لا تزال قضية الفائدة المصرفية والربا قضية خلافية بين علماء المسلمين، الأمر الذي أفضى إلى نشوء المصارف الإسلامية وتكاثرها وتوسعها من دون أن تستند إلى تراكم أبحاث معمقة وكافية في الاقتصاد الإسلامي، ما جعل معظم هذه المصارف لا تتجاوز منزلة الوساطة المالية، من دون أن تحقق مقاصد الشريعة في تجنب الربا أو تقديم قيمة مضافة إلى المجتمع، وذلك بعد أن حصرت نفسها في المرابحة، وتفادت الخطر المرتبط بالمضاربة، على حد تعبير صالح كامل، رئيس مجموعة «دلة البركة» التي تتعاطى الصيرفة الإسلامية. يقدم الباحث الكويتي حامد الحمود العجلان في كتابه «الربا والاقتصاد والتمويل الإسلامي رؤية مختلفة» (مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت - 2010)، أطروحة نقدية لهذه المصارف، مركزاً على المصارف الإسلامية في الكويت كحالة مرجعية. وانطلاقاً من تأثير القيم الدينية في السلوك البشري عموماً، وفي السلوك الاقتصادي بخاصة، يبحث العجلان مسألة الربا من وجهة نظر اليهود والمسيحيين والمسلمين، ويعرض تطور وجهة نظر الكاثوليك في شأن الربا. فقضية تحريم الفائدة والخلاف حول ما يمكن اعتباره معاملة ربوية، ليس أمراً ينفرد به الإسلام، فقد كانت الشعوب، على اختلاف أديانها وثقافتها، تنظر بالإجماع إلى ممارسة الربا بازدراء. وعلى رغم أن المسيحية تحرم الربا، فقد ظل النقاش، على مدى قرون، حول ما إذا كانت فوائد المصارف معاملة ربوية، ومثل نقطة خلاف جوهرية بين الكاثوليك والبروتستانت. ولم يتم حل الخلاف بين الطرفين حول الربا، لكن الأمر فقد أهميته بسبب انحسار التأثير الديني في الغرب، وغياب تأثيره لاحقاً في سلوكيات العمل التجاري. وكان أعلن الحظر الكنسي العام للربا من قبل البابا في العام 1179 الذي صرّح بأن المسيحيين الذين يوافقون على الربا هم مذنبون بالكسب المخزي. كما اعتبر القديس توما الاكويني أن الربا ظالم، لأنه يعني سداد دين لم يقع في السابق، مشيراً إلى أن العهد القديم ساوى بين الربا والابتزاز. كما أن معالجته للصيرفة كانت مشابهة لما يقوم به مؤيدو الصناعة المصرفية الإسلامية اليوم. فقد اعتقد أن بديل الربا هو الاستثمار بواسطة المضاربة، اي تزويد قرض والتشارك في الربح مع المدين. ورأى أن الدائن يحق له أن يطالب بجزء من الربح الناتج عن استعمال ماله. ومثّلت وجهات نظره دفاعاً مبكراً عن عقود القروض التي تم الترويج لها لاحقاً من قبل المصرفيين الإسلاميين. كان كالفن (ت 1564) المجتهد المسيحي الأكبر في إعطاء تفسير عقلاني لسببب تحريم الربا، إذ تمكن من تشكيل فكر جديد، فلم يقصر الربا على تعريف جامد، لكنه حدده بمدى الضرر الذي يلحقه بحياة الناس العاديين. كان اعتقاده بأن «الربا يعد إثماً إذا آذى جارك فقط». ففي حين كان ضد الربا الذي يؤذي الجار، ويحض المؤمنين المسيحيين على تقديم قروض من دون فوائد للفقراء، فقد تمكن من التخلّص من الموقف الازدرائي تجاه إقراض المال، بتعرّفه الى العلاقة بين توسّع الإنتاج وتوافر الائتمان. وكانت أول حكومة إسلامية تضطر إلى التعامل مع قضية الصناعة المصرفية والفوائد المصرفية هي الحكومة العثمانية التي سنّت في العام 1887 قانوناً يثبت سعر الفائدة عند التسعة في المئة. ونص هذا القانون على أن الفوائد الكلية المدفوعة يجب ألا تتجاوز رأسمال الدين. وكان من المعتقد أن هذا الاشتراط يستشهد بالآية القرآنية التي تضفي الدقة على تحريم الربا: (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة). وقد التزمت أغلب الحكومات الإسلامية الحديثة ببعض تعديلات هذا القانون، وكان يترك في بعض الحالات للقاضي تقرير ما إذا كانت معاملة مالية ما تحمل الربا في سياقها أو لا. وطبقاً لإجماع المذاهب السنّية الأربعة الرئيسة، فإن التعريف العام للربا هو: «مقايضة سلعتين من النوع نفسه بكميات مختلفة، حيث لا تمثل الزيادة تعويضاً مناسباً». وقد حدد هؤلاء الفقهاء أنفسهم أيضاً نوعين رئيسين من الربا: الأول ربا النسيئة الذي يعني حرفياً «أن ينسأ أي يرجأ»، ويسمى الثاني ربا الفضل الذي يعني تفضيل سلعة من النوع نفسه، ولكنها أفضل في الجودة. ويشير النوع الأول إلى المدفوعات المؤجلة التي تزيد على رأس المال الذي تم إقراضه. ولأن هذا الربا يتعرف الى القيمة الزمنية للمال، تكون الزيادة على رأس المال مرتبطة بمدة السداد. وعندما تشترط الاتفاقية بين الطرفين أن يتم سداد القرض بالكامل أو على دفعات بزيادة على رأس المال، فيعتبر ذلك من ربا النسيئة. وقد اعتقد بعض الصحابة وبينهم عبدالله بن عباس، أن تحريم الربا مقتصر على ربا النسيئة، مستندين إلى رواية عن النبي (صلى الله عليه وسلّم): «لا ربا إلا في النسيئة». وبحسب العجلان، لم يعتبر أحد من الفقهاء أن النوع الثاني من الربا (ربا الفضل) محرّم، لكنهم نبذوا ممارسته لأنه قد يؤدي إلى ممارسة النوع الأول، أي ربا النسيئة. وقد تبنى الباحث المصري محمد سعيد الغشماوي وجهة النظر التي ترفض مساواة الفائدة المصرفية بالربا. ورأى أن آيات الربا تحرم مضاعفة الفوائد أضعافاً مضاعفة كي لا ينتهي الأمر باستعباد المقترضين. وشن في كتابه «الربا في الإسلام» (1988) هجوماً قوياً على رجال أعمال الصناعة المصرفية الإسلامية الذين أساؤوا إدارة مدخرات آلاف المصريين. أما شيخ الأزهر محمد سعيد الطنطاوي فكانت وجهة نظره حول الربا وعلاقته بالفائدة مخيبة لآمال المصرفيين الإسلاميين، فأعلن عام 2001، موافقته على إيداع الأموال في المصارف التقليدية واستلام الفوائد، معتبراً هذه الإيداعات كاستثمارات، ومفضلاً وصف الفائدة كدخل ناتج من الاستثمار. ورفض بشدة اعتبار تحديد سعر الفائدة سلفاً بأنه يجعل المعاملة ربوية. الاقتصاد الإسلامي في حين ينظر جميع مؤيدي الصناعة المصرفية الإسلامية إلى الفائدة، كما تفرضها المصارف التقليدية، على أنها ربا، فهذه ليست الحال في جميع أنحاء العالم الإسلامي، باعتبار أن كثيراً من المسلمين، بمن فيهم الخبراء القانونيون ورجال الدين، يختلفون في تفسيرهم لما يمكن اعتباره رباً. وأدت الصحوة الدينية بين المسلمين إلى زيادة الجدل حول الموضوع، وإلى جعل عدد أكبر من الناس في البلدان الإسلامية، وفي منطقة الخليج، بخاصة، يساوي بين فوائد المصارف والربا، ما خلق حاجة لتطوير التمويل الإسلامي كبديل للمصارف التقليدية. لا يمكن أن نعزل فكرة الاقتصاد الإسلامي عن ما مر بالعالم العربي من تغيرات فكرية وسياسية منذ نكسة العام 1967، والتي كانت هزيمة رمزية للفكر القومي بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، وكان البديل آنذاك الفكر الديني المدعوم من السعودية. وبدأ الفكر الاقتصادي الإسلامي في ستينات القرن الماضي مع كتاب»اقتصادنا» للمفكر الشيعي محمد باقر الصدر. لكن هدف الكتاب لم يكن تأسيس فكر اقتصادي إسلامي، بل مواجهة انتشار الماركسية في العراق، فقدم الصدر كتابه كبديل عن الرؤية الاشتراكية. ومنذ نشر ذلك الكتاب، لم يضف الباحثون الإسلاميون شيئاً كبيراً أو جديداً إلى الاقتصاد الإسلامي. وما جرى لاحقاً هو محاولات عدة من بعض الباحثين العرب لخلق مذهب اقتصادي إسلامي، وذلك بمساعدة وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية في دول الخليج بشكل عام. وكان للثورة الإيرانية في عام 1979 دور مؤثّر في تعزيز الفكر الديني، ما أسفر عن انتشار ممارسات اجتماعية حديثة نوعاً ما في المجتمعات الخليجية، وخصوصاً في الكويت. الصناعة المصرفية الإسلامية تأسس البنك الإسلامي للتنمية في عام 1974 من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي، وتأسس أول مصرف تجاري إسلامي في دبي عام 1975، في حين تأسس أول مصرف إسلامي في أوروبا في عام 1978. وقدر أنه في عام 2005 كان هناك أكثر من 100 مصرف ومؤسسة مالية إسلامية تمتلك أصولاً تتراوح قيمتها بين 240 و400 بليون دولار أميركي. وأسست هذه المصارف لتتوافق مع وجهات نظر غالبية علماء المسلمين الذين يعيشون في منطقة الخليج، والذين يتشددون بمساواة فوائد المصارف بالربا. ويرى العجلان أن المصارف الإسلامية التي تشتغل في الغالب في بيئة اقتصادية مختلطة، وتتنافس مع المصارف التقليدية والإسلامية الأخرى، يجب أن تلجأ إلى تدبير مواردها المالية بنظام المشاركة في الربح والخسارة لتفادي الربا، وفقاً للقواعد الشرعية الإسلامية. والآليتان الرئيستان للتمويل باستخدام المشاركة في الربح والخسارة هما المضاربة والمشاركة: 1- المضاربة: هي شراكة في الربح بين رأس المال والعمل. تنجز المضاربة نموذجياً بين أصحاب الاستثمار، باعتبارهم مزودين للمال، والمصرف الإسلامي كمضارب (الشريك العامل). يعلن المصرف الإسلامي رغبته في قبول أموال أصحاب حساب الاستثمار، وتكون مشاركة الأرباح كما هو متفق عليه بين الطرفين، فيما يتحمل الخسارة مزود الأموال، باستثناء حالات سوء التصرف الإداري أو الإهمال. 2- المشاركة: وهي ضرب من الشراكة بين المصرف الإسلامي وعملائه فيساهم كل من الطرفين برأسمال الشركة بدرجات متساوية أو مختلفة لتأسيس مشروع جديد أو المشاركة في مشروع حالي. يكون كل من الطرفين مالكاً لرأس المال على أساس دائم أو متناقص، ويحصل على الربح أو يتحمل الخسارة، بصورة متناسبة مع رأسماله. وعلى رغم كون نظام المشاركة في الربح والخسارة هو الهدف من وراء تأسيس المصارف الإسلامية، إلا أن استخدامه يبقى حالة مثالية. وتظهر الإحصاءات أن أغلب المصارف الإسلامية تستخدم أدوات شبيهة بالدين، باعتبارها الوسائل الرئيسة لتمويل عملائها. فوجد العجلان أن 85 في المئة من التمويل المزود من قبل بيت التمويل الكويتي بين عامي 2000 و2005 قد تم من خلال عمليات المرابحة والإجارة، وهما أداتان شبيهتان بالدين النقدي مقابل الفائدة. 3- المرابحة: هي بيع السلع بهامش ربح متفق عليه فوق سعر التكلفة. 4- الإجارة: هي نقل ملكية الخدمة لفترة محددة أو لاعتبار قانوني متفق عليه. وتدير المصارف الإسلامية نحو ألف بليون دولار أميركي من الأصول، وعلى رغم أنه رقم كبير جداً، فهو لا يمثل سوى بضعة أعشار من واحد في المئة من مجموع أصول المصارف الدولية، فهي لا تمتلك سوى تأثير صغير جداً في النظام النقدي العالمي. بل إن المصارف التقليدية الأجنبية قدمت مساعدات كبيرة لمشاريع تأسيس الصناعة المصرفية الإسلامية والترويج لها، وزودتها بالأدوات الاستثمارية «المتوافقة» مع متطلبات الشريعة. وقد ذهب الباحث إبراهيم وردة في كتابه «التمويل الإسلامي في الاقتصاد العالمي» إلى أن «الاجتهاد الجديد حول التمويل الإسلامي يتم من خلال التعاون بين المؤسسات المالية التقليدية والإسلامية، خارج العالم الإسلامي في كثير من الأحيان». لكن هذا الاجتهاد من قبل المصارف التقليدية لم ينجز حباً بالأمور الشرعية، بل من أجل اجتذاب أموال المصارف الإسلامية. ويرى العجلان أن الإسلام لم يشهد بعد اجتهاداً أصيلاً وثورة رأسمالية وعلمية في العالم الإسلامي من شأنها أن تساهم في تحرير السلوك الاقتصادي من القيم الدينية. ومقارنة بالاقتصاد الحديث فقد تمت صياغة الاقتصاد الإسلامي عنوة، بينما استغرق الأمر في الأول قروناً كي يتطور ويصبح علماً ناشئاً يتغذى على تراكم الخبرات وحقول المعرفة منذ الثورة الصناعية، بينما تأسس الاقتصاد الإسلامي كمحاولة للحفاظ على الهوية. وفي حين يوجد 300 مصرف إسلامي منتشرة في 38 بلداً، فإن تركزها من حيث العدد ورأس المال في منطقة الخليج العربية، ما يجعلها موطن الصناعة المصرفية الإسلامية. لقد أخفقت المصارف الإسلامية في تحقيق ادّعائها بأنها تهدف إلى تحسين حياة المسلمين، إذ فشلت في الوصول إلى الفقراء وانصب تركيزها على استقطاب الأثرياء في منطقة الخليج ما جعل أهدافها ومقارباتها الاستثمارية مشابهة للمصارف التقليدية. * باحث وصحافي لبناني