هناك تطور فقهي واقتصادي/ اجتماعي مهم في المجتمع الاسلامي حصل في مطلع العصر الحديث، ألا وهو وقف النقود. وعلى رغم أهمية هذا التطور، الذي يعتبره ج. ماندفل. بحق من أهم الاسهامات العثمانية في الحضارة الاسلامية، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام المتوقع في الدراسات الحديثة التي تتناول المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة العثمانية. ومن حق ماندفل أن يستغرب أكثر تجاوز الباحثين المختصين جب وبون لهذا الموضوع المهم في كتابهما المعروف "المجتمع الاسلامي والغرب"، الذي أصبح مرجعاً أساسياً عن الدولة العثمانية لعدة أجيال من الباحثين خلال ال50 سنة الأخيرة. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن كتاب مكسيم رونسون "الاسلام والرأسمالية"، الذي طبع مراراً وتكراراً، وغيره من الكتب. وإذ قلنا هنا ببساطة ان الأمر وقف النقود يتعلق بسبق تاريخي منذ 500 سنة نشأت عنه "بنوك اجتماعية" رائدة، أدركنا مغزى هذا الأمر للعالم الاسلامي المعاصر الذي يتخبط منذ مئة عام من أيام محمد عبده وبكر الصرفي في موضوع تشغيل الأموال، وتحديداً في "الربا" و"الربح" و"العائد" و"الفائدة" الخ. ومن هنا يصبح مستغرباً أكثر "تجاهل" هذا التطور الفقهي والاقتصادي/ الاجتماعي كل هذه السنوات، بل كل هذه العقود، في المنطقة العربية أو في اللغة العربية. فطالما ان هذا التطور وقف النقود بدأ في البلقان قد لا يعد من المستغرب أن يثير ذلك اهتمام الباحثين وأن تنشر عنه الدراسات منذ النصف الأول للقرن العشرين. وفي هذا الاطار لا بد من ذكر كتاب الباحث البوسنوي عثمان سوكولوفيتش "حول القروض في البوسنة خلال الحكم التركي 1463 - 1878"، الذي نشر في ساراييفو في 1944. وحظي الموضوع باهتمام باحث بوسني آخر، عبدو سوتشسكا، الذي نشر دراسة مهمة عنه في سنة 1954. وفي الواقع كان غنى المنطقة بالأوقاف وراء تطور هذا الاهتمام الذي أثمر دراسات قيمة، إلا أنها بقيت شبه مجهولة لأنها نشرت في لغة غير معروفة بما فيه الكفاية البوسنية. وفي ما يتعلق بالأناضول، الذي عايش بدوره هذا التطور بعد انتقال عاصمة الدولة أدرنة الى هناك اسطنبول بدأ الاهتمام الجدي بهذا الموضوع مع الباحث التركي عمر لطفي برقان في منتصف الستينات ومطلع السبعينات الى أن نشر الباحث الأميركي جون مندفل دراسته المرجعية "المردود الخيري للربا: الخلاف حول النقود في الدولة العثمانية" في سنة 1979. ومع أن ماندفل انتهى في دراسته، المنشورة في هذا الكتاب، الى شبه تسليم بعدم انتشار هذا النوع من الوقف في البلاد العربية، وهو ما تحول الى شبه اقتناع لدى غيره من الباحثين، إلا أن الوقائع تؤكد انتقال هذا النوع من الوقف الى بلاد الشام على الأقل، وذلك من حلب في الشمال الى القدس في الجنوب. وإذا كان الوقف عموماً توسع عبر ألف سنة ليصبح المرادف للاسلام في كل مكان، والاطار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والانساني الذي يوفر الخدمات الأساسية لمن يستحقها من دون مقابل، فإن وقف النقود خصوصاً فتح آفاقاً جديدة ومهمة في المجتمعات المسلمة. فعلى رغم تحريم الربا فإن تطور التجارة مع اقاليم العالم، خصوصاً بعد امتداد السلاجقة نحو الأناضول والازدهار التجاري الجديد للمنطقة كجسر بين الشرق والغرب، لم يعد ممكناً تطور التجارة من دون تطور أشكال جديدة للمعاملات المالية. وهكذا بعد "الحيل" التي أراد منها البعض الالتفاف حول تحريم الربا، تطور الأمر الى التساهل إزاء تشغيل الأموال بالفائدة طالما أن هذه الأموال تعود الى جهة خيرية الأوقاف وطالما ان هذه الفائدة تصرف للمحتاجين. ويذكر ان هذا التطور وقف النقود برز على الأرض في مطلع القرن الخامس عشر على الأقل، وفرض نفسه حوالى مئة عام الى أن اقتنع كبار الفقهاء في الدولة العثمانية بجدواه وشرّعوه من خلال الفتاوى والرسائل. ولكي ندرك أهمية هذا التطور الميداني/ الفقهي، الذي يعتبره ماندنل "ثورة في الفقه الإسلامي"، لا بأس من أن نذكر أن المسيحية لم تكن أقل صرامة في تحريم الربا من الاسلام خلال ألف عام. فاستناداً الى الانجيل انجيل لوقا 6/35: "اقرضوا وأنتم لا تربحون شيئاً" الخ جاء يوحنا فم الذهب توفي 407م بموقف متشدد أكثر ليعرقل أي تطور للتجارة، وخصوصاً بعد أن أصبح موقفه جزءاً من "مجموعة القوانين الكنسية" التي جمعت حوالى سنة 1150م. ومع أن القديس توما الاكويني حاول أن يخفف من صرامة كلمات يوحنا فم الذهب إلا أن القديس انطونيو كان هو الذي خطا الخطوة الأولى نحو تليين الموقف الصارم للكنيسة، الذي لم يعد ينسجم مع تطور التجارة. وهكذا بعد ألف عام من الازدراء الكنيسي للتجارة جاء القديس انطونيو ليقول "ان التجارة في ذاتها شيء محمود إذا اقتنع التاجر بكسب شريف يضمن له الكفاف من العيش، بحيث إذا زاد كسبه عن ذلك وجب عليه توزيع فائض دخله على الفقراء". وبعبارة أخرى ارتبط هذا التساهل الأول مع التجارة بتوزيع الفائض من العمل فيها على الفقراء والمحتاجين، وهو ما نلمسه لاحقاً في وقف النقود. وبعد بروز "وقف النقود" في البلقان وانتشاره في الزمان والمكان حتى المناطق المجاورة لامبراطورية الهابسبرغ جاء الاصلاح الديني على يد مارتن لوثر، الذي قيل الكثير عن تأثره بالاسلام العثماني، وزونغلي وكالفن ليحل هذه العقدة في المسيحية بعد أن صارت القضية حياة أو موتاً بالنسبة للتجارة الأوروبية. وهكذا سمح لوثر بتشغيل الأموال العائدة للكنيسة بالفائدة طالما أنها لجهة عامة. وهو ما يذكرنا هنا مرة أخرى بوقف النقود، وسمح زونغلي وكالفن 1509 - 1562 ل"المؤمنين" بعد ذلك بتشغيل الأموال بالفائدة ما جعل الرأسمالية تنمو في كل مكان تنتشر فيه البروتستانتية الكالفينية. وبالمقارنة مع الموقف المسيحي الأوروبي كان الموقف العثماني سبّاقاً في كل مجال. فالأصل في الوقف تحبيس العين وتسبيل المنفعة، كما ان الأصل في الوقف غير المنقول العقار ثم جاز وقف المنقول الأسلحة، آلات الزراعة، الكتب الخ حتى وصل الأمر الى النقود في مطلع القرن الخامس عشر. وهكذا عوضاً عن وقف أرض أو دار يعود ريعها الى خدمات مجانية تعليم، صحة، اطعام المحتاجين الخ أصبح يوقف الآن مبلغ من المال يشغل بفائدة محددة 10-11 في المئة تصرف للغرض نفسه. ومع أن الوقف كان يلعب دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية لتلك المناطق بلاد البلقان إلا أنه أصبح يلعب الآن دوراً أكبر بعد أن تحولت الأوقاف الى مؤسسات مالية أو بنوك ذات طبيعة خاصة. وأصبحت الأوقاف الآن تقدم القروض الصغيرة والمتوسطة والكبيرة للحرفيين والتجار بفائدة مقبولة تعود للمجتمع، إذا صح التعبير وليس بفائدة ربوية 25-40 في المئة تعود للأفراد، وتساهم بذلك في تنشيط الحياة الاقتصادية الاجتماعية للوسط المحلي. ويلاحظ انه مع هذا التطور الذي قام على مفهوم جديد لتشغيل المال العام، تم تجاوز مصطلح "الربا" الى مصطلح آخر "الربح"، الذي أصبح يستخدم في دفاتر الأوقاف من دون حرج. وفي الواقع ان هذا التطور في المفهوم والمصطلح يوضح كم كان يفصلنا عن القرن العشرين. ففي القرن الماضي، أي بعد حوالى 500 سنة من هذا التطور، انشغل الفقهاء/ الائمة منذ محمد عبده وبكر الصرفي وحتى محمد شلتوت وسيد طنطاوي بالربا والبديل المناسب له لينتهي البعض منهم الى اقتراح مصطلح "ربح" أو "عئاد" بدلاً من مصطلح "الفائدة" المرتبط في الأذهان بالربا. ومع أن هذا "التطور" جاء في وقت أضحت فيه مئات البلايين في البنوك الغربية حوالى 700-800 بليون دولار حسب التقديرات المختلفة، إلا أنه لحسن الحظ لدينا في الآفاق مبادرات مشجعة الى استلهام أفضل لهذا التراث المتمثل في وقف النقود. فالوقف ليس حبساً للثروة وتجميداً لمواردها كما يشاع، وانه في النهاية لا بد من التعرف على أبعاد هذه التجربة التاريخية الرائدة وقف النقود، التي لا تزال قابلة للاستلهام. وليس مصادفة ان وريثة الدولة العثمانية تركيا حدثت هذه التجربة في المجال الثقافي بواسطة "وقف الديانة" الذي حقق انجازات كبيرة جديرة بالتقدير. فمسألة "وقف النقود" لا تمثل الماضي فقط بل المستقبل الواعد أيضاً. * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت، الأردن.