مقاطع من سيرة ذاتية، ننشرها لمناسبة إغلاق سجن المزة في دمشق -1- ... ... دخلت الى سجن المزّة في سنة 1955، في أثناء قيامي بخدمة العلم. دخلتُ، تحيط بي الخوذ والرّشاشات، محفوفاً بوجوهٍ كالحة، لا يفارقها العبوس - ربّما رمزاً لرجولة القمْع، أو لفحولة السلطة. اعتُقِلتُ في حلب، في كلية ضباط الاحتياط، و"الجريمة" التي اعتُقِلتُ من أجلها، وقعت في دمشق! لا بُدّ من أنّه كان لي في نظر السلطة آنذاك، قوّة خفية تجعلني حاضراً في أيّة مدينة، متى شئت، ولحظة أشاء، مهما كانت المسافات التي تفصل بين هذه المدن! - أدِر وجهكَ الى الحائط! لم أكن أملك أيّة قدرةٍ تتيح لي أن أعترضَ على هذا الأمر، إلاّ قدرة واحدة: الضحك. ضحكت، فيما أدير وجهي الى الحائط، امتثالاً لذلك الآمر. غير أنني فوجئت، فيما أضحكُ، بضربةٍ كبيرة على أسفلِ رأسي كادت أن تهدّني، ترافقها شتيمةٌ أكبر. ازداد ضحكي. لكن، هذه المرّة، داخل نفسي. وأخذت، مديراً وجهي الى الحائط، أتجوّل خيالياً في فضاء سورية. الأبجدية. الكلام الإلهيّ الأول مع أرضها. قبر محيي الدين بن عربي. يوحنّا المعمدان تحت سقف الجامع الأموي. قبر معاوية قبره، للمناسبة، ترابٌ ممهدٌ، ولا شاهدة له. الكتب التي حوّلها صلاح الدين الى حطبٍ في مدافئ القاهرة. السّهرورديّ - والغريبُ أن الخيال شطح بي الى الأطراف المناقضة، وشُبّه لي أنني أرى: جدراناً تنثقب من تلقائها، وتصيرُ نوافذ، سجوناً تثور على نفسها، وتحاولُ أن تصير مدارس وجامعات، معسكراتٍ تتحوّل الى بساتين، بنادقَ ورشّاشاتٍ تتحوّل هي كذلك الى محاريث ومناجل للزّرع والحصاد. وقلت في نفسي: شكراً لأوفيد، شاعر التحوّلات. وسمعت في أعماقي صوتاً يصرخ شبه مبحوح: لكن، لكن من أين للإنسان الحقّ ألاّ يرى في الشجرة، إلا عصاً أو كرسيّاً؟ ثم، تحت وطأة الخُوذ والرشاشات إياها، أفَقْتُ من أحلام يقظتي هذه، وأخذت بطيئاً بطيئاً أقيس المسافة التي تفصل بيني - أنا إيكارُوس، وبين السّماء التي سأسقط منها، ميتاً. ... سؤالي الآن، سؤاليَ الملحّ على نفسي أولاً، هو: لماذا لم أكن قادراً، آنذاك، على الشعور أو التفكير بأن الحياة حولي، الحياة التي أعيشها، ظلامٌ غامر، أو بأنها لا تستحقّ أن تُعاش، أو بأنها تتهرّأ وتتفتّت؟ ولم أكن قادراً على الشعور باليأس. ولم أكن قادراً حتّى على الحزن. كانت لديّ ثقة كبرى - لا بنفسيَ، وحدها، وإنّما قبل ذلك بالآخر، الآخر الذي لا يمكن، كما كنت أعتقد، إلاّ أن يكونَ مسكوناً بالضّوء - الضوء الذي سينْفجرُ، بغْتةً، ذات يوم، قريباً جداً. ... هذا كلّه، على الرّغم من أن العالم، حولي، كان يبدو في عقْليَ وتأملاتي، كمثل مسرح من الرمل المتنقل، تتدحرج فوقه شخوصٌ لا نستطيع أن نميزها: أهي كتلٌ من الطين، أم دمى من القش؟ فيما تُحيط بهذا المسرح أوركسترا من النّفاق العَليم الذي يكاد أن يكون ملحميّاً. وفيما كنت أحسبُ أن الأفكار والكلمات التي تتداولها الرؤوس والألسن ليست إلاّ عظاماً منخورةً تُنْبشُ من ذلك القبر الهائل الذي يُسمّى التاريخ... * صباح الليلة الأولى التي أمضيتُها في قاووش ليس للبشر، جسماً زُرِبَ بين أجسام تتلاطم ويرتطم بعضها ببعض،- في صباح هذه الليلة، نَفَرَ من جبيني، عِرْق امتدّ من أعلى جبهتي حتى طرف حاجبي الأيمن، وبرزَ كثيراً حتى أنني كنتُ كلما نظرتُ إليه، أحسبه وتر قيثار تكاد لمسة خفيفة أن ترجّهُ وأن تجعل موسيقاه تنسكبُ دماً. * هنا، مِلْء هذا القاووش، كان الهواء الذي يتسرّب إلينا من شقوق كمثل ثقوب الإبر، يحمل مزيجاً مرعباً: روائح تنبعث من مقابر العقول، أرائك تنهضُ على بُسط حيكت من آلام البشر، مناديل تتقطر منها دموع الأمهات، أفواهاً طافحة بكلام شبيه بديدان عائمة. وكنتُ فيما أحتضن رئتيَّ، اتقاءً ومقاومةً، يختلط في شعوري المأمور بالآمر، والوطن بالمنفى، والأفق بالنّفق، ويُشبَّهُ لي أن الأرض التي أنتمي إليها شطرنجٌ ضخمٌ من شهوات التدمير والقتل، تلعب فوقه زواحف، وكرات، ومسامير، وشباك، وآلاتٌ من كل نوع، تتأرجح كلّها فوقَ هاويةٍ بلا قرار آهِ ، كلاّ، لا تَيْبَسْ رجاءً، أيها السجين الأخضر! * موسيقى! لا مِن الوتر، وليس من مصادرها الطبيعية الأخرى. إنها تنبعث من أسفل جدارٍ يفصل بين القاووش الذي زُربت فيه، والقاووش الذي زُرب فيه ذوو الرّتب العسكرية. والآلات العازفة ملاعق، ورؤوسٌ معدنية حادّة، بينها، على الأرجح، سكاكين. ليلة، ليلتان، ثلاث، عشر- ها هُوَ ثقبٌ في أسفل الجدار، يتّسع لإرسال ورقةٍ مطويّة بشكل أسطواني، ثقبٌ كأنه نافذة على المستحيل. وأخذ الأصدقاء في القاووشين يتبادلون الرسائل. وعرفتُ أن الضابط المعتقل ألكسي شبيعة كان وراء هذا التخطيط لفتح هذا الثقب. كان مثقفاً، ويحبّ الشعر. سلاماً، ألكسي! لا شيء، لا شيء يقدر أن يتغلّب على إرادة الإنسان الذي يسمّيه باسكال: "القصَبة المفكّرة". * ليلاً، أشعرُ كأن رأسي منفصلٌ عنّي، وأنه يطوف وحده، بعيداً. أُلامسه لكي أتيقّن أنّه لم يسقط بعد في حفرة ما. أنظر الى رؤوس الذين يتمدّدون حولي، قائلاً للعيون التي لا تزال تتلألأ فيها. انظري إليّ، تأكدي من أنّ رأسي لا يزال بين كتفيّ، وطمئنيني. وأهلاً بهذه الشمس السرّية التي تشع في خلاياي. * موسيقى! غير أنها، هذه المرة، موسيقى ماءٍ تنزلُ نقطةً نقطةً على رأسي، من سقف زنزانة. فُرِض عليَّ فيها أن أظلّ واقفاً، رافعاً يديّ الى الأعلى - طولَ الليل. تعبت يداي. وصارَ جسمي على وشَكِ أن يعوم بين سَقف الزنزانة وأرضها. أَسْبَلتُ يديّ مُرهقاً حتى العظم. غير أن الشرطيّ الحارس سُرعانَ ما هجَم عليَّ وضربني على رأسي ضربةً أكاد أُحِسّ بهولها حتى في هذه اللحظات التي أكتب بها هذه الخواطر، بعد نصف قرن تقريباً. رفعتُ يديّ من جديد، وأنا شِبْهُ عاجز عن الوقوف على قدميّ. بعد فترة قصيرة، أحْسستُ بالشرطيّ الحارس يمسك بيديّ، سامحاً لي أن أسبلهما، دون أن يكلّمني. بكيتُ آنذاك - ولا أعرف لماذا. أعرف أنني لم أرتكب أيّة جريمة. وليس في حياتي غير عذاب الركض وراء المعرفة. ولا أملك إلا أوراقاً كتِبَتْ عليها كلماتٌ بينها الضوء والماء، وبينها الخبز والحب. * من أين لي هذه القدرة على المقاومة؟ حُنجرتي غناء، وأنفاسي تتصاعد عالية، وفي أعماقي هدير يكاد أن يجتاح الفضاء. أُمسِك بنفسي كأنني أمسك بزلزال وأهزّ بها جدران السجن - أنا النّاحل الذي تهزُه من رأسه الى أخمص قدميه نظرة عاشقة، أو ابتسامة صديقة. ما الذي كان يبعث فيَّ هذه القوة؟ وما هي تلك الطاقة التي كانت تعلو بي، ومن أين جاءت؟ * هوذا، فيما وراء السجن، كنتُ أعيد ابتكار أيامي - قصّابين، مدرسة الكُتّاب تحت السنديانة، المدرسة الحكومية البعيدة الفقيرة، رفقاء الطفولة، التنّور والخُبز الأسمر المقمَّر، المنجل والبيدر، النومُ في فراشٍ معلقٍ في حضن شجرة التّوت التي تظلّل البيت الطِّيني الوادع. وكنتُ أمزج قصّابين بالمدن التي أتخيّلها- باريس، أولاً، وبعدها بقيّة العواصم، شرقاً وغرباً، وأوشوشُ انحائي: سيكون هناك سُلَّم وسوف أصعد عليه، وأصافح هوميروس ودانتي، غوته ونيتشه، بودلير ورامبو، وبقية الخلاّقين في هذه الخليقة التّاعسة، بعد أن أكونَ صافحت أمرؤ القيس وأبا نوّاس والمعرّي، وأبا تمّام والمتنبي، وسائر أصدقائهم الذين أعطوا لمجدنا اسمَه، ولحياتنا معناها.