لا يغرق كتاب "اللبنانيون في التيتانيك" لميشال كرم نشر خاص في خصوصية عنوانه. وإنما ينطلق منه مدخلاً لإلقاء الضوء على صورة الهجرة اللبنانية الى أميركا في بداية القرن الماضي، ظروفاً وأسباباً ونتائج. ويغلب الطابع التوثيقي المستند الى البحث الميداني، إضافة الى الوثائق والصور من صحافة الاغتراب والرسائل المتبادلة بين اللبنانيين المقيمين وأقاربهم المهاجرين على معظم هذا العمل. وإن كان صدور الكتاب عقب الفيلم الأميركي الضخم الذي أنتج عن كارثة التيتانيك يشكّل جاذباً اضافياً للاطلاع على مضامينه إلا أنه يجعل القارئ في مواجهة معلومات مألوفة لديه من الذاكرة المرئية وصورها، ويدفعه الى البحث عن أوجه التطابق بين ما يقدّمه الكتاب وما بقي في الذهن من أحداث الفيلم. فيتحول في بعض جوانبه الى شهادة، - يتمتع بها دوماً ما هو مكتوب - لصدقية الأحداث التي تعرّف اليها في عمل كاميرون حيث يميّز ما ينتمي الى الحقيقة وما يمت الى الخيال في الرواية المصوّرة. ولعل ما يميّز هذا الجهد التوثيقي الدقيق هو تنوع المناخات والمواقع التي انطلق منها كرم لتقديم صورة شاملة للهجرة اللبنانية بداية القرن العشرين. فهو يغوص في تاريخ لبنان في تلك المرحلة الصعبة حيث تطاولٌ على الحريات وإثقالٌ لكاهل المواطن بالضرائب. ثم ينتقل الى شروط السفر المالية والصحية وتنظيمها على يد شركات متعددة الجنسية. ويحتل وصف باخرة التيتانيك بكل التفاصيل التقنية التي ميّزتها حيّزاً مهماً من العرض التوثيقي للكتاب. أمّا غرق السفينة فيختلط فيه طابع الوصف والسرد كأن يرافق الكاتب تطورات عملية الغرق كمصوّر، يعكس بكاميرته المتنقلة مشاهد متعددة لأشخاص عاشوا هذه اللحظات. ولم يسقط الموثق الجانب الاحصائي فأشار الى اعداد الركاب الذين غرقوا، والذين نجوا، اضافة الى الفئات التي ينتمون اليها. ويتوسع في تحديد عدد الركاب اللبنانيين وهويتهم مستنداً الى مصادر عدة في توزيعهم جنساً وهويات وأعماراً. ولعل هذا السعي العلمي، الذي يغرق القارئ في معلومات متشعبة وسط السرد القائم، كان يحتاج فعلاً الى ما أعقبه من أجواء الغرابة والأسرار المحيطة بالغرق. من هنا، تطلّ رواية المومياء الكاهنة المشؤومة التي كانت على متن السفينة وسببت الحظ التعس، ومسألة تلك الجوهرة الجميلة التي جلبت الشقاء وقد تطرّق اليها الفيلم أيضاً. ويختم كرم الجزء الأول من الكتاب ببداية منهجية للجزء الثاني، حيث يورد الناجين والغارقين اللبنانيين بالأسماء ويحدد المناطق والبلدات التي ينتمون اليها، تمهيداً للتوسع أكثر في تفاصيل حياة ابطال عملية الغرق، ليس على السفينة فحسب، وإنما في بحث عن جذورهم وأسباب هجرتهم وخلفياتها، فضلاً عن مصيرهم بعد النجاة وحياتهم في الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي هذا الجزء تتجلى الرغبة في تصوير هذه الشخصيات تحت المجهر، بعد ان وضعها الكاتب وسط تبويب مناطقي يحدد مصدر انطلاقها. وتناول اطارها العائلي، ومسيرتها الحياتية والاقتصادية فتتحول بذلك كل شخصية تم تناولها الى مناسبة لدفق من المعلومات المتنوعة والمتشابكة التي تمزج استنتاجات الحاضر بروايات الماضي، والأحداث المجرّدة بكيفية تفسيرها كمثل عودة أدال قيامة احدى الناجيات الى السفينة كي تحمل بعض الأغراض متأسفة على "مراطبين الدبس" التي لم تستطع انقاذها من الغرق. وبعض هذه الشخصيات آسر، إذ انه يعطي نموذجاً عن الأسلوب اللبناني في التصرف سواء كانت الصورة تعكس الناجين من الغرق أو اقرباءهم. وفي الوقت عينه، يروي اسطورة النجاح اللبناني في بلاد الاغتراب فضلاً عن العذابات التي قضاها هؤلاء لتحقيق نجاحهم وترسيخه فلا تعود تلك الاسطورة اسطورة وانما واقعاً ملموساً، بجانبيه المضيء والمظلم. وتختلط في هذا الجزء مشاهد متعددة لمن هرب في فستان ناجية اجنبية، ولمن انفصلت عن عريسها تحت تهديد السلاح وأنقذت شقيقتها وولديها، ولمن هرب من وجه "الضابطية" في لبنان ليغرق في البحر، والسبحة طويلة من الشوير الى حردين وتحوم وفغال وكفر عبيدا وجاج وتولا وعبرين وزغرتا وسرعل والماتور وحدت بيروت وشانية وزحلة وكفرمشكي وتبنين والفاكهة وصفد البطيخ وهي مناطق لبنانية مصدّرة للمهاجرين. ولكل منطقة خصوصياتها ولكل شخصية طرافتها وفي مسار كل رواية عبرة. أما الجزء الثالث فيعرض لأبطال غير لبنانيين كان لهم دور عرفتهم التيتانيك في لحظات الغرق. الكتاب وثيقة مهمة جمعت معلوماتها من مصادر متنوعة تعود الى بداية هذا القرن، منها ما هو صحافي محلي ومنها ما يتكل على ما نشر في الصحف الاميركية. ولا يغيب الباحث عن الموسوعات والكتب المتعلقة بالتيتانيك وعن أرشيف نيويورك الوطني ويورد المراسلات بين المغتربين وأقاربهم ما يجعل عمله جهداً صحافياً وتوثيقياً الى حد بعيد. وهذا الكمّ من المعلومات يتدفق على القارئ ويتشعب في تفاصيل كثيرة قد يتكرر بعضها بين فصل وآخر، حيث يغرقه في بحرها، فلا تنقذه عندها إلا قصة طريفة بين مقطع ومقطع أو أبيات زجلية تروي هول الفاجعة بين قرية وأخرى، أو صورة أو وثيقة عن الناجين ومراسلاتهم مع أقربائهم. ولعلها الرغبة المطلقة في الشمولية هي التي حدت بالكاتب على التوسع في حكاية كل عائلة من الضحايا أو الناجين، بأسلوب مشوّق حيناً وضاغط أحياناً بسرعة الانتقال من موضوع الى آخر في الفصل نفسه. وإذ يتوسع الكاتب في شرح ما يحيط بالشخصية الأساسية من مسيرة العائلة التي تنتمي اليها ومصيرها، الى ظروف السفر وخلفيات حياتها في لبنان والمهجر، تكاد هذه الشخصية تغيب كلياً بعدما تحوّلت مناسبة للحديث عن غيرها. فلربما احتاج الكتاب في هذا الاطار الى تبويب أكثر صراحة والى مزيد من التبسيط في نقل المعلومات حتى لا يضيع القارئ. وتجدر الاشارة الى العناوين الصغيرة لبعض الروايات وهي تحمل روح النكتة واللعب على الكلام وتسجل في خانة ايجابيات هذا العمل على غرار "ضاهر ابي شديد هرب من القضاء فاغتاله... القدر" أو من "الحاكور الى البابور" او "الغرق في الهم قبل الغرق في اليم"... وغيرها. "اللبنانيون في التيتانيك" وثيقة غنية تنمّ عن اجتهاد كبير في السعي الى المعلومات ونافذة على لبنان والمهجر بداية هذا القرن من خلال مناسبة تاريخية عالمية اسمها غرق التيتانيك.