} اذ يتابع ملحق "مجتمع" قضية العنف ضد المرأة عبر العالم العربي، هنا مداخلة جديدة مستوحاة من مسرحية "مرا لوحدها" التي قدّمت على مسرح بيروت في بداية الشهر الجاري من تأليف الايطالي داريو فو وأداء جوليا قصّار. غريب أن تتشابه الروايات بتفاصيلها إلى هذا الحد. كثيراً ما نردد في مقالاتنا أن العنف ضد النساء ظاهرة عالمية تتخطى الحدود الجغرافية والعرقية والفوارق الاجتماعية، ولكن من يشاهد مسرحية "مرا لوحدها" * لا بد من أن يفاجأ بمدى التشابه القائم بين الوقائع اليومية التي تعيشها المرأة بطلة المسرحية، والتي يفترض أن تجسد واقعاً لامرأة عادية تحيا في ايطاليا، والوقائع المعاشة لدى الكثير من عامة النساء في العالم العربي. أتى هذا التشابه ليخرج المسرحية من إطار انتمائها الجغرافي ويربطها بإطار ثقافي أشمل وأعم، أي إطار الثقافة الأبوية التي لا تزال تحكم العلاقات بين النساء والرجال في مختلف أنحاء العالم. وعلى رغم أن المسرحية تعالج تفاصيل حياة يومية لبطلتها كان من السهل أن تربطها بإطارها المحلي الضيق، إلا أن المسرحية استطاعت أن تلامس قضايا اجتماعية على علاقة وثيقة بحياتنا اليومية وأن تلامس تجربة واحدة على الأقل مر بها المشاهد نفسه أو أحد من مقربيه أو معارفه. فالمسرحية تحاكي الواقع ببساطته، وبجرأة غير معهودة. إنها تطرح على بساط البحث جانباً جوهرياً من جوانب علاقة المرأة بالرجل، ألا وهي العلاقة الجنسية. وعلى رغم أنها تصور الوقائع في شكل مضخم، فيتساءل المشاهد هل يمكن أن تتعرض امرأة واحدة لكل هذه الأشكال من التحرشات أو المضايقات، إلا أنه لا بد لنا من أن نعزي سبب هذا التضخيم إلى رغبة كاتبي المسرحية في إيصال رسالتهما إلى الجمهور عن طريق تجسيد أشكال متعددة للنظرة الذكورية تجاه النساء والتي لا تتعدى إطار العلاقة الجنسية. وتدور حول هذا المحور أشكال عدة من العنف الجسدي والمعنوي تجسده المسرحية بلغة مبسطة تعبّر عن شخصية المرأة البسيطة والجاهلة إلى حد ما، والتي لم يتسن لها اكتشاف جسدها وبناء تجربتها الخاصة إلاّ على حساب اختلال علاقتها مع محيطها. ويأتي هذا الاختلال بالطبع نتيجة تضارب حاجاتها ورغباتها الشخصية مع الأعراف الاجتماعية السائدة التي غيّبت تلك الحاجات عن مستوى وعيها البدائي، فكان أن التفتت إليها بعد فوات الأوان فقلبت حياتها رأساً على عقب وسببت لها الكثير من المآسي. بطلة المسرحية انتظرت أن يأتي يوم زفافها لتلاقي حبها الكبير، وهو شعور تتربى عليه الكثيرات من الفتيات. ولكنها فوجئت بأن الأمور لم تكن كما توقعت وبدأت مأساتها تتكرر منذ تلك الليلة. وكما تفعل الكثيرات - إن لم نقل الغالبية الساحقة - من النساء اللواتي يتزوجن بالطرق التقليدية، تقبلت تلك السيدة وضعها الجديد باعتباره أمراً عادياً. فالمرأة، خصوصاً في بلادنا تتربى على تلبية رغبات زوجها، وهي إحدى مهامها الأساسية في الزواج مهما يكن لذلك من تأثيرات نفسية سلبية عليها. ولكن المسرحية تجسد تبعات هذه المعادلات الخاطئة في العلاقة، أان الحاجات العاطفية للمرأة هي حاجات أساسية، هي حق من حقوقها، وهي ستجد متنفساً للتعبير عنها بعلاقة عاطفية ربطتها بشاب يصغرها بخمسة عشر عاماً وتطورت لتصبح علاقة جنسية. لقد وعت تلك المرأة الخطأ الكبير الذي ترتكبه في إقامة تلك العلاقة التي تشبه إلى حد ما "زنى المحارم" وحاولت جاهدة أن تقمع تلك الرغبات التي تولّدت لديها عن غير قصد، ولكنها لم تنجح، فاستسلمت لها مع أنها عاشت مأساة التناقض بين التقاليد الاجتماعية وما تخوضه من تجربة جديدة جعلتها تكتشف ذاتها من جديد، وتكتشف بسخرية مؤلمة "أن هناك في الواقع ما كانت تعتقده طوال تلك السنوات العابرة غير موجود إلا في القصص والأفلام"، وجعلتها تعي التباين الكبير بين علاقتها الجنسية مع زوجها والتي تحولت فيها إلى "أداة" لتلبية حاجات الزوج، بدءاً بتلبية حاجاته الجنسية إلى الاهتمام بأخيه العاجز الذي لا يتورع عن التعبير بما توافر لديه من إمكان عن هواجسه الجنسية، إلى القيام بالأعمال المنزلية والاهتمام بالأطفال، وبين علاقتها بذلك الشاب التي أعادتها إلى ذاتها، فأبرزت لها مشاعرها العاطفية ورغباتها الجنسية على حد سواء، أي العلاقة الانسانية المتكاملة. وعلى هامش تلك النقطة الجوهرية في المسرحية، تجسّد المسرحية نظرة المجتمع الذكورية بأحداث متلاحقة أخرى، فهناك الشاب الذي يسمعها كلمات نابية على الهاتف، إلى الشاب الذي يستخدم المنظار ويمعن في مضايقتها حتى داخل إطار المنزل الذي يسجنها زوجها فيه. وهي لا تستطيع مقاومة الزوج، فأي محاولة من قبلها للتحرر من هذا السجن سيثير لها فضيحة علاقتها بالشاب وسيحرمها من حضانة أطفالها، وهي أيضاً لا تستطيع أن تلجأ إلى القوى الأمنية لردع من يضايقها بمنظاره لأنهم سيتهمونها بإغوائه... إلخ. وتكتمل مأساة المرأة البسيطة عندما تكتشف أن تلك العلاقة التي جعلتها تعيد الاعتبار لنفسها، كانت هي الأخرى علاقة محكومة بالهواجس الجنسية من قبل الشاب الذي أحبته، والذي لم يتورع عن اقتحام منزلها لإرضاء نزواته غير عابئ بالفضيحة التي سيتسبب بها لتلك المرأة. طبعاً، وجدت المرأة في قدوم جارتها الجديدة متنفساً لها لتكسر جدار الصمت حول معاناتها الشخصية والتعبير عما يكتنز في نفسها من مآسٍ، وهذا الحديث الذي يدور مع جارتها طوال المسرحية لا بد من أنه ساهم في زيادة وعيها لمشكلتها، فأتت نهاية المسرحية لتعبر عن ثورة شعرت بها تلك المرأة على واقعها، هو المشهد الأخير الذي انتهت إليه المسرحية، فقررت أن تقتل نفسها ثم، وبعد تفكير قصير قررت أن تطلق النار على زوجها. طبعاً، إن اعتماد أسلوب القتل أمر مرفوض، مع أن المرأة لجأت إليه عندما انسدت أمامها جميع الطرق، فوجدت في القتل حلاً لمشكلاتها الضاغطة إلى درجة أفقدتها للحظات قدرتها على السيطرة على تصرفاتها. إلا أننا نأمل في أن تكون هذه المسرحية سلطت الضوء على معاناة الكثيرات من النساء، حيث لا يزال الحديث عنها يتطلب جرأة غير مألوفة بخاصة في مجتماعاتنا. وأتت المسرحية مساهمة جريئة في إعادة طرح العلاقات التقليدية بين المرأة والرجل على بساط البحث، لتؤكد مكامن خلل أساسية في تلك العلاقة لا بد من معالجتها ولا يكون ذلك إلا بكسر الطوق المضروب على مكامن الخلل تلك. * "مرا لوحدها" لداريو فو وفرانكا راما، ترجمة وتمثيل جوليا قصّار، إخراج لينا أبيض، قدّمت على خشبة مسرح بيروت.