بعد مرور اسبوعين على تسلمه مقاليد السلطة في اسرائيل سارع ايهود باراك للعودة الى الدفاتر القديمة لحكومة حزب العمل الاسرائيلية السابقة برئاسة اسحق رابين متصفحاً الصفحات الأولى دون الاخيرة ومردداً بعض ما كانت تردده تلك الحكومة في سنة حكمها الأولى، بينما كان العرب والسوريون تحديداً، ينتظرون منه قراءة الصفحات الاخيرة بصوت عال والانطلاق منها لاستكمال المفاوضات مع سورية من نقطة توقفها، ولاستكمال الاتفاق معها بشأن ال20 في المئة من المسائل المتبقية بعد ان تم انجاز 80 في المئة منه حين توقفت المفاوضات في شباط فبراير 1996. فقد عاد باراك وغيره من المسؤولين في حكومته الى تكرار القول بأن اسرائيل ستنسحب في الجولان وليس منه وانها ستعيد بعض الجولان وليس كله الى سورية، وانها ستنسحب الى خط الحدود الدولية التي سبق وان رسمها عام 1923 بين فلسطين وسورية خبراء الانتدابين الفرنسي والبريطاني ووافقت عليه عصبة الأمم وأقرته في عام 1934، وانها ترفض بالتالي الانسحاب الى حدود 4 حزيران يونيو 1967 بزعم ان سورية استولت على جزء من الأراضي الاسرائيلية في الجولان في حرب 1948 ولا يحق لها المطالبة بهذه الأراضي. يذكر في هذا الصدد ان المفاوضات البريطانية - الفرنسية للتوصل الى اتفاق ترسيم الحدود الدولية بين سورية وفلسطين عام 1923 استغرقت نحو اربع سنوات رسم خلالها اكثر من خط للحدود وتم التوصل الى اكثر من اتفاق، كانت فلسطين بموجبها تتقلص تارة وتتوسع تارة في حدودها مع سورية ولبنان الى ان استقر الأمر على خط الحدود الذي رسمته لجنه نيو كب - بوليه عام 1923 والذي عكس الى حد بعيد قوة الجانب البريطاني في المفاوضات مع فرنسا وسعيه الى تأمين اكبر قدر من المياه لفلسطين نزولاً عند الضغوط والمطالب الصهيونية والى ضمان اكبر مساحة ممكنة لها ضم العديد من القرى والمزارع اللبنانية والسورية. وحين حصلت سورية على استقلالها عام 1946 سارعت الى الاعتراض على تلك الحدود بسبب تخلي سلطات الانتداب الفرنسي عن اراض سورية لبريطانيا وضمها الى فلسطين، الا ان الجانب البريطاني رفض عام 1947 اعادةالنظر في ترسيم الحدود بدعوى ان عصبة الأممالمتحدة أقرت تلك الحدود ووافقت عليها عام 1934. في حرب عام 1948 تمكن الجيش السوري من استعادة بعض تلك الاراضي على امتداد الحدود. وقد سعت اسرائيل ابان مفاوضات الهدنة عام 1949 الى سحب الجيش السوري منها الى خط حدود 1923 الا ان سورية رفضت الاستجابة للمطالب الاسرائيلية وحين تم التوقيع على اتفاقية الهدنة في تموز يوليو 1947 جرى اعتبار معظم تلك الأراضي مناطق مجردة من السلاح الا ان اسرائيل عمدت في الخمسينات الى فرض سيطرتها بالقوة على نحو ثلثي تلك المناطق. تلح اسرائيل في تصريحات مسؤوليها السياسيين وكتابات مفكريها وباحثيها من سياسيين وسواهم على التمسك بالحدود الدولية المرسومة عام 1923 مع سورية ولبنان، تماماً كما ألحوا من قبل على الحدود المرسومة بين فلسطين وكل من مصر والأردن. وهم في الحاحهم هذا يحاولون تصوير اسرائيل وكأنها هي التي كانت تحت الانتداب البريطاني وليس فلسطين، وبالتالي فانها الوريث الشرعي لفلسطين الانتداب في تلك الحدود، وهم إذ يلحون على ذلك يمارسون واحداً من اسوأ ادعاءاتهم الكاذبة وتزييفهم المستمر للتاريخ حتى اليوم بما في ذلك التاريخ الحديث والمعاصر. فالعالم كله، بما في ذلك بريطانياوالولاياتالمتحدة، يرفض الى اليوم اعتبار اسرائيل الوريث لفلسطين في حدودها الانتدابية السابقة ويرفض الاعتراف لها بذلك على رغم الحاح قادة اسرائيل وقادة الحركة الصهيونية منذ عشرينات هذا القرن. فقد سبق لبريطانيا ان اعترفت إبان انتدابها على فلسطين، من العشرينات وحتى الأربعينات، وفي اكثر من كتاب ابيض صدر عنها وفي اكثر من مشروع بريطاني لتقسيم فلسطين بدءاً من مشروع لجنة بيل الملكية البريطانية عام 1937 بأنها لم تقصد عبر وعد بلفور ان تجعل من فلسطين كلها وطناً قومياً لليهود، وان هذا الوطن سيقوم على جزء من فلسطين في الخامس عشر من ايار مايو عام 1948. وتبنت الولاياتالمتحدة منذ اواسط الأربعينات الموقف البريطالني ذاته وكان التعبير الأمثل لتبنيها هذا الموقف الضغوط التي مارستها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 لإقرار القرار رقم 181 في 27/11/1947 المتضمن تقسيم فلسطين الى دولتين: عربية ويهودية مع تدويل القدس واقامة اتحاد اقتصادي بين الدولتين. ولوحظ في قرار التقسيم انه ينص على تعيين حدود الدولة الفلسطينية تفصيلاً بينما عين حدود الدولة اليهودية مقرونة بالدولة الفلسطينية، وما زال هذا القرار الى اليوم ومعه القرار 194 لعام 1948 المتضمن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين معترفاً به سواء من قبل الولاياتالمتحدة او بريطانيا او غيرهما من الدول، وقد وصف القرار 181 والقرار 194 من قبل الأممالمتحدة بأنهما من القرارات غير القابلة للتصرف ويشكل تنفيذهما من جانب اسرائيل جوهر الحل العادل للقضية الفلسطينية بوصفها جوهر الصراع العربي - الصهيوني. والأمر المثير للدهشة ان قادة اسرائيل الذين يظهرون تمسكاً بحدود 1923 ويطالبون سورية بالالتزام بها، يحاولون ذر الرمال في العيون عن حقيقة ان قادة اسرائيل حين أعلنوا عن قيامها في 15 ايار 1948 اعتمدوا على قرار التقسيم في ذلك وان الاعترافات التي حصلت عليها اسرائيل آنذاك انما كانت تعترف باسرائيل ضمن الحدود التي عينها القرار 181، وعن حقيقة ان قادة اسرائيل قد وافقوا بعد عام 1948 وعبر قبولهم ببروتوكول لوزان والخريطة المرفقة به على القرارين 181 و194 وتنفيذهما، وكان هذا القبول الاسرائيلي شرطاً لقبول عضوية اسرائيل في الأممالمتحدة، الا انهم سرعان ما تناسوا موافقتهم تلك واستمروا في التوسع الى ان استولوا على معظم اراضي فلسطين عدا الضفة والقطاع. يحق لسورية اليوم، وكذلك للدول العربية الاخرى وخصوصاً الجانب الفلسطيني، في ردها على ادعاءات اسرائيل بشأن الانسحاب من الجولان الى حدود 1923 والزاعمة ان سورية استولت على جزء من الأراضي الاسرائيلية في الجولان في حرب 1948، ان تطرح من جديد على بساط البحث في الأممالمتحدة وغيرها مسألة حدود اسرائيل في اطار قرار التقسيم والاعترافات التي حصلت باسرائيل منذ الاعلان عن اقامتها. وقد اعلنت مصادر ديبلوماسية سورية رفيعة المستوى انه اذا كانت اسرائيل تريد بحث موضوع الأراضي الفلسطينية فان عليها ان تبدأ بالقرار 181، والخرائط المرفقة به بشأن حدود الدولة الفلسطينية وحدود الدولة اليهودية، وعلى اسرائيل بالتالي ان تعيد كل الاراضي التي احتلتها عام 1948 وكانت مخصصة للدولة الفلسطينية في ذلك القرار. واذا ما أعاد العرب طرح هذه المسألة فانهم يطرحون من جديد شرعية احتلال اسرائيل لأراضي تلك الدولة ورفضها تنفيذ القرار 181 الذي ما زال معترفاً به من قبل الأممالمتحدة والعالم اجمع، ولعل احد اكبر الأدلة على استمرار الاعتراف به، بما في ذلك الاعتراف الاميركي به، هو رفض المجتمع الدولي نقل السفارات من تل ابيب الى القدس ورفضه الاعتراف بالقدس الغربية اولاً وبالقدس الموحدة بعد احتلال اسرائيل للقدس الشرقية عام 1967، ثانياً، عاصمة لاسرائيل، نظراً لاستمرار الالتزام الدولي بالقرار 181 الذي ينص على تدويل القدس ورفضه اي سيادة اسرائيلية عليها. فهل تستمر اسرائيل في الإلحاح على الانسحاب من الجولان الى الحدود الدولية المرسومة عام 1923؟ وهل يكون ذلك دافعاً مشجعاً للدول العربية لاعادة طرح مسألة حدود اسرائيل كما حددها المجتمع الدولي عبر القرار 181؟ أم ان اسرائيل تضغط من خلال طرح مسألة حدود 1923 في المفاوضات مع سورية ولبنان للحصول منهما على اعتراف باسرائيل ضمن الحدود التي استقرت فيها حتى الرابع من حزيران 1967 تماماً كما حصلت على ذلك من خلال الاتفاقات مع كل من مصر والأردن وبالتالي السعي الى طي قرار تقسيم فلسطين؟ * كاتب فلسطيني، دمشق.