يشير الصراع الدائر اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن نواح سياسية وجغرافية وعسكرية، الى ان الصراع بدأ فعلاً بين اسرائيل الصغرى، من جهة، وفلسطين الصغرى من الجهة الثانية. والجديد في الأمر ليس موقف الفلسطينيين، وإنما هو موقف الاسرائيليين الذين باتوا مضطرين للتصرّف وفق هذا المنطق. ويبدو أن الصراع بين الطرفين يدور في هذه المرة ليس على مبدأ وجود الكيان الفلسطيني، وإنما على حدود هذا الكيان، وترميزات الحدود هذه من النواحي السياسية والثقافية والتاريخية. وفي الواقع فإن توجه باراك لوضع سيناريوهات الفصل مع الفلسطينيين، في ظل ضجيج المدافع وقصف الطائرات والحصارات، إنما يعكس عدم جدية اسرائيل في العملية السلمية، كما يعكس عمق المأزق الذي وجدت اسرائيل نفسها تغرق فيه. فلا هي قادرة على فرض املاءاتها، ولا هي راغبة في الخروج من عملية التسوية. وهذا ما يفسر الوحشية والقسوة والعنف التي تحاول من خلالها دولة الاحتلال التستر على فقدانها السيطرة على الأراضي المحتلة، بعد أن باتت الدولة الفلسطينية، من النواحي السياسية والرمزية والمؤسساتية وعلى الصعيدين الدولي والاقليمي، واقعاً لا يمكن تجاهله. فالفلسطينيون وجدوا أنهم ما زالوا في قلب المرحلة الانتقالية، وذلك بعد أكثر من عام ونصف على انتهاء هذه المرحلة التي أرادتها اسرائيل فرصة لاختبارهم. أما اسرائيل فأكدت أوضاعها الداخلية في أنها غير ناضجة، بل وغير راغبة، حكومة وشعباً، في التسوية مع الفلسطينيين، لا سيما في شأن قضايا الحل النهائي التي تتعلق بالقدس واللاجئين والحدود. والحق ان القيادة الفلسطينية تماثلت، في الفترة الماضية ومنذ توقيعها اتفاق أوسلو، مع عملية التسوية. فهي غامرت برصيدها لدى شعبها، وعلى المستوى العربي، حين وقعت الاتفاق تلو الاتفاق، والمذكرة التي تنسخ ما قبلها، ارجأت أكثر من مرة إعلان الدولة، من أجل اثبات حسن نياتها. وأبدت تفهماً غير مفهوم للاعتبارات الداخلية الاسرائيلية، أكثر من تفهمها بكثير حساسية الشارع الفلسطيني، والاحباط الذي يتعاظم في صفوفه. ولكن اسرائيل هي التي قوّضت هذا الاختبار بتجاهلها حاجات شريكها في عملية التسوية، واستهتارها بحراجة موقفه وعملت كل ما من شأنه هدر كرامة القيادة الفلسطينية، وتقويض مكانتها بين شعبها. وعملت على تفريغ عملية التسوية من معناها ومن مبناها بعدم تنفيذها الاتفاقات الموقعة مع هذه القيادة، وتأجيل عمليات الانتشار، والتملّص من إعادة الانتشار الثالثة في محاولة منها لتعزيز قدرتها على فرض املاءاتها على الطرف الفلسطيني في المفاوضات على قضايا الحل النهائي، كما تبيّن في مباحثات كامب ديفيد. واليوم يخوض الطرفان معركة إرادات. وبناء على هذه المعركة سيتقرر شكل ومصير عملية التسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وهذا ما يفسر النزق السياسي في التعامل مع القيادة الفلسطينية وشراسة الرد الاسرائيلي على الانتفاضة، بما في ذلك استخدام مختلف صنوف الأسلحة لإجهاضها بأسرع وقت ممكن، وبأقسى قدر من الإيلام المصحوب بمجموعة صارمة من اجراءات العقاب الجماعي، ولكن من غير الاقدام على اقتحام المناطق الفلسطينية لمعاودة احتلالها. ومعنى ذلك ان على الفلسطينيين التعامل بمسؤولية وحذر بالغين في هذه المعركة، وتنظيم الانتفاضة نفسها، والحفاظ على طابعها الشعبي والسلمي وعلى وتائرها الممكنة. فهذا ما يمكّنهم من تفويت الاستهدافات الاسرائيلية. وهو الذي يمكّن الانتفاضة من الاستمرار والصمود في معركة الصراع على طول النفس مع الاسرائيليين. * كاتب سياسي فلسطيني.