كتاب "دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان" للأستاذ محمد الأرناؤوط. - نشر مؤسسات التميمي للبحث العلمي والمعلومات تونس - ومركز جمعية الماجد للثقافة والتراث دبي. يسد كما قال الأستاذ عبدالجليل التميمي مقدم الكتاب فراغاً صارخاً في المكتبة العربية. ويشير التميمي الى أن الدراسات الجدية والموضوعية في هذا المجال نادرة على حدود العدم إذ لا يوجد ولا مركز واحد في الجامعات العربية اهتم بالعمق التاريخي والحضاري لدول البلقان، بينما توجد العديد من المراكز في الجامعات الغربية عن منطقة البلقان والتي أنشئت منذ أكثر من خمسة عقود ونشرت العديد من الدراسات التاريخية والتآليف عن الأحداث السياسية التي يعيشها الفضاء البلقاني اليوم. ولا نجازف إذا قلنا أن الغالبية الساحقة من المثقفين والباحثين والصحافيين، علاوة على الرأي العام في العالم العربي والإسلامي، كانت تجهل جهلاً شبه تام ما يعرف اليوم بقضايا البوسنة وكوسوفو وعموماً وضع المسلمين والوجود الحضاري والثقافي للإسلام في شبه جزيرة البلقان. ولم تلفت هذه القضايا الاهتمام وتثر الجدل والتساؤل إلا بعد انهيار يوغسلافيا الاتحادية واندلاع حرب البوسنة والهرسك عام 1991. لكن غياب الاهتمام الأكاديمي بهذا الفضاء لم يسمح بإيجاد أرضية معرفية تساعد على فهم ما حدث ويحدث في البوسنة وغيرها من بلدان البلقان. ومن هذه الزاوية يكتسي الكتاب الذي نقدم أهمية بالغة في مساعدة المثقفين وحتى القراء العاديين على التعرف على واقع الإسلام والمسلمين في هذه المنطقة. فهو يضم جملة من الدراسات الأكاديمية تغطي جوانب مختلفة من هذا الواقع الحضاري، إذ تشمل مجالات العمران والاقتصاد والاجتهاد الفقهي والمؤسسات الدينية والعلمية والثقافة. وما يضاعف من أهمية هذه الدراسات أنها ثمرة جهود ربع قرن من البحث والدراسة والاهتمام من قبل باحث ينحدر من هذه المنطقة ويعرف عن كثب خفاياها وخصوصياتها الحضارية والثقافية. ففي الدراسة الأولى "العمران في البلقان خلال العصر العثماني" نقف على معطيات مهمة حول التطور العمراني الكبير والسريع الذي شهدته هذه المنطقة في فترة الحكم العثماني والذي طبعها بالطابع الشرقي الإسلامي لعدة قرون. فقد نشأت خلال ذلك العهد أكثر من مائة مدينة جديدة كمراكز ادارية وتجارية وثقافية كبيرة حتى أن بعضها كبلغراد، سراييفو وسكوبي أصبحت من أكبر المدن في أوروبا الجنوبيةالشرقية ومن أكبر مراكز الثقافة الإسلامية في المنطقة. ويشير الباحث في هذا السياق الى أن الإفراج عن السجلات والمصادر العثمانية وفّر للدراسات الحديثة معطيات ثرية فنّدت النظرة السلبية وغير الموضوعية التي ربطت الفتح العثماني بالتدمير وجعلته مرادفاً للخراب. بعدها تناول بالتحليل العوامل التي كانت خلف ذلك الازدهار العمراني المدهش وركز بالخصوص على الدور الذي لعبته الإدارة العثمانية والجوامع السلطانية والمستوطنون الأتراك والزوايا والوقف في إنشاء شبكة من التجمعات السكانية التي سرعان ما تحولت الى بلدات ومدن، كما أبرز الدور الذي لعبته الاستراتيجيات العسكرية في هذا المجال. فمواصلة حملات الفتح الذي استمر نحو قرنين "1350 - 1555" تطلب انشاء العديد من القلاع والحصون والمراكز العسكرية والإدارية في الأطراف والتخوم وعلى الطرق ذات الأهمية الاستراتيجية والتي تطورت بمرور الزمن الى قرى ومدن، من ذلك القصبات والقلاع التي أقيمت، أو التي تم الاستيلاء عليها، على الطريق الاستراتيجي "استنبول، صوفيا - بلغراد والتي تحول بعضها كنيس وبيروت وباغدونيا" الى مدن مهمة بعد نحو قرن من الفتح. ويذكر الباحث في هذا السياق - أن معظم الجوامع التي أقيمت في البوسنة والتي أدت الى إنشاء أهم المدن هناك بنيت بأوامر سلطانية وعلى حساب الدولة كسارييفو وزفورنيك التي بنيت بها جوامع سلطانية في عهد السلطان محمد الفاتح. أما الدراسة الثانية، في هذا الإطار فقد خصصها للتعريف بالتاريخ والمصير المثير لأحد معالم العمارة الإسلامية في هذه المنطقة وهو "جامع حمزة بك في سالونيك" الذي يعتبر من أهم الجوامع في اليونان والذي بقي مهجوراً لفترة من الزمن بعد تهجير المسلمين ثم بدأ استعماله لأغراض مختلفة: فقد أنشئت في جهاته الثلاثة محلات تجارية وتحولت قاعته الرئيسية الى دار للسينما في الخمسينات. أما الدراسة الثالثة "وقف النقود في البلقان" فيتعرف فيها القارىء على موقف فقهي جديد في مسألة الوقف يتمثل في جواز تشغيل أموال الوقف بفائدة محددة تضمن مصدراً ثابتاً لمشاريعه الخيرية، وبهذا الشكل تحول الوقف الى مؤسسات مالية صغيرة تساهم في تنشيط الحياة التجارية والحرفية وفي الاستثمار من خلال تمويل مشاريع التجار والحرفيين بقروض ذات فائدة تتراوح عادة بين 11 في المئة و10 في المئة. وقد قدم الباحث بالاستناد الى مجموعة من الوثائق الوقفية معطيات دقيقة ومفصلة عن حجم ودور هذا الوقف في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وخلص من ذلك الى أن المجتمع المحلي استفاد من ناحيتين مختلفتين: تقديم قروض لتنشيط التجارة والحرف وانفاق العائد على المنشآت الدينية والعلمية والمنشآت الخيرية التي تقدم خدمات مجانية للمجتمع "الجوامع، الكتاتيب، المدارس، الزوايا القراء لتلاوة القرآن الكريم، التكايا، مطابخ إطعام الفقراء، وسيلان المياه..."، وفي هذا الإطار يقدم الباحث كأنموذج وصفاً لوقفية باللغة العربية تعود الى منتصف القرن 16، مشيراً الى أن اللغة العربية انتشرت في البلقان مع انتشار الإسلام وأصبحت تستخدم بكثرة في السجلات القضائية والوثائق الوقفية، ونقش التواريخ والآيات على مداخل المنشآت الحضارية الجديدة وعلى شواهد الأضرحة وفي كتابة الإجازات التي يمنحها الشيوخ لطلابهم، وقد اعتمدت في كتابة الوثائق حتى منتصف القرن السادس عشر حين بدأ اعتماد اللغة التركية. ويؤكد الباحث أن أهمية الوقفيات لا تكمن فحسب في التعريف بالدور الكبير للوقف في انتشار الإسلام بالمفهوم العقدي والمفهوم الحضاري وإنما أيضاً بالجوانب الحضارية الأخرى التي تتعلق بنشاطات وعادات وتقاليد المجتمعات الإسلامية في البلقان. ويذكر أن هذه "الوقفية" تعرفنا مثلاً عن نظام التعليم والارتباط بين انتشار الإسلام والعربية. وإقامة الجوامع والمدارس والكتاتيب التي كانت تعلم صبية المسلمين الجدد القرآن في اللغة العربية، كما تقدم الوقفية معطيات مهمة حول القائمين بالأعمال المختلفة في المدينة "الإمام، الخطيب، الواعظ، القارىء، المعلم، الكاتب، الجابيّ وحول شروط عمل كل واحد من هؤلاء وراتبه مما يساعد على تصور الوضع المعيشي لهذه الشرائح الاجتماعية. تتضمن الوقفية من ناحية أخرى معطيات عن العادات والتقاليد كنص الواقف على ذبح عشر أضاحي "حسان سمان" من الضأن في حرم الجامع الذي أنشأه لإطعام الفقراء وتخصيص 30 أقجة لشراء الخبز وتوزيعه على 120 من الفقراء بعد صلاة العصر من يوم كل خميس. ويشير الباحث الى أن من الجوانب الإيجابية للوقف تنافس الواقفين على بناء المنشآت الخيرية وتنافسهم أيضاً على ابتداع أو توفير خدمات خاصة أو مميزة تحقق لهم سبقاً في تقديم خدمة جديدة لأبناء محيطهم، ويذكر أن الوقفية هي من هذا القبيل إذ فيها ميزة خاصة تتمثل في مبادرة الواقف بدفع الضرائب المترتبة على سكان مدينة موستارومي، من الحالات النادرة التي خاض فيها الوقف، ومن ميزاتها أيضاً تخصيص الواقف مبلغاً من المال لكي يحج عنه في كل خمس سنين أحد المسلمين. وفي الدراسة الرابعة "الإسلام والقومية في البلقان" حلل بعمق ودقة مسار ونشوء القوميات وتطورها في هذه المنطقة، فلاحظ في البداية أن شبه جزيرة البلقان تتميز بتطور دور خاص للدين في تحويل الأقوام الى شعوب، وفي الحركات القومية اللاحقة. وقد بدأ هذا الدور يتضح مع انتشار المسيحية - وخصوصاً بعد الانقسام الكبير بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية سنة 1054 فخلال أربعة قرون وبالتحديد منذ انتشار المسيحية وسط السلاف في البلقان في منتصف القرن التاسع وحتى وصول الإسلام الى البلقان في منتصف القرن الرابع عشر تبلور دور خاص للدين "المسيحية" في توسيع الانتقال من مرحلة الأقوام الى مرحلة الشعوب وبالتحديد في تشكيل شعوب جديدة كالشعب البلغاري والصربي والكرواتي فقد ارتبطت الدولة "البلغارية" بعد فترة من التردد بين روما والقسطنطينية، بالكنيسة الشرقية بعد أن ضمنت محافظة الكنيسة البلغارية على تنظيمها الخاص واعتماد اللغة السلافية لغة رسمية للكنيسة والدولة على حد السواء وفي إطار هذا المثلث الجديد - دولة واحدة، كنيسة واحدة، لغة واحدة - تحقق الاندماج بين البلغاريين الطرانيين وبين السلاف الهندو - أوروبيين وتشكل شعب جديد، - وتكونت هذه التجربة لاحقاً فانحازت مملكة صربيا الى الكنيسة الشرقيةوكرواتيا الى الكنيسة الغربية إلا أن هذا التحول لم يتحقق في كل من ألبانيا والبوسنة وحول أسباب ذلك يقول الباحث "أن الظروف لم تسمح بتشكيل دولة البانية واحدة وكنيسة البانية واحدة وهذا ما ترك الألبان عرضة للذوبان في الشعوب المجاورة وفي ما يتعلق بالبوسنة فقد تشكلت دولة وكنيسة واحدة إلا أن هذه الكنيسة "الهرطقية" لم تنل الاعتراف ولم تنعم بالاستقرار نتيجة للتهديد المتواصل من هنغاريا الكاثوليكية وهذا العامل كان إحدى العوامل الحاسمة في يسر انتشار الإسلام في هذين البلدين. بعد هذا انتقل المؤلف للحديث عن انتشار الإسلام في البلقان وعن السياسات التي انتهجتها الدولة العثمانية لخلق وجود اسلامي كبير موالٍ لها في المنطقة سواء بتشجيع توطن الأتراك في وسط وشرق البلقان أو بالسعي لخلق وجود إسلامي في غربة "ألبانيا والبوسنة". وخلص من ذلك الى تقديم صورة دقيقة للواقع الجديد الذي تشكل تدريجياً خلال نحو ثلاث قرون "15 - 17" من حكم الدولة العثمانية ويبدو في الصورة أن الإسلام انتشر بشكل محدود في اليونان وبلغاريا وصربيا وكرواتيا، بينما انتشر بشكل واسع في البانيا والبوسنة، أي أن انتشاره كان محدوداً بين الشعوب التي كانت تتمتع بكنائس قوية، أو كما يقال الآن "كنائس قومية" وواسعاً في الجهتين اللتين لا توجد بهما كنيسة قوية ومستقرة، والسؤال الذي طرح نفسه انطلاقاً من هذه المعاينة هو التالي: ما هو التأثير الذي خلفه انتشار الإسلام في هاتين الناحيتين؟ أكد الباحث في إجابته أن الإسلام قام بدور قومي مماثل للدور الذي قامت به المسيحية، إذ ساهم في الواقع في تشكيل شعبين جديدين، الشعب الألباني والشعب المسلماني، مشيراً الى أن الإسلام هو الذي شكّل أساس القومية الألبانية وأنقذ الألبان من الذوبان في الشعوب المسيحية المجاورة. أما في ما يتعلق بالبوسنة فالوضع يختلف، فقد أوضح المؤلف أن العامل الجغرافي والاثني لعبا دوراً حاسماً في تعقيد القضية البوسنية، فالبوسنة تقع في منطقة بين كرواتيا وصربيا أي منطقة تداخل وتقاطع بين الصربيين والكروات ومع انتشار الإسلام برز واقع جديد، في تكوّن ثلاث شعوب متجاورة بالاستناد الى الدين تتكلم لغة واحدة "الصربوكرواتية". ويرى الباحث أن المشكلة بقيت في تسمية "هذا المزيج - الكورواتي - الصربي - أو هذا الشعب الجديد الذي تشكل تدريجياً نتيجة اعتناق الإسلام"، مشيراً الى أن القضية لم تكن مطروحة بحدة عندما كانت غالبية السكان من المسلمين، فتعبير "بوسنوي" كان مرادفاً تقريباً لتعبير "مسلم"، لكن عندما انخفض عددهم منذ القرن 18 بسبب الحروب والمجاعات والهجرات الى أن أصبح عددهم في مطلع القرن التاسع عشر مساوياً لعدد المسيحيين، لم يعد تعبير "بوسنوي" ينطبق على المسلمين فحسب بل يشمل أيضاً القسم الآخر من السكان، ويذكر الباحث أنه شاع في الأثناء تعبير "المسلمون"، ثم تحول بعد ذلك الى اسم خاص بهذا الشعب الجديد "الشعب المسلماني" الى أن انتزع أخيراً الاعتراف به في الستينيات وأصبح على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى المؤلفة ليوغسلافيا. وفي ختام هذه الدراسة أبرز الباحث أن مع نهاية هذه المرحلة الأولى "أواخر القرن 17 تقريباً تبلورت في منطقة البلقان عدة شعوب أو نواتات لأمم في طور التكون كانت بمثابة أوعية لظهور حركات وطنية تطالب بدول قومية جديدة. لكن حتى في هذه المرحلة الثانية التي انطلقت ابتداء من القرن 18 حافظ الدين على دوره الخاص فقد بقيت العلاقة وثيقة بين الدين والقومية. وفي الدراسة الخامسة "الإسلام والهجرة، نموذج البوسنة 1878 - 1918" يتحدث الباحث عن ارتباط البوسنيين بوطنهم ودفاعهم عن هويتهم الدينية والثقافية في ظروف تاريخية وسياسية بالغة التعقيد. وفي الدراسة التالية "شيخ الإسلام ورئيس العلماء" سلط الأضواء على الجانب المؤسساتي للإسلام في البلقان وعلى الدور الذي اضطلعت به هذه الشخصية الموازية لشخصية شيخ الإسلام في الدولة العثمانية في الدفاع عن المسلمين في الظروف الجديدة والتي اتسمت بانحسار كبير للإسلام في البلقان. وقد توقف الباحث عند أهم الانعطافات في تاريخ الكفاح السياسي والعسكري الذي خاضه البوسنيون ضد الامبراطورية النمساوية سواء بعد مؤتمر برلين 1878 الذي فوض النمسا - بلغاريا بإدارة البوسنة أو بعد قرار ضمها الى الإمبراطورية عام 1908 هذا الكفاح الذي استمر حتى انهيار الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية في نهاية الحرب العالمية الأولى وانضمام البوسنة في إطار دولة أخرى "مملكة الصرب والكروات والسلوفين" والذي تحول اسمها الى مملكة يوغسلافيا منذ 1929. ويشير الباحث الى أن الوضع قد تغير في إطار الدولة الجديدة، إذ أصبح المسلمون يمثلون نحو 11 في المئة من السكان لأن الأجزاء الأخرى من يوغسلافيا "صربيا والجبل الأسود" كانت تضم نسبة لا بأس بها من الألبان والأتراك المسلمين، إلا أن ذلك لم يكن يعني ضده للمسلمين إذ اتسمت السنوات الأولى بعنف لا مثيل له ضدهم سواء في الشمال "البوسنة" أو في الجنوب "كوسوفو ومقدونيا". أما الدراستان الأخيرتان "المخطوطات العربية في البانيا" ورواية "بدأ العنف ينضج" فيتعلقان باللغة والأدب، فهذه الرواية نموذج من أدب الجيل الجديد من الأدباء المسلمين والذي يعد مصدراً مهماً للتعرّف على المجتمع المحلي المسلم في البلقان كما يتضح من خلال تقديم الباحث لهذه الرواية. ويمكن القول في الختام أن هذه الدراسات الموثقة والثرية بالمعطيات والتفاصيل المثيرة عن خصوصيات هذا الفضاء، تكشف بدقة وموضوعية الخلفية الدينية والتاريخية والحضارية للصراع الدائر حالياً في البلقان كما توضح عدة جوانب غير معروفة أو مطموسة أو مشوهة من تاريخ الإسلام في هذه المنطقة من بينها ما يلي: 1 - التسامح الذي ميز الفتوحات العثمانية تجاه أتباع الأديان الأخرى والشعوب المغلوبة، وتبرز هذه القيمة ليس بمقاييس عصرنا، إنما عند تنزيلها في تلك الظروف التاريخية وبالمقارنة مع سياسات الدول المسيحية تجاه المسلمين. وقد أبرز الباحث هذه الميزة عندما وصف الدولة الإسلامية التي تشكلت بالبلقان بأنها دولة من نوع خاص تتوسع بإسم الإسلام لكنها لا تصر على الإسلام كدين وحيد للدولة، فأية مقارنة يمكن اجراؤها بين، سياسة العثمانيين تجاه الشعوب المغلوبة في البلقان وسياسة الإسبان تجاه مسلمي الأندلس، ومن المفارقات التاريخية أن الإسلام انحسر في جنوب غرب أوروبا "شبه جزيرة ايبريا" في نفس القرن 15 الذي امتد فيه في جنوب شرق أوروبا "شبه جزيرة البلقان". 2 - ان الدول المسيحية في البلقان لا تقل تعصباً من الإسبان فقد مارست بدورها سياسة التطهير العرقي، ورفعت شعار "التنصر أو الهجرة" بعد ضعف وانحلال الدولة العثمانية، ولولا الصراعات القومية والاثنية والدينية بين تلك الدول تجاه ما عرف بالمسألة الشرقية والتي أتاحت للبوسنيين هامشاً للصمود والدفاع عن وطنهم لكان مصيرهم كمصير أهالي الأندلس. ويبدو واضحاً أن العدوان الصربي - الكرواتي، على البوسنة والهرسك بعد انهيار يوغسلافيا محكوم بهذه الخلفية فهو يستهدف طمس الوجود الإسلامي وإحياء حلم الحفاظ على "نقاوة أوروبا" إلا أن المناخ الدولي عشية حلول الألفية الثالثة لم يعد يسمح بتجسيد هذا الحلم رغم ارتخاء الغرب والعصبية السلافية، فالإسلام كواقع ديني وحضاري سيبقى معطى في توجيه تاريخ هذه المنطقة بل سيبقى البلقان محكاً لاختيار مدى القدرة على تجسيد شعار الحوار والتسامح والتعايش بين الشعوب ذات الأديان والانتماءات الحضارية والثقافية المختلفة.