناف التفاوض، عندما تقتنع اسرائيل بوجوب التخلي عن الاعيبها الراهنة التي بنتها على افتراضات أهمها ان سورية "مستعجلة" لأسباب تتعلق بترتيب بيتها الداخلي. في المقابل كانت دمشق بنت توقعاتها ايضاً على افتراضات أهمها ان باراك آتٍ بمشروع سلام ولم يصدر منه حتى الآن سوى مجرد تكتيكات. اذن، توقعات مبالغة من الجانبين صنعت هذا التأخر لكنه لن يدوم.