لا تزال قضية مشاركة "حزب الحرية" النمسوي الذي يرأسه اليميني المتطرف يورغ هايدر في الحكومة الاتحادية في النمسا، تثير ردود فعل عنيفة ومتباينة في أوروبا. ويتوقع المراقبون ان تستمر هذه الحملة والضغوط على المستشار الجديد شوسّل لفترة قد لا تنتهي الا باستقالته، وربما تشكيل حكومة جديدة يستبعد منها الحزب هذا. الا ان بعض المراقبين يرى ان الأمر قد لا يصل الى مثل هذه النهاية المرغوبة لأن الانقسام حالياً موجود داخل الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الاعضاء فيه، وليس داخل الحكومة النمسوية التي هي للأسف متماسكة بفضل انتهازية شوسّل وحزبه المحافظ "حزب الشعب" الشبيه بالأحزاب الديموقراطية المسيحية المعروفة وعقدة الوصول الى منصب المستشار حتى لو بالتحالف مع الشيطان. فرغم كل حملة الاتحاد الأوروبي ضد حكومة النمسا الجديدة لا بد من الاشارة الى ان الاتحاد منقسم على نفسه بصورة واضحة، وذلك حول الطريق التي يجب سلوكها لمواجهة خطر وصول حزب فاشي جديد الى الحكم معاد لأوروبا الموحدة وللأجانب وللسامية وناف للمحرقة وممجد للتاريخ النازي ولهتلر في سابقة لم تحدث منذ نصف قرن الا في ايطاليا قبل بضع سنوات حين شارك الفاشيون الجدد هناك في حكومة رئيس الوزراء الأسبق بيرلوسكوني. ويحق هنا طرح سؤال متأخر: لماذا لم يتخذ الاتحاد الأوروبي نفس الموقف من حكومة بيرلوسكوني بينما يطلق الآن كل ما في جعبته من عيارات ثقيلة ضد حكومة شوسّل؟ ويبدو الانقسام واضحاً في موقف البرلمان الأوروبي العنيف ضد حكومة النمسا، وموقف المفوضية الأوروبية اي مجلس الوزراء العادي منها. فالهيئة الأولى جمدت العلاقات السياسية مع حكومة شوسّل وهددت بفرض عقوبات وتبعتها في ذلك غالبية الدول الأعضاء، بينما اعلنت المفوضية مواصلتها العلاقات، واستعدادها لاستقبال وزراء النمسا الأعضاء في حزب هايدر واتخاذ القرارات المطلوبة داخل الاتحاد معهم في الوقت الذي يقاطعهم البرلمان والمجلس الأوروبيان. وعبثاً حاول ممثل المانيا في المفوضية غونتر فرهويغن الادعاء امام التلفزيون الألماني بعدم وجود تناقض، الا ان احداً لم يقتنع بحججه. كما ان المرء دهش لتأكيده أن حكومة فيينا اكدت انها لن تعرقل توسيع الاتحاد بينما البرلمان يتهمها بذلك. وعلى رغم الصدمة التي اصابت الرأي العام الأوروبي، والألماني خاصة، بسبب تشكيل حكومة في النمسا تضم نازيين جددا، ومع ان غالبية الرأي العام أيدت في البداية هجمة الاتحاد والحكومات الأوروبية لقطع الطريق على مثل هذا التطور في بلد له جذور في الممارسة النازية لا تُنسى، فمن الواضح ان الرأي العام الديموقراطي منقسم على نفسه حالياً في أوروبا، وفي المانيا خصوصاً بسبب العلاقة الايديولوجية والسياسية والجغرافية التي كانت تربطها مع النمسا. والانقسام هو حول ما اذا كانت هذه الهجمة قد تجاوزت بالفعل الاطار المسموح به في التعامل بين الدول المستقلة ووصلت الى حد يمكن القول فيه انه تدخل سافر في الشؤون الداخلية لدولة اخرى، لا يجري تبريره على قاعدة طبيعة الحكم فيها. وتتزايد الآن الاصوات التي تدعو الى ضبط النفس وتحكيم العقل بدل المشاعر لأن الخطر الأكبر يتمثل حالياً في شعور غالبية النمسويين بالاهانة وبالافتراء عليهم بأنهم كلهم فاشيون جدد، الأمر الذي يضخ الماء في طاحونة حزب هايدر الذي اصبح "شهيداً سياسياً" دون ان يستشهد. ودلت الاستفتاءات الاخيرة التي جرت على انه في حال اجراء انتخابات برلمانية جديدة، سيحصل "حزب الحرية" على 41 في المئة من الاصوات وسيصير حيدر المستشار الجديد بعد ان اصبح في الانتخابات الماضية رئيس حكومة مقاطعة كارينثيا. فهل يمكن الادعاء حينذاك ان كل الذين انتخبوه هم من النازيين الجدد؟ وهل يمكن تجاهل ان قسماً من الذين انتخبوا حزبه اخيراً ناخبون محتجون لا علاقة لهم بأيديولوجية هايدر؟ وإذا كانت الحكومة الألمانية المشكلة من الاشتراكيين الديموقراطيين والخضر قد شاركت منذ البداية في هجوم الاتحاد الأوروبي، بل كانت احد المحركين الأساسيين له، فان الاحزاب المسيحية والليبرالية في البلاد اتخذت مواقف متباينة ومتمايزة. وحدث ان مقدمة برنامج على القناة التلفزيونية الأولى دعت هايدر الى المشاركة في ندوة سياسية مساء الأحد قبل الأخير في برلين، فقامت قيامة البعض على هذه الدعوة ورفض ممثل عن المجلس المركزي لليهود في المانيا الجلوس معه في حلقة نقاش، فتراجع وزير الداخلية الألماني اوتو شيلي عن المشاركة ايضاً رغم انه كان قد وافق في البداية عليها. هذه الحادثة سببت لأوساط واسعة من السياسيين والمثقفين والاعلاميين الألمان صدمة ايقظت حسّها بأصول اللعبة الديموقراطية وبأن المنع والمقاطعة والعزل أمور لا تتوافق مع متطلبات العمل الاعلامي المنفتح. وصدرت على الأثر انتقادات لاذعة للحادث، فشهد الأحد الماضي حوارين على قناتين مختلفتين احدهما في الأولى وشارك فيه المستشار الجديد شوسّل وتجدر الاشارة الى انه لم يُستقبل في برلين من قبل اي مسؤول الماني، والثانية على القناة الاخبارية "ان. تي. في" بمشاركة هايدر وسياسيين واحد المثقفين من اصل يهودي. ومع ان محاوري هايدر كانوا للأسف اقل مستوى من خبرته السياسية وهذه ثغرة يتحمل مسؤوليتها مقدم البرنامج، الا ان المهم ان خطورته بدت في الكاريسما التي يملكها ولا شك وهي شرط ضروري للحصول على لقب "زعيم" وفي قدرته الديماغوجية الخارقة على تفنيد كل الاتهامات التي توجه اليه او التملص منها بحذاقة حيث اتبع تكتيكاً بسيطاً وفاعلاً: فمرة كان ينفي كل ما قيل عن لسانه ولسان غيره في الحزب من تعابير معادية للسامية وللأجانب ولأوروبا ويطالب باسنادات ووثائق عنها، ومرة اخرى كان يعترف بأنه ذكر ذلك في ظروف لم يعد مقتنعاً بها وانه يعتذر عن الأمر. ثم يؤكد على ديموقراطيته وعلى انه انتخب من قبل قسم مهم من المواطنين، وان هدفه هو اصلاح النظام السياسي بعد 30 سنة من حكم الاشتراكيين الديموقراطيين، مدعياً ان النظام الذي يريده "سيكون اكثر انفتاحاً"، انما دون ان يحدد ما هو المقصود. وعندما ووجه بأنه اثنى على "سياسة التشغيل" التي مارسها هتلر وانه وصف قبل عام اعضاء فرق ال"اس. اس" النازية بال"المواطنين المحترمين"، رد هايدر بكل بساطة بانه ارتكب في حياته السياسية التي تمتد على عشرين سنة، اخطاء، وانه يعتذر لكل من جرح شعوره، مضيفاً انه "من اللطافة ان يعترف سياسي بارتكابه خطأ وان يقدم الاعتذار عن لك". اما في الندوة الثانية فكان الخلاف بين ممثلي الحكومة الألمانية وممثلي الاحزاب المعارضة واضحاً. وبعد ان اشار شوسّل الى ان قرارات البرلمان الأوروبي تنتهك مبادئ الاتحاد سعى الى ازالة التخوفات قائلاً ان من يجلس في المجلس الأوروبي ليس هايدر او حزبه، وانما المستشار ووزيرة خارجيته العضو في حزبه هو، ولا احد غيرهما يمثل النمسا. وحسب رأيه فمن السخافة الحديث عن "خطر زوال الاتحاد الأوروبي" او تصوير هايدر وكأنه "الموت الآتي". وشدد شوسّل على ان بلاده لا تهدد الاتحاد باستخدام الفيتو لعرقلة خططه وقراراته، لكن بما ان عمل الاتحاد يرتكز على مبدأ التصويت بالاجماع فان محاولته عزل النمسا ستؤدي بالضرورة الى شلل ذاتي. ووجد هذا الموقف دعماً من وزير خارجية المانيا السابق كلاوس كينكل، من الحزب الليبرالي، الذي قال انه مع رفضه الكامل لهايدر ولمشاركة حزبه في الحكومة، مقتنع بأن الاتحاد الأوروبي اخطأ في حجم ردة فعله. ويخشى المراقبون هنا ان يصبح الانقسام السياسي داخل اوروبا حول الموقف من حكومة النمسا عبئاً على الاتحاد، وأن يستخدمه هايدر لزيادة نفوذه داخل البلاد بعد ان يكون قد ظهر بمظهر الحمل الوديع المحتاج الى شفقة مواطنيه. ويبقى المهم في الأمر ان تربح اوروبا الرأي العام النمسوي الى جانبها لا ان تخسره، وأن تدعه هو يسقط حكومته عندما سينكشف هايدر وحزبه على حقيقتهما.