دشّن لقاء رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في واشنطن في 15/12/1999 ذروة عملية التفاوض غير المباشر بين سورية واسرائيل التي قادتها، بتكتم نسبي، الولاياتالمتحدة. ومنذ 3/1/2000 بدأ فتح الملفات المغلقة بتفاصيلها الكثيرة وتعقيداتها المعروفة، وسيكون على الولاياتالمتحدة ان تصوغ للمتفاوضين مخارج مقبولة ومتعددة للاستعصاءات الكثيرة المرتقبة. وفي هذا السياق صارت المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية على وشك الاقلاع. ويُفترض، منطقياً، ان تكون ملفات التفاوض جاهزة. ان احد اكثر الملفات اللبنانية غموضاً ووضوحاً في الوقت نفسه هو ملف "القرى السبع" التي بقيت تحت الاحتلال الاسرائيلي منذ سنة 1948، وكذلك ملف الاراضي التي اقتطعتها اسرائيل، بالتدريج، ولا سيما بعد حرب حزيران يونيو 1967. ان ملف "القرى السبع" وشقيقاتها ايضاً واضح تماماً من الجانب التاريخي والتوثيقي، لكنه غامض بالكامل في ما ستؤول اليه الحال في الايام المقبلة، فالقرى السبع لبنانية بلا ريب، لكن مصيرها لا ينبئ بعودتها الى الجمهورية اللبنانية، فكأن مصيرها مرتبط بمصير فلسطين، اي ان تبقى تحت الاحتلال في المستقبل المنظور. أصل المشكلة لم تكن بين لبنانوفلسطين، حتى سنة 1917، حدود البتة. فولاية صيدا كانت تتوسع، وفي بعض الحالات، لتضم نابلس وصفد. وولاية عكا تتمدد احياناً لتضم مرجعيون وبلاد بشارة. وولاية بيروت تستطيل لتشمل اللاذقية في الشمال واجزاء من فلسطين في الجنوب. وجميع الولاة ما كانوا يمثلون كيانات سياسية، بل مجرد ملتزمي ضرائب لدى الوالي الكبير في دمشق. لذلك كانت حدود الولايات متغيرة باستمرار. فهي، اذن، ليست تعبيراً عن حدود سياسية بل عن مجرد ترتيبات ادارية تتعلق بعملية الجباية. سقط المشرق العربي بكامله في قبضة بريطانياوفرنسا إبان الحرب العالمية الاولى. ومنذ ان دخل الجنرال اللنبي القدس في 10/12/1917 بات واضحاً ان الدولة التركية بدأت تعدّ ايامها الاخيرة في المنطقة. وما كاد يوم 30/9/1918 يُطل حتى كانت دمشق تستقبل الجيش العربي وترفع العلم العربي الجديد فوق مبنى البلدية. وفي 3/10/1918 دخل الجنرال اللنبي دمشق، معلناً نهاية الحروب الصليبية، ومعه الأمير فيصل الذي سيصبح ملكاً دستورياً على سورية في 7/3/1920. وصار بعد هذا التاريخ تاريخاً وما قبله كان تاريخاً آخر. وبالتدريج، راحت الاوراق المستورة تتكشف في لعبة الاستيلاء على الاراضي التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية المهزومة، ففضحت ثورة اكتوبر السوفياتية نصوص اتفاق سايكس - بيكو الذي وقعته بريطانياوفرنسا سراً في 16/5/1916، وتفاهمتا في شأنه مع روسيا القيصرية. نص اتفاق سايكس - بيكو على تقسيم المشرق العربي الى منطقتي نفوذ: واحدة فرنسية واخرى بريطانية. وبموجبه، ومن غير الامعان في التفاصيل، رُسمت الحدود بين فلسطينولبنان من نقطة تمتد من بلدة الزيب، جنوبي رأس الناقورة، باتجاه الجليل، وتحديداً نحو الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية. وهذا يعني ان القرى السبع وقرى اخرى في اصبع الجليل وقعت ضمن منطقة النفوذ الفرنسي وأُلحقت بلبنان وقعت بحيرتا الحولة وطبرية ومنابع نهر الاردن ايضاً في منطقة النفوذ الفرنسي وصارت هذه المنطقة تابعة لسورية. لكن في 2/2/1926 وبموجب اتفاق حسن الجوار الموقّع في القدس بين بريطانياوفرنسا، تخلت فرنسا عن سهل الحولة الى بريطانيا. الا ان هذه الحدود بقيت على الورق ولم تتحول الى حدود معترف بها دولياً. وفي 3/2/1922 عقد الكولونيل البريطاني نيوكمب والكولونيل الفرنسي بوليه اجتماعاً اسفر عن اتفاق جديد لترسيم الحدود بين لبنانوفلسطين. وبموجب "اتفاق نيوكمب - بوليه" تزحزح خط الحدود شمالاً فصار يتجه من رأس الناقورة شرقاً بدلاً من قرية الزيب، ونُقلت القرى السبع وقرى اخرى، الى منطقة النفوذ البريطاني، اي الى فلسطين. ولهذا يقول لورنس العرب: "كانت حدود مناطق النفوذ في اتفاق سايكس - بيكو منافية للعقل والواقع، الا انها كانت افضل ألف مرة من الحدود التي تم التوصل اليها في 3/2/1922". قصارى القول ان الحدود التي رسمها الفرنسيون والبريطانيون لتفصل فلسطين عن لبنان لم تراعِ رغبة السكان ومصالحهم بتاتاً، ثم جاء اتفاق الهدنة في 23/3/1949 ليكرس خطوط الامر الواقع التي نشأت جراء حرب 1948 فيقتطع مساحات جديدة من اراضي بلدات رميش ويارون وعيترون وبليدا وميس الجبل وحولا والعديسة وكفركلا، ويضمها الى فلسطينالمحتلة، علماً ان اراضي القرى السبع مسجلة في الدوائر العقارية اللبنانية ومعظمها كان يتبع ادارياً قضاء صور حتى العام 1926. سكان القرى بلغ عدد سكان القرى السبع في سنة 1945 نحو 4770 نسمة موزعين على النحو الآتي: ابل القمح 330، صلحة 1000، تربيخا 1000، قَدَس 390، المالكية 360، هونين 1620، النبي يوشع 70. وبلغ عددهم في سنة 1994 نحو 25 الفاً. وكانت القوات الصهيونية احتلت هذه القرى في سنة 1947 - 1948 وطردت سكانها الى لبنان بعد ان ارتكبت مجزرتين: الاولى في قرية الخصاص في 18/12/1947 ذهب فيها 10 ضحايا بينهم 5 اطفال، والثانية في صلحة في 30/10/1948 راح فيها 105 من اهالي البلدة. وفي لبنان صُنف الكثير من اهالي القرى السبع فلسطينيين، وسُجلت اسماؤهم في وكالة غوث اللاجئين الاونروا وفي المديرية العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، ومُنحوا وثائق سفر خاصة باللاجئين. وبهذه الصفات عوملوا كبقية الفلسطينيين فحرموا من حق العمل في المؤسسات العامة والخاصة. رافقت مسألة جنسية اهالي القرى السبع مختلف العهود الرئاسية اللبنانية، ولم تجد لها حلاً الا في سنة 1993 عندما اصدر الرئيس الياس الهراوي مرسوماً منح بموجبه اهالي القرى السبع واهالي 26 قرية اخرى في الحولة واصبع الجليل الجنسية اللبنانية. ولمزيد من الدقة، فان نحو 15 ألفاً من اهالي القرى السبع نالوا الجنسية اللبنانية في فترات متتالية قبل سنة 1993. وفي سنة 1993 جرى تجنيس نحو 9 آلاف منهم، وبقي نحو الف من اهالي هذه القرى لم يتمكنوا من نيل الجنسية اللبناية لاسباب مختلفة. وسكان هذه القرى هم من المسلمين الشيعة، وكان يوجد بين سكان قرىة إبل القمح بعض العائلات المسيحية القليلة. اما سكان قرى الحولة واصبع الجليل الست والعشرين فهم من المسلمين السنّة. ونال الجنسية، فضلاً عن هؤلاء بعض سكان قريتي اقرت وكفربرعم المسيحيتين. والكثير من هؤلاء الاهالي يقطنون المخيمات الفلسطينية مثل عين الحلوة ومخيم البرج الشمالي، وبعضهم مهجّر من مخيم النبطية الى التجمعات الفلسطينية المتناثرة. ومن طرائف الحال في حمى الانتخابات النيابية اللبنانية سنة 1996 ان احدى السيدات ممن نلن الجنسية قالت عندما سُئلت عمن ترغب في انتخابه نائباً، انها لا تريد ان تنتخب احداً، بل تريد ان تعود الى فلسطين فقط. القرى السبع 1 - إبل القمح او آبل القمح. وكلمة آبل تعني المرج. وهذه البلدة كانت تابعة لناحية بانياس قبل ان تُضم الى فلسطين، بحسب رسم الحدود سنة 1923. وهي تبعد كيلومتر واحد عن الحدود اللبنانية. ودمرتها القوات الصهيونية سنة 1948 وأقامت اسرائيل فوق اراضيها موشاف "كفار يوفال". 2 - تربيخا او طيربيخا، وهذه القرية أُلحقت بمنطقة النفوذ الانكليزي سنة 1923. وثمة مزرعتان تتبعانها هما: صروح والنبي روبين. وانشأت اسرائيل فوق هاتين المزرعين مستعمرة "شومراه"، كذلك اقامت فوق ارض القرية مستعمرة "زرعيت". 3 - صلحة. أصل سكانها من مدينة درعا في حوران في سورية وفوق انقاضها أُقيمت مستعمرة "أفيفيم". 4 - قَدَس. تعتقد بعض المصادر الجغرافية ان هذه القرية بُنيت في موقع بلدة قاوش الكنعانية. ويعود سكان هذه القرية في اصولهم الى منطقة حوران في سورية. وأقامت اسرائيل على اراضيها مستعمر "قَدَش" وفي سنة 1916 أُنشت فيها قلعة "يفتاح". 5 - المالكية. تبعد 500 متر فقط عن الحدود اللبنانية، واشتهرت بالمعركة التي خاضها المتطوعون للجهاد والجيش اللبناني في 13/5/1948 ضد القوات الصهيونية، وسقط فيها النقيب محمد زغيب وكان من بين المشتركين في القتال السيد معروف سعد الذي اغتيل في شباط فبراير 1975 في اثناء تظاهرات الصيادين ضد شركة "بروتين" في صيدا. وكان مقتله الشرارة التي أدت، لاحقاً، الى انفجار الحرب الاهلية اللبنانية. وأقامت اسرائيل فوق اراضي القرية مستعمرة "ماليكاه". 6 - النبي يوشع. يعتقد سكان هذه القرية ان النبي يوشع بن نون مدفون فيها. لكن اليهود ينكرون ذلك تماماً. والحقيقة ان مزاراً ليشوع بن نون موجود في القرية. وكان ابتداء السكن في هذه القرية عندما جاء نحو 50 شخصاً من آل الغول ليخدموا المزار فأقاموا فيها. وفي سنة 1957 اقامت اسرائيل فيها نقطة مراقبة سُميت "متسودت يوشع"، وأنشأت ايضاً مستعمرة "راموت نفتالي". 7 - هونين. تقع على بعد 500 متر من الحدود اللبنانية. وفي هذه القرية رفع المجاهد صادق حمزة العلم السوري فوق احد بيوتها بعد اعلان الملك فيصل استقلال سورية. وبعد سنة 1948 أنشأت اسرائيل فوق اراضيها موشاف "مرغليوت". 26 قرية في الجليل ضمت منطقة النفوذ البريطاني، بحسب اتفاق سايكس - بيكو ولاحقاً بحسب اتفاقية الحدود لسنة 1923، نحو 26 قرية، فضلاً عن القرى السبع، يقع معظمها في اصبع الجليل هي: النخلية، المطلة، الصالحية، الناعمة، الخالصة، الزويّة، المنصورة، اقرت، كفربرعم، النبي روبين، البصة، الذوق التحتاني، الذوق الفوقاني، خان الدوير، العباسية، دفنة، معسولة، حانوتا، اللزازة، الدوارة، الخصاص، صروح، المالكية، الجردية والدحيرجة. وكان هدف هذا الضم واضحاً تماماً وهو السيطرة على منابع المياه المتساقطة من جبل الشيخ، وعلى مجاري روافد نهر الاردن. مزارع شبعا وأراضٍ اخرى بعد حرب حزيران يونيو 1967 باشرت اسرائيل في ضم مساحات متفاوتة الاتساع من مشاعات القرى اللبنانية الحدودية، فضمت اراضي من مزرعة نبع الوزاني، واستولت على اراضٍ تابعة لبلدتي كفرشوبا والهبارية، وسيّجت 1800 دونم من اراضي بلدة العديسة، و500 دونم من اراضي بلدة عيترون، و150 دونماً من اراضي بلدة علما الشعب، و50 دونماً من اراضي بلدة عيتا الشعب، و15 دونماً من اراضي بلدة رميش. والى هذه المساحات استولت اسرائيل في 15/6/1967 على ست مزارع تابعة لبلدة شبعا هي: مغر شبعا، خلة غزالة، ضهر البيدر، رويسة القرن، جورة العقارب، فشكول، وهجّرت سكانها وقتلت منهم المواطن شحادة احمد موسى. وفي 20/6/1967 احتلت ثلاث مزارع هي: قفوة، زبدين، رمتا. وفي 25/6/1967 أكملت استيلاءها على المزارع الآتية: بيت البراق، الربعة، برختا التحتا، برختا الفوقا، كفر دورة، مراح الملول. وفي آب اغسطس 1967 استولت على مزرعة بسطرة. وأدت هذه العمليات الى تدمير نحو 800 منزل والى طرد 400 عائلة كانت تسكن فيها بشكل دائم، و500 عائلة كانت تقيم فيها موسمياً، ومنعت 6 آلاف عائلة من استثمار املاكها في هذه المنطقة. وفي سنة 1985 انشأت اسرائيل ثلاث مستعمرات خصصت لاسكان يهود الفالاشا: الاولى في رويسة القرن والثانية في زبدين والثالثة في الجوار. وابان المواجهة السورية - الاسرائيلية في حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 تقدمت القوات الاسرائيلية من مرتفعات جبل الشيخ لتقتطع عدداً من المواقع اللبنانية التابعة لبلدة شبعا: منها جورة العليق وبركة النقار والسواقي وتلة السنديانة. على طاولة المفاوضات الموقف الاسرائيلي، باختصار، يقول: ان من المحال اعادة اي قرية من الثلاث والثلاثين قرية المقتطعة الى لبنان، فدون هذا الامر خرط القتاد، ويحتاج استرجاع هذه القرى حرباً ظافرة وحاسمة. وهيهات ان يُنجز لبنان او العرب هذا الهدف، فالجميع ذاهب الى السلم ضمن موازين القوى الراهنة، ولا احد يفكر في تغييرها او تعديلها لا الآن ولا في المستقبل. اما الموقف اللبناني فهو، على العموم، بسيط وساذج احياناً، وتعتوره قلة الدراية، فهو لا ينفك يردد الكلام تلو الكلام على ضرورة تنفيذ مضمون القرار 425 الذي ينص على الانسحاب الاسرائيلي، بلا قيد او شرط، الى الحدود الدولية. غير ان المطالبة بالانسحاب الى الحدود فيها "قطبة مخيفة" هاكم بيانها: ان المفاوض اللبناني ليس في مهمة سهلة، بل انه في مأزق صعب جداً، فهو غير قادر على المطالبة باستعادة هذه القرى وفي الوقت نفسه يكرر المطالبة بالانسحاب الى الحدود الدولية بحسب نص القرار 425. لأن الحدود الدولية التي اقرتها عصبة الامم وصارت بموجب ذلك الاقرار شرعية، تقع الى الشمال من هذه القرى، بل من القرى الست والعشرين الاخرى. فالاعتراف بالحدود الدولية والاقرار اللبناني بشرعيتها ينتزعان من المفاوض اللبناني الحق في المطالبة بالقرى المقتطعة. ان الحدود الدولية هي التي رسمت التخوم وفصلت 33 قرية "لبنانية" عن لبنان. فهل يستطيع المفاوض اللبناني ان ينحّي جانباً قضية الحدود الدولية ويتقدم نحو المطالبة باستعادة هذه القرى كلها؟ ام يضحي بهذه القرى ليكسب انسحاباً الى الحدود الدولية؟ وحتى لو كانت المطالبة بعودة القرى الى الوطن الاصل من قبيل زيادة محصلة الاوراق التفاوضية، فان لدى المفاوض الاسرائيلي الخصم اوراقاً من هذا القبيل تلغي فعالية اوراق الطرف اللبناني. فاسرائيل ستعرض حينذاك، المبادرة بأراضٍ اشتراها اليهود قبل نحو مئة سنة في مرجعيون وجوارها. والهدف اجراء تبادل للاراضي على الورق بحيث تحتفظ اسرائيل بما تحت يديها الآن، وان لزم الامر فهي مستعدة للتسويات المالية كأن تدفع بعض التعويضات لمالكي المزارع المقتطعة في العرقوب ونواحٍ لبنانية اخرى على امتداد الحدود. وبدلاً من ذلك فان من المجدي ان يتم الاصرار على انسحاب القوات الاسرائيلية لا الى "الحدود الدولية" بل الى خط الهدنة كما كان في 23/3/1949، فخط الهدنة هو مجرد خط لوقف اطلاق النار بين جيشين ولا يكرس اي حقوق سيادية للخصم. وحتى لو تطابق الخطان في الكثير من النقاط والعلامات، فان هذا الامر من شأنه ان يُجنّب لبنان الاعتراف الرسمي بالحدود الدولية، اي الاعتراف بشرعية حدود الدولة الاسرائيلية، ويُبقي لديه ورقة المطالبة باستعادة القرى المقتطعة. * كاتب فلسطيني، عضو هيئة تحرير مجلة "الدراسات الفلسطينية".