في إطار الفن الجديد الذي تشهده معارض هولندا الفنية، تستقطب غاليري سمايلك وستوكمن في امستردام ولاهاي اهتمام الجمهور من خلال عرض نماذج فنية متقدمة من الفن التشكيلي المعاصر. وهي تشكل نقلة مهمة في الذائقة المعاصرة تتمثل في التعامل مع اللون والخطوط الخفيفة برهافة وشفافية. وتلك تشمل كل مساحات اللوحة في تدرج لوني يضفي على العلاقة بين الشخوص نوعاً من الحميمية الأسرية. فالكلاسيكية الجديدة لا تختلف كثيراً عن تلك البنى التي تؤلف بين الشخصيات ضمن الإطار الواحد، ولكنها تختلف عنها في الموضوع المتحرك وشفافية الألوان وعدم التحديد الكامل لطبيعة الأجسام والوجوه. ثم هذا الموضوع اليومي الذي يشغل تفكير الجميع. فبعد أن قدمت الغاليري معرضاً للنحت في قرابة 750 تمثالاً غزت شوارع المدينتين، وصالات الغاليري الكبيرة، تقدم هذه المرة أربعة فنانين متميزين: الفنان آت فيرهوخ، ضمن مدرسة الكلاسيكية الجديدة، وإبيكا كوردل، ضمن مدرسة الواقعية الحديثة، ودانا اندرييف، في النحت، وجاكوب فيريدا، ضمن فن الديكور ولوحات الصالات. ما يميز لوحة الكلاسيكية الحديثة هو طريقة التنفيذ القائمة على عدم الإغراق في التفاصيل واعتماد الشخوص الثانويين حياتياً، والموضوع الشعبي المألوف، والبنية الدرامية للوحة. ليست هناك ضربات حادة أوعازلة بالفرشاة تفصل بين الكتل، بل ثمة انسيابية لونية تشمل كل الأبعاد مع تميز وتدرج بين الموضوعات والشخصيات. وهو ما يتلاءم ووحدة المشاعر. هذه الانسيابية اللونية الهادئة في فضاء مشغول يحس به الشخوص كلهم تمنحهم انسجاماً كلياً مع المحيط. فهي - أي اللوحة - أولاً تعيد الاعتبار للإنسان بعدما أتت عليه النظرة العدمية في تيار الحداثة وما بعد الحداثة لتهمشه وتقلص وجوده ولتحصره في زاوية محددة من العالم: إنجاب الأولاد، ومن ثم الحروب، وصناعة الأسواق... ولعل الفن التشكيلي نفسه في الكلاسيكية الحديثة، قادر على صوغ وجودنا ثانية بعد أن نعيد له اعتباره الذاتي في كونه فناً مفاهيمياً يقرأ مشكلات الإنسان المعاصر من خلال تجاور اللون نسباً وكتلاً والحساسية الشعرية التي تطبع مساحة أو فضاء اللوحة وعلاقاتها المنسجمة داخلياً... فإضافة الى المتعة الجمالية المهمة في السوق هناك حوار معاصر بين المشاهد واللوحة ولا يجد المشاهد ولا الشخوص فواصل كبيرة بينهم... فالنقد يعيب على لوحة ما بعد الحداثة انحسار سوقها، وجفاف مائها، وانزواءها بعيداً عن العصر وتكرارها موضوعاتها. وهي حقاً لم تخرج من إطار الأشياء المهملة والرؤية البصرية الحيادية وغير المنفعلة، ما جعل الكثير من الفنانين يعيدون النظر في لوحاتهم. وقد شهدنا انسحاراً لهذا التيار في أهم معرضين دوليين للفن التشكيلي في أمستردام لهذا العام على رغم أن التحول بطيء في ذلك. وهذا الأمر دفع عدداً من منتجي الفنون للعودة الى تطوير ما كان قائماً في أواسط القرن العشرين وخصوصاً في بلدان المعسكر الاشتراكي من تيارات فنية لم تلقَ اهتماماً إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لا شك أن الاتحاد السوفياتي أنتج في السابق فنوناً في إطار الواقعية الاشتراكية هي غير رسم الشخصيات والكتل والتماثيل واللوحة الواقعية التي تمجد البطولات والحروب أنتج الى جوارهما جميعاً فنوناً حديثة، منها الكلاسيكية الحديثة التي عارضت الكلاسيكية القديمة تلك التي اعتمدت الموضوعة الدينية والكنائسية والشخصية. وعلى رغم أن البنية الأكاديمية قائمة في اللوحة الكلاسيكية الجديدة، إلا أنها أكاديمية حديثة منفتحة على التجريب والخيال. وهي غيرت من نسب العلاقات بين الأشياء والإنسان وجعلت الإنسان مركزاً للصورة. ولكن ليس الإنسان الجامد أو الساكن الذي ينتظر من يدخله في نسيج حياتي. بل الإنسان وهو في حركة بحث وترقب وتساؤل. اللوحة الجديدة، قد تكون ذات منشأ روسي لكنها تطورت في باريس أربعينات هذا القرن، ومن ثم تعمقت في هولندا ولندن وألمانيا وإسبانيا. وتعد اليوم واحدة من منتجات الثقافة الأوروبية وخصوصاً في هولندا. وأصبح الفنان الهولندي "آت فير هووخ" مميزاً في هذا الاتجاه. فهو من مواليد 1933 ويعني أنه عاصر أهم تحولات الفن التشكيلي في أوروبا، وقدم أكثر من ثلاثة عشر معرضاً منذ العام 1958 في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وباريس وألمانيا. وها هو معرضه الرابع عشر في لاهاي وأمستردام يلقى إقبالاً متميزاً ورواجاً. ميزة اللوحة في فن الكلاسيكية الحديثة كما نشاهدها في نماذجها المختلفة أنها تعتمد العلاقة الجسدية للشخصيات مع مكانها ومواقعها وأظهرت الخطوط الخفيفة الفاصلة بين الكتل أهمية هذه العلاقة وتجذرها. وهذا يعني أن اللوحة ترتبط بحركة منسجمة بين الجسد والمكان فيشملهما الفنان بحساسية لونية مختلفة في درجات قليلة. فيصورها وهي في لحظة حركة درامية. الزمنية هنا محسوسة باللون المتغير وبحركة الأعين والوجوه والأيدي. وكأنها في عمل مسرحي - درامي مادته مخاطبة الناس. فالمساحة التي يجري عليها الحوار مساحة مسرحية مشغولة بألوان معتمة ومضاءة كما لو كانت خشبة مسرح تجسد انفعالات الشخوص. وتتجه اللوحة الى رسم الشخصيات وهي في أوضاع علاقة، كل شخصية متوجهة الى زاوية ما تروي حكايتها، وكأنها تشمل برؤيتها مشهداً جماهيرياً واسعاً بانتظار من يحاورها. هذه المسحة الدرامية فرضت على الفنان إلاّ يتعامل معها بألوان عنيفة أو حادة، لأن ما فيها لا يزال في حاجة للإيضاح. وتهتم لوحة الكلاسيكية الحديثة بتغريب الملابس. فهي ليست غطاء للجسد، إنما هي موضوعة لكساء الروح. وهذه الشفافية لا تشمل الملابس فقط، بل الجسد والكراسي والأشياء. وغالباً ما يضفي اللون الوردي على خلفية الصورة بعداً دنيوياً حاراً يؤكد انفعالات الشخصية وحركتها الصاخبة. فنحن نشاهد اجساماً غير مكشوفة مظهرياً، لكنها مكشوفة عندما تصبح الملابس أزياء ترتديها الشخصية في اللوحة - المسرحية. ولا يمكن الملابس أن تكون هوية للشخصية كما في المدرسة الكلاسيكية. هذا التغريب نجده أيضاً في طبيعة الوجوه والحركة الجسدية. كل الشخوص في أوضاع متحركة. حتى الجالسون منهم يتحركون. ما يعني أنهم في سياق حياتي مستمر. وما وجودهم أمامنا في هذه اللحظة إلا حال من حالات ظهورهم. فهم سيختفون بعد ذلك ليشكلوا لقطة أخرى وأوضاعاً أخرى أمام جمهور مختلف. الزمن بالنسبة لهم لا يتوقف وثمة خطاب مستمر يبثه الشخوص. وهذا الجريان الزمني يؤكده حضور الجميع في لقطة شاملة وفاعلة. فنلاحظ أن معالم الوجوه بروفيلات متجهة الى ناحية ما حيث يوجد حدث يجلب أسماعهم. هذه البنية الدرامية تؤكد ارتباط هذا الفن بالحداثة على رغم محافظته على النسب الأكاديمية في الإنشاء والتشريح. ومن مميزات اللوحة أن الخصوصية الجمالية والديكورية مهمة من مهمات شروط الإنشاء الداخلي فيها. إن الرابط بين العناصر الفنية هنا هو سطح اللوحة. فهناك سلسلة بنائية تؤلف التكوين العام وهذه السلسلة نجدها تبتدئ من الأمام منسحبة الى الخلف في تدرج لوني شفاف وشعري. فالصورة التي نشاهدها تتوسط المسافة بين عمق غير بعيد وبين جمهور تتوجه اليه اللوحة. اللوحة تبدو أمامنا في تناغم وفي وحدة ليس فيها ما هو متناثر وعفوي وليس فيها ما هو زائد أو تزييني غير فاعل. هذا التناغم يعطينا بعداً بصرياً يشرك كل المفردات في تكوين واحد. هل الشخصيات حالمة، مترقبة، تتحدث، تتوق الى العلاقة مع الآخر، تنشد حرية ضائعة، فاقدة للطمأنينة...؟ كل هذه التصورات نجدها عندما نضع هذه اللوحة في سياق اجتماعي. وهو ما تؤكده الكلاسيكية الجديدة. ونلاحظ أن الأشياء في هذه اللوحات تتجرد من كونها أشياء عادية لتصبح علامات. عندئذ يمكن البحث في داخلها عن معان مختلفة. ولعل غياب التفاصيل الجزئية من اللوحة يضعنا في تصور أن هذه المدرسة تعتمد بنية سينمائية مادتها اللقطة الصغيرة و البعيدة، تلك التي تشمل قدراً أكبر من الأشكال المشتركة لتؤلف سياقاً واحداً للمشاهد. كل شخصية تمنح خصوصيتها للأشياء المرتبطة بها. وفي الوقت نفسه تمنح الأشياء الشخصية خصوصيتها بعد أن تتحول الى علامات. وهذه ميزة تكسب اللوحة نوعاً من العلاقة الحميمة بين الإنسان وأشيائه. وهذا ما أظهره الفنان هنا في تنفيذ كوميدي: تسريحة الفتاة، القبعة، ربطة العنق، الملابس، الأشجار، الرداء الشفاف... .