} دعتني صحيفة الغارديان أن أذهب إلى فلسطين وأكتب ما أراه عن الأوضاع هناك. وقد أخذت القرار أن أذهب إلى الضفة، وإلى القدس، وأرغمت نفسي على التغلب على ال "تابو" الكبير في قلبي ووجداني، وهذا لسبب واحد: أننا وباعتراف الجميع في أمس الحاجة إلى مساندة الرأي العام في الغرب، وقد كتب الزميل والكاتب الكبير الأستاذ جمال الغيطاني في "أخبار الأدب" في 29 أكتوبر يقول: "أتمنى أن يتم البحث عن وسائل لمخاطبة أصحاب الضمائر الحية في الغرب حتى لو بدوا الآن قلة...". كم من مرة بكيت وأنا أتفرج على التلفزيون البريطاني ينقل أحداث فلسطين، كم بكيت أمام شريط "الحلم العربي" وكم مددت يدي لأغلق الكاسيت وسط "زهرة المدائن" لأني لم أحتمل الحزن، فكيف تأتيني فرصة أن أقوم بما أستطيع عمله الكتابة وبالتحديد الكتابة للقارئ الغربي كيف يتاح لي هذا المنبر وأرفض؟ نظمت الرحلة كلها لتطابق حركة أهل فلسطين أنفسهم فسافرت إلى عمان ومن هناك إلى جسر أللنبي الخ كما هو مبين في المقال: أزور القدسالشرقية والضفة إن أمكن وأدخل وأخرج عن طريق الأردن. قالوا لي لا تستطيعين كتابة هذا الموضوع من جانب واحد. قالوا لي بالطبع نحن نعلم أننا لا يمكن أن نطلب منك الحياد ولا نتوقعه منك، لكن لن يكون موضوعاً جيداً اذا تحدثت فقط مع فلسطينيين. قلت أفهم هذا، وأرى أنني يجب أن أذهب وأقابل بعض المستوطنين. هناك أسئلة تمرق في بالي، أريد أن أسألهم... ومنذ سلمت المقال استشعرت توجساً ضخماً من جانب هيئة التحرير، يقولون أن هذه أصوات لم نسمعها في الإعلام الغربي من قبل، ويتحسبون العواقب. أرجو من قارئي العربي الكريم أن يضع في اعتباره، وهو يقرأ هذا المقال، أنه يخاطب في الأساس القارئ الغربي، فمعذرة إن شرحت ما لا لزوم لشرحه! الأربعاء ألبرت أجازريان يُدَرِّس التاريخ في جامعة بير زيت. التقي به داخل باب الخليل ونمشي نحو بيته في الدير الأرمني. يشير إلى مبنى أول قنصلية بريطانية في القدس، وأول كنيسة بريطانية، يقول "طبقات من التاريخ. من يحفر هنا يجد على الأقل 17 طبقة من التاريخ... قصص كلها مجدولة معاً. هنا في القدس لدينا ما تصبو إليه الدنيا كلها الآن: التعددية. أما الإسرائيليون فيريدون إلغاء، طمس كل القصص ما عدا قصة واحدة: قصتهم هم." تصر مادلين، زوجته، على مهاداتي ببرطمان من الزيتون. منذ الأزل وأسرتها تحصل على الزيتون من مزرعة معينة بالقرب من نابلس. الآن ويل للمزارعين ليس فقط من إغلاق الضفة بل من المستوطنين الذين يحرقون المزارع ويقتلعون الأشجار. تقول لي "يتسلل المزارعون مساء الجمعة ويلتقطون المحصول والمستوطنون الجمعة مساءً والسبت يحتفلون بيومهم المقدس." إنهم يضطرون لسرقة محصولهم... ملكهم. محاولاتي للوصول إلى الجانب الآخر من كل هذا باءت حتى الآن بالفشل. شلومو شامير، سفير اسرائيل السابق في مصر يعتذر عن لقائي لأنه عين في اللجنة التي تحقق في مقتل 13 من عرب إسرائيل أثناء الانتفاضة. "ألا نستطيع أن نتحدث في مسائل أعم؟" "لا. لأنها كلها مسائل مترابطة." جرشون باسكين، وهو متخصص في عقد اللقاءات بين العرب والإسرائيليين، لم يرد على مكالماتي. لا زلت أحاول الاتصال بمسؤول من لجنة الييشا ليرتب لي لقاءً مع أحد المستوطنين. المسألة ليست بسيطة، بل هي معقدة من الكلمة الأولى: سئلت مراراً إن كان عندي مشكلة مع اللغة الانكليزية ك"لغة المستعمر". أفهم السؤال لكن ليس له عندي بعد عاطفي. خرج الانكليز من بلادي قبل مولدي، وكانت الإنكليزية أول لغة قرأت بها، وأحببتها. حين جاءني الصوت عبر الهاتف يقول: "شالوم" رددت "شالوم" من باب الأدب، أدب ترك طعماً سخيفاً مراً في فمي. وللمكالمات السبع التالية كنت أجيب على التحية بالانكليزية: صباح / مساء الخير. حين تخرج جيوش الاحتلال الاسرائيلية من شوارع فلسطين، حينئذ يمكن أن نقول "شالوم" لزائر يهودي إلى الأراضي المقدسة كما يمكن أن نرد على تحية الزائر الهندي، مثلاً، بمثلها. وحتى إن نظمت مقابلة، كيف أذهب إليها؟ أبو كريم لن يذهب قرب أي مستوطنة، ومن أجد ليأتي معي؟ وبالقطع لن أذهب وحدي. في الليلة الماضية مشيت في شارع صلاح الدين عائدة إلى الفندق. كنت أرتدي الإيشارب الكبير الذي ارتديته لأصلي في الأقصى، وكان فستاني، وعليه البالطو، يصل تقريباً إلى قدمي. مررت بالمبنى ذي البوابة الصلب الذي أعرف الآن أنه المحكمة الإسرائيلية، وأمامه المصفحة الإسرائيلية والجنود برشاشاتهم المعتادة. كانوا يتضاحكون ومر على خاطري أنه خلال يومين فقط... اختفى خوفي، فلم يطب قلبي وأنا أمر. أخذت نحو 30 خطوة وكنت على وشك أن أحود يميناً حين شعرت بشئ يصطدم بكتفي اليسرى بعنف ثم سمعت الصوت وهذا الشئ يرتطم بالجدار أو بالأرض. كيف شعرت: شعرت بالصدمة وببرودة قاسية ثم سخونة مولعة. شعرت بالدموع تصعد فجأة إلى عيني ثم شعرت بغضب جامح واستدرت، نظرت في الأرض أحاول التعرف على ما ضربني وسمعت صوت فرامل عالية وتوقفت بجانبي إحدى سيارات الترانزيت التي تقل الناس بين القرى. فتح الباب ورأيت بالداخل سيدات يشبهنني، وأطفالاً. سأل السائق: "أنت بخير؟" قلت: "نعم" ووجدتني أشعر بالخجل. الخجل من أن أحدهم ضربني. "هل رأيت من ضربني؟" نظرت بطول الشارع. لم أر أي شخص ما عدا الجنود. "لا. فقط سمعنا الصوت. تحتاجين مساعدة. نحن ذاهبون إلى رام الله." "شكراً. الفندق هنا." "اصعدي. نوصلك إلى الفندق." قلت: "أنا بخير". قالت سيدة "الله يجازيهم"، ولم يمضوا في طريقهم إلا بعد أن مشيت من الطريق وإلى الفندق. حين دخلت غرفتي دفعت بطاولة ثقيلة وفوقها حقيبتي فوضعتها خلف الباب. خلعت المعطف والفستان وفي المرآة رأيت الكدمة الزرقاء على كتفي اليسرى. لم تؤلمني، لكن في مخيلتي، ظللت أعود إلى الجنود، متحدية: "هل رأيتم من ضربني؟" الخميس الرابعة والنصف بعد الظهر أجلس في مدخل الفندق حين تأتي جودي بلانك لزيارتي. قليلة الحجم، أنيقة الملابس، قصيرة الشعر، أميركية من نيويورك. جاء زوجها إلى الجامعة العبرية أستاذاً للغة العربية عام 1954 فجاءت معه. قالت صديقتي الفلسطينية عنها أنها "واحدة في المليون". أسألها إن كان هذا صحيحاً فتضحك "ليس بالضبط". تقول أن الأحداث الأخيرة، مع فظاعتها، لها فائدة في توضيح أولويات الفلسطينيين، وأن الحكومة الإسرائيلية لا تستطيع الاستمرار في التلاعب واستخدام الخلط بين المبادئ وتكتيكات المفاوضات. أسألها، ويبدو من الضروري أن أسأل أسئلة مبدئية، أين الإسرائيليون الخيرون؟ كيف يستطيع أناس يعلمون أن حكومتهم تضطهد شعباً بأكمله، تقطع عنه الكهرباء والماء، تضربه أشعر بنوع من الحرج وأنا أعدد جرائم الحكومة الإسرائيلية كيف يستطيع ناس ناس لهم قلوب وأرواح أن يتعايشوا مع هذا؟ تقول: "لكنهم لا يعلمون. من السهل جداً ألا يرى المرء. يعيش في القدس الغربية أو تل أبيب ولا يحتاج أن يرى الفلسطينيين. إذا كانوا موجودين فهم في الخلفية. وهناك عنصرية عميقة في هذا المجتمع تجعل من الممكن أن يضحك المرء على نفسه، فلا يرى ما يحدث. إذا كنت تريد معرفة الحقيقة عليك أن تذهب للبحث عنها، في القدس أو في الضفة. وليس هناك بين الإسرائيليين كثيرين يقومون بهذا." هل هناك إسرائيليون يعملون مع الفلسطينيين الآن؟ "لا. رأى الفلسطينيون أن الموقف الليبرالي، اللقاءات الفردية في النهاية، تفسد العملية السياسية. والآن هم يعملون ما عملته جامعة بيرزيت منذ البداية: أي عمل مشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يقوم على أساس إعلان الإسرائيليين تضامنهم على الأقل مع المطالب الأساسية للفلسطينيين: القرار 242 وحق العودة للاجئين". وماذا عن "السلام الآن" وغيرهم؟ "لديهم مشكلة فقد ساندوا باراك، وهم الآن يقولون أنه ذهب إلى أبعد مدى وعلى الفلسطينيين أن يوقفوا العنف. ليبراليو التلفزيون يعرقلهم أنهم ساندوه. هل تعلمين أن واحدة من صديقاتي، وهي ليبرالية خيرة، قالت لي في الأسبوع الماضي "لقد فهمت أخيراً أن أوسلو لم تكن للفلسطينيين ما كانته لنا." لقد أخذ منها هذا 7 سنوات!". الساعة الثانية صباحاً أنا في غرفتي منذ 4 ساعات، أكتب ملاحظاتي. هناك الكثير الكثير يحتاج إلى الكتابة. فتحت الستائر على نافذتي الكبيرة، فأرى البيوت المتساندة وفوقها هلال اليوم الرابع من رمضان. لم يكن الصوم يوماً أسهل مما هو هنا. من وقت لآخر أسمع مجموعات من الانفجارات لكني لست خبيرة. لعلهم أطفال يلعبون. منذ أتيت هنا، فقدت التوجس في ما عدا الطاولة التي أضعها خلف الباب. الاحتقار الذي ينظر به الشعب الى الجيش احتقار مُعْدي: "إنهم جبناء" يقولها شاب فلسطيني، "فليخرجوا من خلف الحواجز، من خلف الرشاشات والدبابات والتكنولوجيا الأميركية. فليلاقونا رجلاً لرجل، حجارة لحجارة." تنخلع عني صفات وخصائص زائدة عن حاجة هذا الموقف. لا أتساءل مثلاً إن كان "يصح" أن أسأل سؤالاً معيناً، لا يهمني أن يجدني محدثي "لطيفة". لم أضطر مرة واحدة إلى القبض على أفكاري المعتادة الشرود وإعادتها إلى العمل المطلوب. كلما لمحت ذهني وجدته يعمل، مركزاً، يسجل، يسجل. ربما أني أتخلص من "نفسي" وما بقي منها هو فقط الجزء الذي يبكي وأنا أسجل القصص التي أسمعها والأطفال يعجبون من دموعي وأمهاتهم يشرحن: "هذه أشياء جديدة عليها." ولولا أولادي في لندن لبقيت. لبقيت في هذه المدينة التي تطلب أنظف وأوضح ما فيّ... وسجلت شهادتي. ثلاث ليال وأنا ساهرة لما بعد الثانية صباحاً ولم أنته بعد من تسجيل كل ما رأيت وما سمعت. لم أتأمل ما رأيت وما سمعت. سيأتي دور هذا في ما بعد. أما الآن فتكفيني الأحداث والوقائع. نخرج مبكرين متجهين إلى رام الله. وعلى بعد دقائق من الفندق أرى علمين إسرائيليين يطيران فوق بيت عادي، وعلى سقف البيت، تحت الأعلام، يجلس شباب بلباس مدني يمسكون بالمدافع الرشاشة. يقول أبو كريم أن هذه 4 بيوت صودرت حديثاً من ساكنيها العرب. طرق ضخمة يتم بناؤها لتربط القدس بالمستوطنات. تقوم المصفحات الإسرائيلية بحراسة عملية البناء. الطريق شمالاً إلى رام الله، الطريق الذي يسلكه الفلسطينيون، يمر في مدينة البيرة، والبيرة تم قصفها مساء أمس. سرعان ما نرى الحواجز الاسمنتية، والسيارات المنتظرة، والجنود، وننحسر إلى اليمين وإلى الطرق الوعرة. يريني أبو كريم حفرة في وسط الطريق طولها حوالي مترين وعرضها متر وعمقها متران... كالمدفن. يقول أن الجيش يحفر هذه الحفر ليصعب الحياة. بعد حوالي عشرين دقيقة من الخبط والهبد نعود إلى الطريق الرئيسي على بعد حوالي كيلومتر واحد من النقطة التي غادرناه عندها. بعد ساعة ونصف الساعة ومسافة لا تتعدى 20 كيلومتراً نجلس في غرفة مكتب السيدة ريتا هنية، نستمع لها ولصديقتها السيدة ليلى قاسم. سيدة مسيحية والأخرى مسلمة، عملتا معاً في تأسيس الاتحاد الوطني للمرأة الفلسطينية وأنشأتا "جمعية إنعاش الأسرة" في رام الله حيث كان الأطفال يتعلمون الموسيقى ويُشجعون على الرسم: "لا يسمح للأطفال برؤية خرائط فلسطين أو معرفة أي شئ عن تاريخهم...". أغلق الإسرائيليون الجمعية منذ 18 شهراً باعتبار أنها "تحرض على التمرد". "التمرد..." تعلق ليلى قاسم: "كنا نحاول مساعدة الأمهات على توفير طفولة "طبيعية" لأطفالهم. تعرفين ماذا يغني الأطفال؟ يغنون "بابا جاب لي هدية... رشاش وبندقية". كنا نحاول أن نعلمهم أغاني الأطفال العادية، ولم ننجح لأن الأغاني العادية ليس لها علاقة بحياتهم." "حين يقول الأطفال جاء اليهود وأخذوا ابن خالتي وخلطوا رزنا بدقيقنا بالسكر، كنا نقول لا تقولوا اليهود انهم الإسرائيليون، الصهاينة، يعني كنا بنحارب في أخلاقيات اللغة." أقول: الإعلام في بريطانيا يتساءل لماذا تسمح الأمهات للأطفال بالخروج وقذف الجنود بالحجارة؟ "تسمح؟" تتساءل ريتا هنية "آه لو رأيت كمية الفاليوم التي نصرفها لنساء المخيمات لمجرد أن يستطعن مجابهة حياتهن اليومية: حين يخرج الأطفال للعب يلعبون تحت مدافع الجيش المتمركز فوقهم هؤلاء الناس يعيشون في حالة طوارئ منذ 33 سنة وبعضهم من ال 48، هم لا يذهبون للبحث عن الجيش... الجيش معسكر على بابهم." تقول ليلى: "ليس هناك طفل واحد ليس له أب أو أخ مبعد أو سجين، أو شهيد. حين يأتي الجنود ويضربون الأب، الأطفال ما هم بيشوفوا، هم كلهم في غرفة واحدة، بيشوفوا أبوهم بينضرب. كيف بيكون شعورهم فكرك؟ بيسألونا إذا كان الناس بالدنيا كلها عايشين هيك؟ شو بدنا نقول لهم؟ تأتينا طفلة في الثالثة وتقول جاء اليهود وضربوا أبوي وبطنه وقعت على الأرض بس وديناه المستشفى وراح يصلحوه..." تأتي الأسماء الواحد تلو الآخر: "جهاد بدر كان يربي إخوته بعد أن ماتت أمهم بالسرطان. جاله ورم في المخ وعمل عملية وخف منها زي الفل، بعدين استشهد في الأقصى. هانيا 13 سنة طخت في ساقها، وأخذوها في سيارة الجيش وضربوها على نفس الساق: "ما صرخت مش عشان كنت شجاعة بس كنت خايفة لو صرخت يقتلوني." الإخوان حاموري، توأم، قتلوا في نفس اليوم..." وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم. قررت السلطات الإسرائيلية أن الاتحاد خارج عن القانون، فحوّل الاتحاد نفسه الى منظمة غير حكومية تدرب النساء على الإسعاف الأولي والدفاع المدني، وتنظم حملات تطعيم، وتعطي المشورة النفسية والمشورة حول إدارة البيوت وهذا النصح يتضمن النصح بمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأميركية، وتصدر نشرة إعلامية، وليس لها أي ميزانية سوى ما تتبرع به العضوات القادرات... وكثيرات منهن بالخارج. يعيش مليونا فلسطيني في اسرائيل والأراضي المحتلة، و5 ملايين فلسطيني في الشتات. تقول ريتا هنية: "لقد رضينا بحل وسط. لهم القدس الغربية والكرمل ويافا وحيفا وغيرها. لهم إسرائيل. لكنهم يريدون كل شئ. هذه شيمتهم. وهم يهاجموننا بثلاث طرق: بالجيش وبالمستوطنين وبالمستعربين". يختلط المستعربون بالأهالي أثناء التظاهرات: "ينتقون طفلاً ويمسكون به، يتلفحون بالكوفية حتى يعودوا إلى الاختلاط من دون أن يعرف أحد من هم يبرزون الطاقية اليهودية والسلاح ويخطفون الطفل إلى المصفحة المنتظرة." "تعرفين ما هو أسوأ شيء أسوأ شيء انهم يجعلوك طول الوقت تحزري. ما نعرف أبداً إذا كان الطريق مفتوح أو مغلق؟ امتى راح يطفوا الكهرباء أو يقفلوا المية؟ إذا كانوا راح يسمحوا بدفنه أم لا؟ إذا كانوا حيسمحوا بتصريح سفر أم لا؟ لا تستطيعي التخطيط لحياتك أبداً. تفضلي تلفي كده في دائرتهم..." في اتفاقات أوسلو وافقت إسرائيل على تسليم بعض المدن العربية الى السلطة الفلسطينية، واحتفظت اسرائيل بالمناطق حول هذه المدن. وهكذا تعيّن على أهل هذه المدن، إذا رغبوا في التحرك من واحدة الى أخرى، أن يحملوا تصاريح يوافق عليها الأمن الإسرائيلي. ومع الانتفاضة كان من السهل على الجيش الإسرائيلي أن يحاصر المدن ويمنع الناس من الدخول والخروج. وصرخ نقاد أوسلو وقتها قائلين أن هذا الاتفاق ينبئ بكارثة، لا أحد يفهم لماذا وافقت عليه السلطة الفلسطينية. يقول البعض أن السلطة لم تكن لديها خرائط. والحجارة التي يقذف بها شباب وأطفال فلسطين توجه الى الجنود الذين يحاصرون المدن. هناك بعض الإسرائيليين الخيرين؟ أصحاب الضمائر، تقول ريتا هنية: "أنظري إلى ما تكتبه أميرة هاس في هاآرتس. ويوري أفنيري أيضاً. لكنهم مهمشون." هل أنتم على اتصال بهم؟ "لم نعد على اتصال. هم لا يتعاطفون مع تطلعاتنا حتى النهاية. وأكثرهم لا يستطيعون هضم حق العودة للاجئين. حتى ليا رابين كانت تريد القدسالشرقية. حين قامت الانتفاضة اتصلوا بنا. قلنا تحدثتم معنا سنين طويلة، آن الأوان أن تتحدثوا إلى حكومتكم." × × × × × في القدس أفطر في مطعم شعبي صغير بالقرب من باب الزهراء. في الطريق أمامنا مصفحة الجيش والجنود. على الطاولة التي تجاورني يتذكر ثلاثة رجال أيام عبدالناصر وأيديولوجيا الوحدة العربية. ينتهي بهم الأمر إلى الترنم بأغاني مصر الستينات: يا جمال يا حبيب الملايين، وقلنا حنبني وادي احنا بنينا السد العالي. يتعرف صاحب المطعم على لهجتي المصرية فيهاديني بالتمر هندي والبقلاوة على حساب المحل ويسأل إن كنت مطمئنة في فندقي؟ كانت عائلته لترحب بي في بيتها، لكنهم في الخليل. كان يذهب كل يوم، فالمسافة نصف ساعة فقط، أما الآن في الحصار فهو يتسلل لرؤيتهم مرة في الأسبوع. مسيرة صامتة بالشموع خارج إحدى بوابات المدينة القديمة: البوابة الجديدة. تومض 60 شمعة موقدة في أيدي 60 امرأة فلسطينية بجوار البوابة. وفي مقابلهم، على الرصيف المقابل، تقف 15 امرأة اسرائيلية ترتدين السواد وفي أيديهن 15 شمعة. الجمعة أول جمعة في رمضان، وقد قرر السيد باراك "من أجل تهدئة الأجواء خلال شهر رمضان" أن يرفع الحظر عن صلاة الرجال دون الخامسة والأربعين في المسجد الأقصى. يتحلق البوليس الاسرائيلي الراكب على الخيل حول بوابات المدينة القديمة. يرتدي الجنود الدروع الواقية ويحملون الرشاشات وكأننا من الهمج الخطرين. نمر خلال باب الزهراء واحداً واحداً بين صفين من الجنود المسلحين، على كل رجل أن يتوقف ويبرز هويته. أما النساء فإذا طأطأن الرؤوس وخفضن الأعين يتركن في حالهن. وعند باب حطة هناك أعداد جديدة من الجنود المسلحين نمر أمامها. وفي الداخل يتجه الرجال نحو الأقصى، وتتجه النساء نحو تلك الجوهرة الفريدة: قبة الصخرة. ولأن رفع الحظر لا يشمل أهل الضفة يقتصر مجموع الناس في الحرم على نحو 20 أو 25 ألفاً بدلاً من الخمسمئة ألف الذين يحضرون عادة في مثل هذا اليوم. في قبة الصخرة أدخل من باب الجنة. نقف للصلاة صفوفاً متقاربة ثم نجلس للخطبة. يتحدث الإمام عن الصبر، وعن الصمود، وعن المقاومة، يذكرنا بالحديث الشريف: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر." يعدد جرائم الاحتلال الاسرائيلي. يعدد مطالب الشعب الفلسطيني: نهاية الاحتلال، تطبيق قرار الأممالمتحدة 242 والعودة إلى حدود 4 يونيو 1967، ودولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الضفة وغزة والقدسالشرقية، والإفراج عن السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وحق العودة للاجئين. يردد "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" ثم يبدأ في الدعاء للأقصى نفسه. مرة تلو المرة يطلب من الله عز وجل أن يحمي المسجد مما يحاك له، ومرة تلو المرة تعلو أصوات النساء من القبة وأصوات الرجال من الأقصى: آمين. المسجد الأقصى حيث يصلي الرجال قريب من باب المغاربة وهو بدوره قريب من حائط المبكى. وفي نهاية الصلاة يبدأ الشباب في التجمع هناك، وهناك الجيش والبوليس المسلح ينتظرهم والكل يعلم أنه لو أصاب حجر واحد هذا الحائط سوف ينتهي الأمر بسقوط الشهداء. لكن الشباب في حالة هياج وهتاف، ويظهر رجل يقول البعض أنه من فتح يبدأ في إطلاق هتافات حماس ويقود الشباب بعيداً عن الخطر الأكيد ونحو باب السباط. يقفون. خارج الباب هناك المخفر الذي اشعلوا فيه النيران منذ فترة. يهرول إداريو المسجد ليضعوا الحواجز الخشبية في البوابة بين الشباب في الداخل والجيش في الخارج برشاشاته المصوبة. يهتف الشباب بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر. يجري بعضهم في ساحة الحرم ويحاولون كسر الباب الحديدي المؤدي إلى المئذنة، لكن الباب يصمد. يتسلق شاب السور العالي ويحاول اقتحام باب آخر ولا يفلح. وعلى الشرفات تقف مئات النساء والشيوخ يرقبون التظاهرة، والجو تقريباً جو احتفالي. يقف الشباب في مواجهة الجيش في البوابة الضيقة يمنعهم الإداريون من الخروج، وعلى الدرج العتيق المواجه للبوابة الدرج الذي يصعد إلى قمة سور المدينة يصطف المصورون بكاميراتهم والخوذات والصدريات الواقية. شئ ما يحدث في الخارج ويتبعثر الشباب لحظة ثم يتجمعون ثانية. امرأة في لباس بدوي تدفع بنفسها وسطهم هاتفة ويحاول رجل أن يرجعها: "ليطخوك!" "خليهم يطخوني! هو أنا أحسن من ها الشباب؟" تلوح امرأة بنظارات سميكة إلى الجنود: "حلّوا عنا! حلّوا عنا! خنقتونا الله يخنقكم!" يأمر شاب أخاه الصغير بالعودة إلى البيت. "خلليني، بس خلليني خمس دقائق!" يتوسل الطفل، ويضطر أخوه إلى لكمه كي يرجع. بعض قطع الحجارة الصغيرة تطير عبر السور. يقول شاب وسيم أنيق لصاحبه: "زمانهم كسروا لنا السيارات!" ينفصل شاب عن المجموع ويمسك بحجر ضخم يضربه في الأرض ليكسره. الحجر لا ينكسر فيمسك به مرة أخرى، يجري إليه أحد إداريي المسجد ويأخذ منه الحجر بهدوء ويضعه برفق تحت شجرة. ينصرف الشاب. تقوم مشادة جانبية: "ما نريد مشاكل. الإسرائيلية حيسكروا المسجد. خللوا الناس تصلي!" يضحك أحد المارة: "صارلكوا خمسين سنة بتصلوا! إيش سويتوا؟" يظهر شيخ دقيق الحجم، قفطانه نظيف جداً وعمامته ناصعة، يمشي جيئة وذهاباً إلى جانب المتظاهرين حاملاً مكبراً للصوت: "وجودكم هنا يغيظهم. تفرقوا. تفرقوا." لا يلتفت إليه أحد، ثم يقول رجل لجاره: "ما عنده غير هذا. كل جمعة يقول نفس الكلام." سيدات وفتيات يجلسن تحت الأشجار يتحادثن، وبعد فترة يبدأ الشباب في الانصراف. استغرقت التظاهرة ساعتين وفي هذه المرة، هنا، لم يسقط للفلسطينيين شهداء. * روائية مصرية مقيمة في لندن.