الخلاف ليس على ميلوش فورمان، المخرج الذي يحتفل بعيد ميلاده السابع والستين هذا الشهر، بل عملياً على فيلمه الجديد من حيث اختيار المادة ومحاولة السيناريو تقديم صورة لمّاعة لشخصية شبه مجهولة ولا تحتل مكانة حقيقية في محيطها. الفيلم هو "رجل على القمر" والشخصية المذكورة هي آندي كوفمان. من شاهد حلقات "تاكسي" الكوميدية التلفزيونية 78-1983 ومعادة على بضع قنوات فضائية لا بد أنه التقط من شخصياتها الكثيرة، بضعة ممثلين ملفتين للنظر: داني ديفيتو في دور مدير شركة تاكسيات تقبع في مرآب تحت الأرض، كريستوفر لويد في دور سائق تاكسي يعيش خيالاته الواسعة، توني دانزا في دور سائق مليء بالحماس للآخرين. آندي كوفمان كان الممثل القصير نوعاً، الذي يشخص رجلاً بريئاً وغريب الأطوار الى حد، ورد من اوروبا الشرقية ولا يزال يتحدث بلكنة ثقيلة. كان يخطف بعض التصفيق المبرمج لكنه لم يكن أساسياً في الحلقات بل من ممثليها المساندين. قبل "تاكسي" كان كوفمان اشترك في حلقات كوميدية أخرى مثل "سترداي نايت لايف" 1975 ولازمه حتى 1982 وظهر في حلقات "فان دايك وشركاه" 1976، بل تسلل الى السينما فمثل دوراً محدوداً في فيلم عنوانه "الله أمرني بذلك" 1977. لكن هذه الشهرة لم تبلغ يوما حدا ملحوظا. وبقي كوفمان، الذي ولد في 17/1/1949 ومات في 16/6/1984 مجرد وجه يثير بعض الضحك والكثير من القلق كلما ظهر على الشاشة التلفزيونية. السبب في ذلك أن كوفمان كان فعلاً غريب الأطوار. كان لديه منهجه في الحياة الذي يعتقد وحده انه صالح للتطبيق كوميديا. كان عدائياً تجاه الناس وتلك العدائية كانت تتبلور في المسارح الكوميدية التي كان يؤمها بصورة علنية واضحة. كان يسخر من كل شيء بما في ذلك نفسه والكوميديا التي يقوم بها. ومع أن السخرية عنصر من عناصر الكوميديا، الا أنها اذا ما حملت في طياتها عداء لا مبرر له باتت ثقيلة الوطأة مثيرة لنقمة معاكسة. وكان يمكن كل شيء أن يمر على هذا النحو الى أن أقدم الكاتبان سكوت ألكسندر ولاري كارازيوفسكي على كتابة سيرة سينمائية بعنوان "رجل على القمر" هي التي تحولت الى فيلم انتجه داني ديفيتو عبر شركته "جيرزي فيلمز" مع شركة يونيفرسال وأخرجه ميلوش فورمان. الفيلم فيه تمثيل رائع من جيم كاري في دور كوفمان. الأول أجاد حركات ونظرات ولغة الثاني تماماً، لكن الفيلم يبدو كما لو أن أحدهم يحاول دفع كوفمان في حلق المشاهد زوراً... كوفمان كان لا يطاق آنذاك، وهو لا يطاق هنا. وفي الفيلم مشاكل أخرى نتركها لمناسبة لاحقة، ولو أن المقابلة التالية مع المخرج التشيكوسلوفاكي الأصل ميلوش فورمان تتطرق الى عدد منها. تاريخ ولد ميلوش فورمان في 18/2/1932 في بلدة تشيكوسلافية صغيرة أسمها كاسلاف من أب يهودي وأم بروتستانتية خسرهما خلال الحرب كما حال رومان بولانسكي وتبناه أقارب والده الى أن تخرج من اكاديمية الموسيقى والدراما في براغ في مطلع الخمسينات. لاحقاً في شبابه علم ميلوش أن الرجل الذي كان يعتقد أنه أبوه، لم يكن أباه، لكن ذلك لا يعني أنه تعرف على والده الحقيقي، وربما لم يتعرف ايضاً على انتمائه الحقيقي ما زاد في رغبته الإنعتاق من الواقع الذي يربطه بالمكان جرياً وراء الحلم بالمكان الآخر. ومن الثقافة التي عايشها الى تلك التي لم يعايشها بعد. في العام 1963 أخرج أول فيلم له وهو "بيتر الأسود" الذي نال الجائزة الأولى لمهرجان لوكارنو سويسرا آنذاك. وما لبث أن أكد فيلماه اللاحقان "غراميات شقراء" 1965 و"كرة رجال الأطفاء" 1967 نبوغه. بعد عام، كان في باريس يعاين أماكن تصوير فيلم جديد عندما دخل الجيش السوفياتي براغ لقمع انزلاق تشيكوسلوفاكيا صوب حال ليبرالي أكثر تحرراً. طلب فورمان حق البقاء مهاجراً ومنح له، لكن عينه كانت على هوليوود. في العام 1969 جاء الى اميركا لأول مرة مع زميله ومواطنه المخرج ايفان باشر. ويونيفرسال دعمته ومنحته فرصة إخراج أول فيلم اميركي له وهو "الإقلاع" Taking Off نظرة ساخرة على الحياة الإجتماعية الأميركية وجدت بين النقاد حينها اعجابا وخرج من مهرجان "كان" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. بعد فيلم تسجيلي بعنوان "رؤية الثمانية" حول الألعاب الأولمبية 1973 أقدم على تحقيق أفضل فيلم له الى اليوم وهو "طار أحدهم فوق عش المجانين"1975 الذي نال 5 أوسكارات بما فيها أوسكار أفضل مخرج وأوسكار أفضل فيلم وأوسكار أفضل ممثل جاك نيكولسون. فورمان عاد لبراغ لتصوير "أماديوس" في العام 1985 ومع أنه حقق بضعة أفلام مميزة مثل "راغتايم" آخر فيلم للممثل الكبير جيمس كاغني و"فالمونت" و"علاقات خطرة" الا أنها لم تترك الوقع الكلاسيكي ذاته لفيلم "عش المجانين". على ذلك، فورمان من أهم ما أنبثق من مواهب لجأت الى هوليوود من أوروبا في السنوات الثلاثين الأخيرة او نحوها. يتولى "رجل على القمر" تقديم جزء من سيرة حياة الكوميدي كوفمان منذ أن قرر سبر غور الكوميديا مبتعداً عن والديه اليهوديين الى أن اكتشفه المنتج جورج شابيرو ديفيتو وفرضه على منتجي مسلسل "تاكسي". من هنا نتابع شخصية رجل غامض بالإختيار فهو يظهر تحت إسمه الأصلي كوفمان ويظهر على المسارح وفي التلفزيون أحيانا تحت إسم كلفتون من دون أن يعترف بأنه هو ذاته. كلاهما، على اي حال، شخصيتان سلبيتان حيال المجتمع وعدائيتان وكوفمان كانت له مطالب كثيرة وخروجا معهوداً عن النص. ويروي الفيلم وقوعه في حب فتاة وعدها بالزواج كورتني لف في وقت أخذ يتوجه فيه الى حلبة الملاكمة متحدياً أبطالها من دون اية خبرة وصولاً الى إصابته بالسرطان ولجوئه الى وسائل تطبيبية مختلفة دون فائدة. بعد موته، يحاول الفيلم القول أنه لا يزال عائشاً في ذات كليفتون وأنه شوهد في بعض المسارح ما يعني أيضاً أن كوفمان ربما ادعى موته في مزيد من التقمص وإخفاء الشخصية. هل نبدأ بالحديث عن الدوافع التي تحدو بك شخصيا للموافقة على تنفيذ فيلم معين؟ - حسنا. هناك عدة دوافع قد لا تتواجد جميعها في كل الأوقات. مثلاً دافعي لإخراج "الإنطلاق" كان مختلفاً عن دافعي لإخراج "أماديوس" او "فلمونت" ودافعي لإخراج "اماديوس" مختلف عن دافعي لإخراج "رجل على القمر". في العموم، يجب أن أرى الفيلم كنتيجة قبل أن أوافق على تحقيقه. يجب أن أدرك أنني سأنجح في جعله عملاً خاصاً بي وليس مجرد تنفيذ لمشروع قائم. في "الناس ضد لاري فلينت" الذي هو فيلمك ما قبل الأخير نلت قدراً كبيراً من نقد الأوساط المحافظة على أساس أن لاري فلينت ليس الشخصية التي تستحق فيلما... - الأوساط المذكورة ليست من يتولى ارشادي لما يجب أن أقوم به. من ناحية ثانية لاقى الفيلم استحسان فئات كثيرة. لكن المشكلة مع لاري فلينت أنه رجل لا يعرف التوسط، لذلك كان على الفيلم أن يرضي أحد الفريقين فقط. لم يكن هناك داع لمحاولة ارضاء كل الأطراف. اذا ما فعلت ذلك تجد نفسك غير قادر على تحقيق فيلم ذي معنى. هل الحال هنا ذاته؟ - الى حد بعيد نعم. كيف؟ - آندي كوفمان لم يكن شخصاً معروفاً الى حد الإنتشار كما الحال مع جيم كاري اليوم. وكان ايضاً شخصاً خاصاً جداً له طريقته في تقديم الكوميديا التي حاول أن يجعل منها، على طريقته، وسيلة او أسلوباً. هذا لم ينجح على نطاق واسع ولم يؤد به الى الشهرة التي اكتسبها آخرون تقليديون في أساليبهم. وبعض كوميديته كانت مثيرة لنقمة المشاهدين والنقاد لأنها بدت كما لو لم تكن تقيم لهم وزناً. وهذا الجانب مشابه لذلك الذي كان لدى لاري فلينت... كوفمان المجهول لكن مع مضمون ربما عولج اجتماعياً وسياسياً بصورة أفضل بما أن فلينت كان ولا يزال لديه آراء حادة في السياسة والمجتمع والإعلام. - صحيح. آندي كوفمان لم يكن ذلك النوع من الرجال، لكنه كان يعبّر عن فلسفة ربما كانت معادية للمجتمع في نظر البعض كما كانت فلسفة حياة فلينت. لكن كوفمان يبقى مجهولاً لدى كثيرين حتى في أميركا. هل تعتقد أنه كان يستحق فيلماً؟ - بالتأكيد يصمت لنحو 30 ثانية ثم يكمل حين تسأل اذا ما كان يستحق فيلماً فإنك تتساءل عن قيمة هذا الفيلم. اي فيلم يتألف من عدة قيم ليس من بينها استحقاق الشخصية للعرض ام لا. هناك قيم فنية وقيم موضوعية مختلفة. هنا في "رجل على القمر" نجد رجلا حاول أن يبرهن عن جدوى طريقته الخاصة في الإضحاك التي بدت للناس جديدة وغريبة لكنه كان فعلاً غريب الأطوار ما جعل السيناريو غنياً بالمواقف التي شاهدناها. مرة أخرى الدافع عندي هنا مختلف عن دافعي وراء فيلم "واحد حلق فوق عش المجانين". هل كان دافعك وراء ذلك الفيلم سياسياً؟ - ماذا تقصد؟ في عدد من أفلامك السابقة كان الموضوع المباشر يخفي وراءه نظرات فحص ساخرة وسياسية للصورة بأكملها. هذا ورد في "الإنطلاق" وفي "هير" التي صورت عن المسرحية فجاءت مختلفة بفضل جهدك في تمييزها و"عش المجانين" وحتى في "حرقة قلب" الذي قد يلتقي مع "الإنطلاق" في أنه قراءة اجتماعية للحياة الزوجية الأميركية. لكن "رجل على القمر" لا يبدو منتمياً الى هذه المجموعة من هذه الزاوية. - ربما لا. وأنا سار بملاحظتك هذه. ماذا عن اختيار جيم كاري للدور؟ - جيم كاري ممثل رائع. لا أستطيع تخيّل الفيلم من دونه. حينما كان يمثل الدور كان يتقمصه بالحركة والتفصيلة. لم يترك نافذة يستطيع أن يطل منها الى الداخل من دون أن يستغلها ويوظفها لصالح تشخيصه. هل صحيح أنه فرض السرية على مكان التصوير لكي يحافظ على تركيزه؟ - كلنا كنا في حاجة الى هذه السرية وليس فقط كاري. أتذكر أن داني ديفيتو الذي يؤدي دوراً في الفيلم الى جانب قيامه بإنتاجه جلب صحافياً من نيويورك ليتابع التصوير لبضع ساعات. جيم كاري لاحظ وجود الصحافي ومع أنه أدى المشهد كما أراد الا أنه اندفع الى ديفيتو واحتجّ على استضافته الصحافي. ماذا حدث بعد ذلك؟ - أعتقد أن ديفيتو أخذ الصحافي جانباً بعيداً عن مكان التصوير ثم أجرى معه حواراً منفرداً وانتهى الأمر. قرأت أن كاري لا يعتبر الدور كوميدياً؟ - ولا أنا أعتبر الفيلم كوميدياً. انه سيرة ذاتية عن كوميدي. لكن كوفمان كان شخصية كوميدية وكاري ممثل كوميدي ويتوقع المرء منهما أن يلتقيا عند نقطة معينة. - ... هذه النقطة هي الفيلم كله. حينما أقوم بإخراج فيلم أحاول أن أبحث عن البعيد في جوهر الممثل والشخصية التي يؤديها. انه مثل ضبط ال"فوكاس" على منظر معين. بالنظر الى جوهر "رجل على القمر" من حيث تناوله شخصية رجل كان مبهما حتى لأقرب الناس اليه، ما هو أصعب جانب واجهك في سبيل تحقيق الفيلم؟ - أن أجد طريقي بين انعكاسات هذا الإبهام. كوفمان كان عبقرياً في نظري. ليس فقط من حيث أنه أصر على التشخيص المنفرد بل ايضاً من حيث إصراره على ابتداع شخصية توني كليفتون التي تجد الكثيرين ممن عرفوا كوفمان غير واثقين من انهما كانا شخصين منفصلين ام أن كوفمان كان يتنكر في زي كليفتون. اذن المشهد الذي نرى فيه كوفمان يصر في عقده على أن تستعين المحطة بالممثل كليفتون كان حقيقياً؟ - نعم. المشكلة بالطبع أن كوفمان فاجأ الجميع بهذا الطلب، وفي البداية بدا كما لو أن هذا نوع من المجاملة لصديق يعرفه. وربما كان. لكن لاحقاً تبلورت الأسئلة حول اذا ما كان كوفمان وكلفتون شخصيتين لرجل واحد. هذا هو نوع من الصعاب التي تواجه المخرج: كيفية تقديم وضع كهذا من دون تحبيذ وجهة نظر على أخرى والبت فيها. لكن البت فيها ربما هو حاجة تتولد في ذات المشاهد. - ربما لكنني اخترت أن أبقي الحالة كما كانت عليه مبهمة. اذا لم يكن كوفمان هو كليفتون فأين كليفتون اليوم؟ - لا أدري. رغم ذلك اخترت أن تنهي الفيلم بما يوحي بأن كليفتون، سواء أكان هو كوفمان أم لا، لا يزال حياً. ما الغاية؟ - في فيلم كهذا، يجب أن تجد نهاية تتماشى مع المسار الذي اختاره صاحب السيرة. لو انتهى الفيلم بموت كوفمان لكان العمل بأسره داكناً من حيث أن حياة كوفمان لم تقصد أن تكون. فلاش باك حينما كنت في فرنسا ودخل الجيش السوفياتي براغ ليعيد البلاد الى مواقعها السابقة ما الذي جال في بالك؟ هل فكرت في العودة الى البلاد والعمل تحت النظام الجديد ولو بمناوأته؟ - هذا لم يكن متاحاً او ممكناً. الرقابة كانت صارمة بعد ذلك والحرية الثقافية والسياسية معدومة. الأمر الوحيد الذي كنت أستطيع الإقدام عليه هو البقاء خارج البلاد. هل استطيع أن أفترض أن ذلك كان سهلاً لأن علاقاتك الأسروية ايضاً كانت محدودة؟ - نعم. ما الذي دفعك الى الهجرة الى هوليوود؟ - ربما الدافع نفسه الذي أوصل فريتز لانغ وبيلي وايلدر وجوزف ستروهايم والكثيرين قبلي الى هناك: الحرية الفنية التي تتمتع بها هوليوود والولايات المتحدة. كان ذلك في الستينات ايام ما كانت هوليوود تترك للمخرجين حرية العمل. اليوم هذا صعب. - هذا صعب على المخرجين الجدد، لكن حين يطلب ميلوش فورمان للعمل فإن الجميع يعلم أن الفيلم سيحمل ما يختاره فورمان من علامات. لكن الكتابة ذاتها تختلف، المشاريع المتوفرة تختلف... هل تستطيع أن ترى أن أحدا اليوم في هوليوود يكترث لإنتاج "الإنطلاق" او "هير"؟ ربما ليس "هير" لأنه حتى في ذلك الحين لم يحقق ربحاً تجارياً يذكر، لكن "الإنطلاق" و"عش المجانين" و"فيرمونت" و"علاقات خطرة" نعم. بكل تأكيد. اذا كنت مخرجاً ذا وزن لا زلت تستطيع أن تحقق ما تريد. حين تتوقف عن تحقيق ما تريد وتقبل بما يريدون، تنتهي الى منفذ عادي ولن تستطيع بعد ذلك الدفاع عن اختياراتك.