البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الأرصاد: الفرصة مهيأة لتكوّن السحب الرعدية الممطرة    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    ا"هيئة الإحصاء": معدل التضخم في المملكة يصل إلى 1.9 % في أكتوبر 2024    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر البلبلة الفكرية وضمور الفكر العملي في سقوط الحضارة الإسلامية
نشر في الحياة يوم 23 - 06 - 1999

1- هناك سببان جوهريان أديا إلى تخلخل الحضارة الإسلامية وتدرجها نحو السقوط، الأول: هو الانفصام بين الديني والمدني الذي دشنته غلبة العناصر الحديثة الإسلام، من عرب الجزيرة ومستعربي الشام والعراق وفارس والروم، التي صارت هي القاعدة العريضة التي كونت الرأي العام غير المستنير، فتكونت منها كوادر الإدارة والقيادة وما أفرزته هذه الجماعات الحديثة الإسلام من الفرس والروم من ثقافات، وما ترجمه المسلمون أيضاً من فلسفات، يونانية خصوصاً، وأجنبية عموماً.
حين بدأت الفئات التي لم تتعمق في الدين تفرز خلفياتها الثقافية، وما فيها من فلسفات وثنية وإلحادية وتجريدية تنظيرية، هندية وسريانية ويونانية، فامتلأ الفكر الإسلامي بأمشاج من الثقافات غير المتجانسة، عجز التيار الإسلامي الصافي أن يستوعب هذه الثقافات وأن يصهرها في بوتقة واحدة، لأنها جاءته كالأمواج الهادرة، وهو طري العود لم تستحكم قواعده، ولم تتضح معالم منهجيته.
واستمر العجز بعد ذلك، فلم تستطع الثقافة الإسلامية الصافية ان تنتج منهجاً علمياً عميقاً تؤسس عليه العلوم والآداب، فأصاب العقل الإسلامي صداع نصفي استفحل، حتى كانت حركات الزندقة، وحركات التفكير خارج الوحيين، وتحكيم العقل في الدين، وما صاحب ذلك من مجون وانحطاط. واستمر التنازع والتناحر حتى أدىا إلى الصراع بين النزعة العقلية والنزعة النقلية، الذي دشنته المعركة الشهيرة، معركة القول بخلق القرآن التي عرفت بالخلاف "المتوهم" بين العقل والنقل، والصراع بين الدين والعقل، ذلك الصراع الناشيء عن "الخلط بين عالمي الغيب والشهادة" كما قال العدواني إصلاح الفكر الإسلامي:27 وعدم "التفريق بين ما هو دين ووحي معصوم، وبين ما هو اجتهاد بشري قابل للخطأ والصواب" إصلاح:28.
لقد كان خلط كبير بين دور الوحي ودور العقل في المنهجية الإسلامية، فخاض قوم في قضايا غيبية لا يستطيع العقل إدراكها، متأثرين بالحضارات المادية والأديان الوثنية والفلسفات التجريدية، كما ذكر عبدالحميد أبو سليمان انظر أزمة العقل المسلم: 97، فانساق العقل إلى الفكر التجريدي، وخرج عن مجال عالم الشهادة إلى عالم الغيب. ولم يدرك الذين يفكرون خارج منطوق النص المحكم ومفهومه أن مجال الغيب إنما مصدره الوحي، وأن العقل إنما هو آلة إدراك الوحي، وأن دوره هو فهم الوحي لا الحكم عليه، لأن العقل لا بد من أن يهتدي بالوحي، فالعقل يوزن بالوحي. العقل آلة المعرفة، والوحي مصدر من مصادر المعرفة كالكون والحياة. وجاء علم الكلام بؤرة استنزاف لفكر الأمة، أسهم في تفريقها فرقاً وتمزيقها شيعاً.
2- وقامت معارك شرسة بين من اعتبروا أنصار الوحي، ومن اعتبروا أنصار العقل، وصار علم العقيدة، وهو أيديولوجية الأمة، يقيم ويقوم بالآلات الفلسفية التجريدية، والجدل النظري البيزنطي الغيبي. وصار علم الكلام هو المنهج السائد لتقرير العقيدة الصحيحة، وكأن من لم يؤسس إيمانه على علم الكلام لن يذوق حلاوة الإيمان. فانتهى ذلك بالفكر الإسلامي إلى متاهات فكرية ومعارك معنوية ومادية استنفدت طاقة العقل المسلم.
وبين الفعل ورد الفعل، شغل المسلمون أنفسهم في كثير من الثانويات، فصار شغلهم الشاغل مسائل تجريدية غيبية. وصرفهم ذلك عن الفكر العملي في الحياة الذي يحقق لهم خيري الدنيا والآخرة. وكان يريحهم في هذه الأمور أن يكتفوا بفهم الصحابة الفطري، ولكن الفلسفة الأجنبية جرتهم إلى الانشغال بالوسائل دون الغايات، وذلك كما قال الشيخ علي الطنطاوي "جر إلى فتنة كبيرة، ما كان لها من داع، هي فتنة الامتحان بالقول بخلق القرآن" تعريف بدين الإسلام:18.
وكان الأجدى رفض البحث فيها والجدال عليها لثلاثة أسباب:
"أولاً: لأن السلف لا السلفيين وهم أفضل المسلمين وخيار هذه الأمة، من الصحابة والتابعين الكبار ما عرفوها"، ولو كانت من ما لا يسع المسلم الجهل به، لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانها .
"ثانياً: لأن من يدقق في أقوال الفرق المختلفة يجدها مبنية على أساس واحد، هو قياس الخالق على المخلوقين، وتطبيق منطق العقل البشري على الله، وذلك باطل لأن الله ليس كمثله شيء".
"ثالثاً: لأن هذه الأمور كلها من عالم الغيب... والعقل قاصر حكمه على عالم المادة، ولا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة، ولا يستطيع أن يدركه". تعريف:18
ولذلك يقترح الطنطاوي اقتراحاً عملياً فيقول: "بدلاً من أن نبحث بحثاً غير منتج في القرآن، هل هو مخلوق أم غير مخلوق، نقول: إن القرآن أنزله الله لنعمل به، فلنعمل به، ولنأتمر بأمره، ولنقف عند نهيه. وبدلاً من البحث في علم الله هو بذاته أم بصفة زائدة على الذات، نقول إذا كان الله يعلم عنا كل شيء من سرنا وجهرنا، وانفرادنا واجتماعنا، فيجب أن نسلك في الحياة سلوكاً موافقاً لشرع ربنا...]ل[ أن الله لا يسألنا يوم القيامة عن شيء، من ما بنى عليه المتكلمون جدالهم، وأقاموا عليه مختلف مذاهبهم، وملأوا به كتبهم، ولو كان ذلك من شروط الإيمان، لبحث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" تعريف: 80-81.
ولأمر آخر مهم أيضاً، وهو أن هذا الجدل لا تنبني عليه نتائج عملية سلوكية، فهو مشكلة أضاعت جهوداً كثيرة ما بين الهجوم والدفاع، وصرفت طاقة الفريقين إلى معارك غير ذات أولوية، وأغفلتهما عن ترسيخ قيم الفعالية والنهوض الاجتماعية التي بها حفظ الدين والأمة.
لقد شغل الناس الخلاف على "طبيعة" القرآن عن الإتفاق على "وظيفته"، فأصيب الفكر الإسلامي بالخمول والضبابية والاسفنجية والتجريد والشكلانية، وصار علم العقيدة ألغازاً وطلاسم لا يدركها إلا من له خلفية في الفلسفة اليونانية. ولم يسلم من هذا الضباب أحد. حتى الذين رفضوا "علم الكلام"، تأثروا بمنهجه أولاً، وكتبوا علم العقيدة بمصطلحاته ثانياً، وشغلهم نقضه والرد عليه ثالثاً، فحفلت كتبهم - وهم يرفضون المنطق اليوناني - بتقعيدات وتعقيدات لا يدركها إلا من له خلفية في الفلسفة اليونانية... ومن يستطيع منا أن يدرك المقصود من عبارة "القرآن منزل غير مخلوق" من دون خلفية كلامية؟
3- لقد رسخت ثقافة الكلام فصار التيه والضباب، لأن الذين فكروا خارج النص أدخلوا العقل في غير ميادينه، وتعسفوا التفسير والتأويل. وكانت النتيجة مرة وخيمة، فإذا العقل جاحد مستكبر، وإذا الشك هو طبيعة الفكر والعواطف والسلوك، وإذا العقل يجدف في بحور الغيب على غير هدى ولا نظر مستنير ولا سراج منير.
وحين تجاوز العقل مجاله، انحرف وضاع وغرق في بحور من السفسطات والترهات، وضُرب الدينُ والفلسفة القرآنية بالفلسفة اليونانية، وحورب الوحيُ الصحيح بسلاح العقل الكسيح. وانصرف العقل عن مجاله، وهو شؤون الحياة الدنيا وإصلاح الدنيا وإعمارها، فوقع في ثلاث مهالك:
أ - طلب المحال في معرفة عالم الغيب ما وراء المادة.
ب - الانصراف عن واجباته العملية في عالم الشهادة المادة.
ج - تدمير طاقته في أمور نظرية وتجريدية ليس لها جدوى عملية، كما قال الشاعر الحموية لابن تيمية: 166
حجج تهافت كالزجاج تخالها
حقا، وكل كاسر مكسور
وهذه الأمور زرعت البلبلة العقلية والعاطفية والسلوكية، كما قال آخر الحموية: لعله الفخر الرازي:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
على ذقن أو قارعاً سن نادم
أو كما قال آخر الحموية: لعله الشهرستاني:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
كما قال الشهرستاني: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن" الحموية.
لقد أسهم الفكر اليوناني التجريدي في بلبلة الثقافة الإسلامية، كما مهد من قبل لسقوط اليونان تحت حراب الرومان.
4- اضطراب المنهج بين التعصب للعقل والتعصب عليه:
واجه المفكرون والعلماء الأولون مشكلة المنهج ومعالجة الأزمة الفكرية، وفي مقدمهم الإمام الشافعي في رسالة "الأم"، الذي حاول مَنْهَجَة الفكر الاسلامي. وكانت محاولات أخرى للإمام أحمد بن حنبل، وللأشعري في كتاب "مقالات الإسلامين"، ولإمام الحرمين في علم السياسة، وللغزالي في معالجة الفلسفة الاغريقية حين حاول تأصيل المعرفة الإسلامية، ولابن رشد في درء التعارض بين الشريعة والفلسفة والوحي والعقل، ولابن تيمية وتلامذته في جوانب شتى في الفقه والسياسة والعقيدة، ولابن خلدون في تأسيس العلوم الاجتماعية انظر العلواني: إصلاح: 29 و30، ولتلاميذ أبي حنيفة مثل "الخراج" لأبي يوسف، و"السير الكبير" لمحمد بن الحسن.
ولكن هذه البدايات لم يكملها من بعدهم ، فلم تنضج علوم اجتماعية بالمعنى المنهجي العلمي، ولا بالشكل المتسق مع مقاصد الشريعة وروحها ومبادئها. فلم ينضج علم سياسة ولا علم اجتماع ولا علم تربية ولا علم إدارة ولا علم نفس ولا علم اقتصاد ولا قانون جنائي ولا مدني. ولم تتشكل معرفة إسلامية مكتملة بنسق منهجي، إنما وجدت تأملات ونظرات تلقائية وانطباعية، لم تتجاوز دور المحاولات والبدايات، ولم ترق إلى مستوى البناء الهندسي المنظم الذي يليق بخير أمة أخرجت للناس، انظر أزمة: 68.
ولم يكن حظ العلوم التطبيقية، ولا البحتة ولا الطبيعية ولا الفنون العملية، بأوفر حظاً من العلوم الاجتماعية، لأن المسلمين كما قال الشافعي: تركوا نصف العلم أو ثلثيه لغيرهم من اليهود والنصارى النبلاء:10.
5- وكان الأمر الطبيعي أن تجتاز الأمة هذه الأزمة، وتصوغ علومها وفق أيديولوجيتها، وتصوغ علم العقيدة - وهو أساس المعرفة لديها - صياغة مبنية على العلم والعمل معاً، وعلى الوعي الاجتماعي بالدين. ولكن تدرج الحضارة إلى السقوط وكثرة الفتن الداخلية، لم يوفرا جو البحث الذي تنضج فيه هذه الجهود. لأن المعركة التي استعدى فيها المعتزلة أهل السلطة على خصومهم، من خلال فتنة القول بخلق القرآن، استنفدت قوى العقل المسلم، وشوهت جو الحوار الإسلامي، وقسمت الأمة الإسلامية، وشلت طاقات الإبداع فيها، وصرفتها عن التفكير العملي، وشغلتها عن الأولويات الاجتماعية، وأدخلت العقيدة في خوض تجريدي غيبي ليس له ثمرة عملية.
واستغرقت بحوث علماء كثيرين في مسائل غير ذات أولوية، وصرفت الفكر عن مجاله الأنسب الأرحب، وشغلت القيادات والرموز الفكرية في أمور جانبية ثانوية، واستدرجتها عفواً أو عمداً عن الأولويات العملية الاجتماعية، فصرفتها عن الأدوار الكبرى.
وقد نجد لهؤلاء العلماء عذراً حينما ندرك حجم الاختلال الثقافي والاجتماعي الذي عاشوا فيه، والجو الخانق الذي صرفهم عن الأولويات والمهمات، وشغلهم في الجدليات واللفظيات التي مزقت السلام الاجتماعي بين الناس حين ابتعدت عن حكمة الدين وتسامحه، وهدوء العقل ورصانته، وجرتهم إلى العاطفيات، وأبعدتهم عن الموضوعيات، وشغلتهم بالجزئيات عن الكليات، وبالثانويات عن الأساسيات، لأن الإختلال إذا شكل الرأي العام، يشكل ضغطاً على الاتجاهات والأفكار يجعل الأفراد، مهما كان نبوغهم، لا يكادون يستطيعون التفكير خارج الأطار.
6- ملامح قطيعة بين العقل والشريعة:
وكانت وخيمة وبيئة نتائج الصراع بين الوحي والعقل الذي تأثر بالفصام بين القيادات الفكرية السياسية والاجتماعية، لأنها مهدت للاختلال في منظومة المفاهيم والقيم الإسلامية. فالتفكير خارج النص أوجد الشك والإلحاد، في جانب كبير من الثقافة. والتفكير النقلي الحرفي المتزمت الذي لم يستضئ بنور العقل القرآني، الذي هو آلة فهم الدين لا آلة الحكم عليه، أثمر نزعات من الصوفية، وأخرى من الظاهرية، لأن جو الصراع أنتج نزعتين متخاصمتين: نزعة إعلاء العقل وتحكيمه، ونزعة رفضه والتقليل من شأنه. انظر أزمة: 97.
وأفرط قوم في الاعتداد بالعقل، فأفرط الآخرون في الاعتداد بالنقل. فتحول النقل إلى ترديد من دون تأمل، ورواية من دون دراية. وغفل أغلب القيادات الدينية عن الفكر الديناميكي الفعال الذي يذكي الفاعلية الاجتماعية والانسجام. وكاد يصبح طابع الشخصية الدينية النموذجية، محدداً بالزهد السلبي والدروشة. حتى كاد التدين أن يصير مرادفاً للغباء، وكاد الشك والانحراف أن يكونا مرادفين للذكاء، كما صور ذلك أبو العلاء المعري أحد رموز الشك في الفكر الإسلامي:
الناس صنفان: ذو عقل بلا
دين، وآخر دين لا عقل له
وعندما فصم الناس النقل والوحي عن العقل والوعي، صادر العلم محفوظات وخلاصات وهوامش وشروحات تكثر فيها الإحالات والنقول ويقل فيها الفكر العلمي الوثاب، وصار العالم المتأخر كالأعمى لا يمشي إلا بقائد من العلماء القدامى يقوده ويهديه السبيل... وويل له إن جاء بفكرة أو خاطرة لم يجد لها سنداً عند عالم قديم. إنه خلل في عقلية الثقافة التي أنشأها العرب والمسلمون ، وهو خلل في المنهجية المعرفية. وهو أمر لا صلة له بعلم ولا بدين ولا بعروبة، إنما هو افراز اجتماعي ناتج عن ردة الفعل غير الواعية للسقوط، وما يجره إلى الناس من روح القنوط.
ولسان حال هؤلاء كلسان حال كثير من المسلمين اليوم يقول: "لما رأينا أن حياتنا قد فسدت، وأن الأحياء منا قد ذلوا، وذكرنا عز الأجداد وصلاحهم، تحول يأسنا من الحاضر إلى أمل بالماضي... فنشأت من ذلك مظاهر تقديس الأموات والاعتماد عليهم وانتظار المدد منهم"، كما قال علي الطنطاوي تعريف: 137. وصار تفكير الأحياء رهن تقليد الأموات، عند ذلك تعطل الإبداع والابتكار حتى تعطلت آلة الاجتهاد.
وشاع التفكير التقليدي الذي يعتمد على المحاكاة، فجمدت القيادات الفكرية نفسها في نهاية المطاف عندما وصل إلى منابعها الجفاف. وعندما تعطل الاجتهاد وخبت ملكات النظر الكلي صار ديدن الفكر الانتقاء غير المنهجي والاجتزاء العشوائي انظر أزمة: 39، لأن التخوف العاطفي على الدين من أثر النزعة العقلية التجريدية جر قوماً كثيرين إلى إحاطة العقل بالشك والريبة، حتى توهموا - كما توهم خصومهم - وجود هوة وفجوة بين الوحي والوعي ظهرت من خلال المقابلة التي توحي بالتناقض بين مصطلحي "العقل" و"النقل" انظر ازمة: 97. فجاء قوم يتساهلون في رواية الحديث الضعيف، حتى امتلأت الكتب والمساجد والمجالس بخليط من الثقافة في التفسير والحديث والأخلاق والتاريخ، فيها ما هو جيد صحيح وفيها ما هو رديء ضعيف وفيها ما هو خزعبلات وترهات، إسرائيليات وإسلاميات.
كان ذلك عندما صودر العقل القرآني، وحجز عليه كالسفهاء والقاصرين، وأقيم عليه الأوصياء المقدسون من الأموات والأجداد. وصار العلم المنقول غير معقول، وصار المعقول غير منقول ولا مقبول.
كان منهج السلف عملياً وإن كان أقل علماً نظرياً. ولكن منهج الخلف جاء أكثر علماً جدلياً تجريدياً، ولكنه ضعيف الروح العملية. وطبيعة العلم التجريدي هي إثارة البلبلة والشك والخلاف. فالعلاقة بينهما تراتبية، أي بين "كثرة الجدل وقلة العمل" كما أشار الامام أحمد بن حنبل. وفي محكم التنزيل نص على ترابط العلم المجرد بالبلبلة، قال الله تعالى "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم"، وذلك من أثر إخضاع نموذج المعرفة الإسلامية لنموذج الفلسفة اليونانية القديمة.
لكن حقيقة الأمر أن العلم يدعو للإيمان لأن "العالم الحقيقي لا يكون إلا مؤمناً، والعامل لا يكون إلا مؤمناً و... الإلحاد والكفر إنما يبدوان من أنصاف العلماء وأرباع العلماء، مِن مَن تعلم قليلاً من العلم، فخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان" كما قال علي الطنطاوي تعريف:53. عند ذلك كثر المقلدون والمرددون والحفاظ وقل المبتكرون والعاملون. ولذلك نجد في تراثنا عناية بمصطلح "علامة" و"حافظ" وإبرازاً له على أنه عنوان رئيسي ووصف جانبي لكل إمام. على أن صفات الإمامة إنما هي الإبداع والتجديد، وفكر التنوير وفكر التغيير.
7- ولذلك عانت الأمة من ثقافة الكلام والإسهاب والتكرار والاجترار، وضعفت فيها ثقافة العمل والممارسة والنقد والابتكار. وضمر العقل تحت سياط التخويف والترهيب عن التحليل والاستقراء والاستنباط، فضمر الفكر التجريبي في المجالات السلوكية، وضمر الفكر العملي في المجالات الاجتماعية والعمرانية.
عند ذلك انفصل عمل الدنيا عن عمل الآخرة، وتحدث الناس عن صلاح النيات والمقاصد ولم يربطوه بصلاح الأعمال والنتائج. واعتقد آخرون بأن الإسلام يدعو إلى الزهد والخمول، فربطوا بين شقاء الدنيا وسعادة الآخرة، وقللوا من قيمة العلوم التطبيقية، وضمرت فيهم النزعة الدنيوية المادية، وتعلقوا بالبركة وتركوا الحركة، وقدموا الدعاء والابتهال على السعي والنضال. واعتبروا السعي إلى البناء والاعمار والركض إلى الغنى والتماس أسباب الرقي والنجاح والتخطيط للمستقبل من الدلائل على ضعف الإيمان، ومن علامات ترك الاتكال على الله، كما قال الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق
ويرزق في مشيمته الجنين
* أكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.