يستهلك المغاربة نحو عشر اجمالي انتاجهم السنوي، خلال شهر رمضان المبارك. ويقدر حجم هذا الانفاق بنحو اربعة بلايين دولار مجموع الانفاق العام. وتقف وراءه الاسر والشركات والمؤسسات المختلفة في أكبر حدث اقتصادي سنوي من نوعه تعرفه البلاد ويشكّل سوقاً فريدة للتجارة والتسوق والتضامن الاجتماعي. يساعد تغيير مواعيد العمل والاكل في زيادة وتيرة الحركة التجارية والاقتصادية والترفيهية لتبلغ ذروتها في الايام العشر الاواخر من الشهر الفضيل وليلة العيد، حينما تمتلأ الاسواق وترتفع الاسعار ومعها الطلب وتزداد وتيرة الاستهلاك سرعة وتقوى شهية التبضع لدى السكان. وساعدت خطة التضامن التي اعلنها الملك محمد السادس منذ سنتين على توسيع مجال التكافل الاسروي. وتنفق "منظمة محمد الخامس للتضامن" نحو 50 مليون دولار لدعم الفئات الفقيرة واليتامى والارامل والمعاقين، وتكريس البعد الانساني في التعاضد بين الاغنياء والفقراء، كما يوصي عليه القرآن الكريم. ويقدر معدل انفاق الاسر بالضعفين مقارنة ببقية الاعياد الدينية الاخرى مثل عيد الأضحى. وينفق المغاربة في رمضان اكثر مما يفعلون بقية اشهر السنة الاخرى. والانفاق عندهم في هذا الشهر معيار لتحديد تراتبية فصول العام بالنسبة الى الكثير من الاسر المغربية، التي ما زالت تعتمد تقويم الشهر المبارك في اجندتها السنوية. وتقاس على رمضان كذلك وتيرة النمو الاقتصادي، حسب حجم النشاط ونوعيته وحجم السلع المتوافرة المتداولة من سنة الى اخرى. ويستعد المغاربة لرمضان شهوراً قبل حلول الهلال يخزنون فيه السلع الاستهلاكية ويغيرون مواقع جلوسهم داخل البيت، ويرتبون مواعيد خروجهم وتنقلهم ويضبطون توقيتهم على ايقاع ليل اطول من النهار. ويفضل الموظفون والعاملون شهر رمضان، لأنه يمنحهم وقتاً اطول للأسرة والتعليم والرياضة والترفيه وينزع عنهم رتابة العمل ومشقة التنقل مرتين. ويفضله الطلبة الذين يستغلون ليله الطويل للتحصيل او الجلوس في مقاهي الانترنت والدردشة عن بعد وبعث الرسائل الالكترونية عبر الهواتف النقالة التي تباع كالرغيف في اسواق "الجوطية الشعبية"، وتحبذه السيدات لانه يمنحهن سلطة اكبر على جيوب الازواج التي تصبح مطالبة بالتسديد بوتيرة تصاعدية، ويعشقه المخطوبون لتبادل الهدايا وتأكيد تعلق كل منهم بالآخر، ويقيم فيه الشبان مباريات رياضية ومنافسات ثقافية. وحتى المستجدين يحصلون على عائد اكبر مع ازدياد اعداد المتبرعين من شركات وافراد وجمعيات خيرية. وتنشط الاجتماعات والمنتديات الفكرية وتكثر مجالس التحصيل والمعرفة والتعبد وترتفع مبيعات الصحف لتلبية رغبة القراءة واشباع الفضول بمتابعة الأحداث. وتحرص شركات الانتاج من جهتها على تسويق اكبر كمية من السلع والخدمات خلال الشهر الكريم. وهي تتحالف في ذلك مع مؤسسات تمويل القروض الخاصة والمصارف التجارية، في مسعى لجلب المستهلكين واغرائهم، مستخدمة في ذلك كل وسائل الدعاية من الملصقات التي توزع على البيوت وفي الشوارع الى الصحف و الفضائيات ورعاية البرامج والمسلسلات. ويتحول النجوم الى دعاة تسويق مرموقين يوجهون المستهلكين عبر الخلط بين الهزل والجد. لا بل إن الاذاعات نفسها تزيد في اسعار الحلقات الإعلانية تحت ضغط العرض. ويتنافس المعلنون لزيادة عدد المشاهدين والحظوظ المتاحة للمتبارين للفوز في المسابقات وبرامج الاسئلة التي تعرض خلالها شقق وسيارات وتجهيزات الكترونية يعادل ثمنها شهوراً أو سنوات من العمل. ونتيجة ذلك يصطلح المغاربة على تسمية رمضان بالشهر الذي يباع فيه كل شيء من الأرغفة التي تعرضها النساء أمام المحلات الى التجهيزات الالكترونية والمنزلية والسيارات، مروراً بالملابس العصرية والتقليدية، وصولاً إلى الهواتف النقالة والأقرصة المدمجة والايس كريم والمطاعم الجوالة ليلاً وسفريات العمرة الى الديار المقدسة. كل الحرف تجد لها موقعاً في رمضان وجمهوراً وراغبين وزبائن، من العطارين الى باعة الحلي والمجوهرات ومصممي الفساتين ومركبي الهوائيات الرقمية مروراً بالنجارين والصباغين والطباخين والميكانيكيين وأصحاب المخابز والصيدليات والمكتبات، وصولاً إلى رواة قصص سيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة التي ما زال حكيها يعاد تكراره كل سنة بالتفاصيل والابطال والمغامرات نفسها، تماماً كما كان الشأن منذ مئات السنين. وصادف رمضان الجاري فصل الشتاء الذي يزحف تدريجاً معيداً الأمل إلى قلوب ملايين المزارعين الذين تراجعت حصتهم من المياه بعد سنتين من الجفاف الحاد غاب فيها المطر ليقتصر على رذاذ خفيف ليلاً، يعقبه يوم ربيعي معتدل تغرب فيه الشمس باكراً، في تناسق توحده مواعيد الافطار التي تحوز فيها "الحريرة" مكانة خاصة في قائمة المأكولات المتنوعة. و"الحريرة" وجبة مغربية قديمة جمعت حضارات عدة في الغرب الاسلامي يمتد تاريخها الى الاندلس وهي تعتمد في تركيبها على القطاني والحبوب والارز والبندورة والبيض والتوابل والطحين وشرائح اللحم وتحتاج الى ساعات طويلة لاعدادها. وظل تناول هذه الوجبة لمئات القرون مرادفاً لحلول شهر رمضان في المغرب العربي، وتتصدق الناس بالحريرة وهي رمز للتضامن والانتماء ولا يخلو منها بيت مغربي. وحتى عهد قريب كان الأطفال، كلما حل الهلال، يطوفون في الأزقة مرددين نشيداً جماعياً: رمضان يأتي غدة بكرة الحريرة ولابدة. وعلى رغم تغير الظروف والعادات وأحوال العصر حافظ بعض المناطق على المسحراتي الذي اضطر الى الاستغناء عن طبله واللجوء إلى مزمار أو اورغ ياباني مستورد بعدما نافسه التلفزيون في متعة ايقاظ الناس للسحور. وحصة هدايا يوم العيد تراجعت بعدما كان يصطف الاطفال وراء الطبل الكبير وهم يرتدون الملابس الجديدة التي منحهم رمضان قبل رحيله الى العام التالي.