لم يعرف السيد أوتوكار كالدا، المهندس المتخصص بتخطيط محطات القطارات في براغ، انه ألهم مواطنه فرانز كافكا ذات مرة، وشجعه، من دون أن يدري، على كتابة مواضيع خاصة جداً، لها علاقة أصلاً بعمل كافكا كموظف في احدى شركات التأمين التشيكية. ولكن من يدري، ربما، أو قد يكون ذلك مؤكداً - وإلا لما أقدم كافكا على ذلك - ان مواضيع السيد كالدا، احتوت على روح أدبية، شجعت كافكا على السير على خطاه. تلك الفرضية، تصبح أكثر اقناعاً، إذا عرفنا التأثير، أو الانطباع العام، الذي أحدثه "الأستاذ" كالدا، الذي كان يعمل آنذاك، مدرساً خاصاً، في كلية العلوم الألمانية في جامعة براغ. لم يخفِ كافكا إعجابه باسم الأستاذ العائلي، بسبب شبهه باسم عائلته: "يحتوي تحديداً على العدد نفسه من الحروف كالإسم كافكا"، وحتى "بعض الحروف تتكرر في المواقع ذاتها"، كما كتب كافكا. والحرف "ك" بالذات يلعب دوراً رئيساً في روايات كافكا جميعاً: "ك" هو اسم الشخصية الرئيسة في "القضية" كتبت بين 1914 - 1915، وفي "القلعة" كتبت في 1922، بينما تبرز في "أميركا" شخصية التاجر "كالا". الشخص المدعو بهذا الاسم كان موجوداً أيضاً بالفعل. نشاط السيد كالدا الوظيفي، الذي لم يخل من جانب اعلامي، أثار بالتأكيد الفضول عند كافكا، وحمله على السير على خطاه. ومقالته التي تبحث عن "قضايا المواصلات في شمال اقليم بوهيميا" المقصود الإقليم الذي يتكلم الألمانية، حيث وُلد كافكا وعاش ومات، وتتناول موضوع سوء حال المواصلات وتأخرها الدائم، تحمل جانباً أدبياً، سحر الكاتب الشاب كافكا، المسافر الدائم عبر الأقاليم، بتكليف من "شركة تأمين حوادث العمال". حتى إن كافكا لم يجد غضاضة في توظيف اسم المهندس كافكا في كتابته "مذكرات عن سكة حديد كالدا". للأسف لم يمنح أحد هذه القضية الكثير من الانتباه، كما قال لنا الباحث راينهارد بابست المتخصص في البحث عما هو نادر ومفقود، في حياة الأدباء الألمان، وقد ترك اسمه صدى كبيراً ليس في أوساط البحث الأدبي الألماني وحسب، إنما أيضاً في صفوف البحث الأدبي العالمي، بعد عثوره على جوانب مهملة ومفاجئة، لم تبحث للأسف لحد الآن، وهي تركت أثرها في حياة وأعمال الكثيرين من الأدباء: بوشنير وكلايست وهولدرن على سبيل المثال. هذه المرة، وأثناء عمله على كتاب عن كافكا بالصور يصدر في خريف 2001، جاء على شخصية "أوتوكار كالدا"، بعد أن اكتشف في مقالة "سكة حديد كالدا"، مقاطع تحيل الى تشابك علاقات كافكا العائلية، بل ان قصة "داخل روسيا"، تُقرأ كمفتاح لفهم تداخلات العلاقات التي عاشها كافكا في العاصمة البوهيمية "براغ". ففي تلك القصة، يشير موقع المحطة البعيد، الذي يبعد أميالاً عدة عن المحطة الكبيرة التالية، الى الوضع المحزن، المعزول الذي كان يعيشه الكاتب، مثلما يشرح حضوره الحزين، في بلد اللاأحد "روسيا": "لم أكن ذات مرة مهجوراً، كما كنت ذات مرة هناك". في آب اغسطس 1914، زمن كتابة القطعة، كانت حياة كافكا تمر بظروف مشابهة، إن لم تكن متقاطعة. خطبته مع "فيلسيا باور"، كانت انتهت قبل فترة قصيرة، أهله الذين يعيشون الى جوار "كنيسة روسية"، في مركز المدينة القديمة، طلبوا منه أن ينفصل عنهم، ليعيش في "زقاق جانبي". كان عمره آنذاك 31 عاماً، عندما عرف أن عليه الاعتماد على نفسه تماماً: انه مثله، مثل حارس المحطة في قصته "داخل روسيا"، كان عليه أن يقود "حياة عزوبية جنونية". وعلاوة على ذلك، تبرز في القصة، وبالكثير من التفصيل، ملامح شخصية الوحش، موظف المحطة الصغير "هيرمان كافكا" أبوه، سواء من الناحية الفيزيائية أم من ناحية العادات. بعد عمليه السابقين: "الحكم"، و"المسخ" الاثنان كُتبا في عام 1912، حاول كافكا مرة أخرى، من جديد، بعمله على "سكة حديد كالدا"، على استيحاء علاقته الاشكالية مع والده. انه صوت الأب أيضاً، عندما يبدأ مفتش البوليس بالغناء: "كان يغني دائماً أغنيتين فقط، واحدة منها حزينة وتبدأ: إلى أين تذهب أيها الطفل الصغير في الغابة؟ الثانية كانت مرحة وكانت تبدأ بالشكل التالي، هكذا: "أيتها الحيوات الفرحة، أنا أنتمي إليكم!". هيرمان كافكا، كما قالت قبل وقت قريب، حفيدته، ماريانا شتاينر، كان يحب الغناء. والى أغانيه المفضلة تنتمي تلك الأغنية الملحنة على إيقاع الفالس، والمشهورة باسم "فالس الطبيعة"، من أوبرا شتراوس، و"الحرب المرحة". وإضافة الى ذكر الأغاني، فإنه يتحدث عن والده وكيف كان يرسله مرات الى الزبائن، حين كان له من العمر سبع سنوات، في جنوب اقليم بوهيميا، لكي يبيع اللحم والسجق للزبائن، وكان يشجعه على ترديد هاتين الأغنيتين. لم يخف الأب أيضاً حنينه الى حياته العسكرية، إذ غالباً ما كان يهمس في آذان أقاربه عن زمنه السعيد "آنذاك". وإذا كان من غير الممكن التعرف الى هيرمان كافكا في الإشارات الطريفة، فإنه يجعلنا نكتشفه، كما يشير بابست، عبر إشارات أخرى خافية. العلاقة بين كافكا وأبيه، منذ ما يُسمى ب"تجربة البالكون"، كانت متضررة طوال الوقت. والمقصود بذلك، ما فعله به أبوه في إحدى الليالي، وهو صغير، عندما أخرجه من الفراش، وحبسه في قفص صغير على البالكون، بسبب اعتياده في ذلك الوقت "طلب الماء كل ليلة". هذه التجربة المرعبة، "المرعبة في شكل غير عادي"، لم يستطع كافكا نسيانها أو تجاوزها أبداً. لقد ظل بعد تلك الحادثة، ولسنوات طويلة يعاني "تحت التصور المعذب، بأن الرجل الضخم، أبي"، سيبعده بالقبضة ذاتها عن الفراش و"بأنني في نظره، هكذا ببساطة، لا شيء" "رسالة الى الأب" في العام 1919. وعلى رغم أن صراع الأب - الابن في حياة كافكا وعمله الأدبي قديم جداً، وبارز في صورة لافتة، وقاده الى تأليف الكتب، وكتابة الكثير من المقالات، لكن الباحثين لم يبدوا اهتماماً خاصاً بمخطوطة "سكة حديد كالدا"، وبجانبها النفسي التحليلي، كما يؤكد بابست. وهو لا يفهم أيضاً، لماذا لم يبحث أحد عنهما، أثناء البحث عن "مخطوطات كافكا المكتبية" صدر الكتاب في عام 1984 بتحرير كلاوس هيرمسدورف، التي كتبها كافكا، وهو كان آنذاك يحمل لقب الدكتوراه والقانوني، الموظف في "شركة تأمين حوادث العمال". والمؤسف أن اثنين من تلك المواضيع بُحث عنهما عبثاً حتى اليوم في "مخطوطات كافكا المكتبية". في أوائل سنة 1913 كان التأمين في أمسّ الحاجة الى فن "الدكتور" كافكا في إملاء صيغة التقارير الخاصة بالشركة. مديره روبيرت مارشنير ورئيس القسم الذي كان يشتغل فيه، إيغون فولس، كان عليه أن يكتب "تلخيصاً عن الانجازات التي قام بها التأمين حتى الآن"، وخصوصاً تلك الانجازات المتعلقة بمجال "تأمين حوادث العمال" والتي ستُقدم نتائجها الى "المؤتمر العالمي الثاني لوقاية الحوادث والإنقاذ". هذا المؤتمر الكبير الذي قرر حضوره 1400 ممثل عن شركات تأمين مختلفة لكل "الدول الحضارية"، كان من المقرر أن ينعقد من 8 حتى 13 أيلول سبتمبر 1913، في فيينا. ولأن كافكا استفاد من خبرته في استخدام الاجراءات الوقائية لتفادي الحوادث، فقد كان الرجل الأفضل والمؤهل لتنفيذ ذلك الواجب. كمثل "كاتب بالظل" يعمل لوكالة متخصصة بكتابة الرسائل منذ نهاية القرن التاسع عشر ولم يكن الشخص الذي يجهز المخططات والاقتراحات فقط، إنما كان يتحمل مسؤولية إلقاء المحاضرات في صورة رئيسة يكلفه بها مديروه. وبالفعل كان ذلك "نشاط كاتب ظل، شبح في مكتب"، كما كتب في 5 نيسان ابريل الى خطيبته اللاحقة "فيليسا باور". هذا "العمل الشبحي"، استمر زمناً طويلاً. حتى 28 نيسان، انغمر كافكا "وسط الكتب والأوراق"، "برأس فارغ"، لكي يكتب المحاضرة المطلوبة. السرعة كانت ضرورية، لأن في ايار مايو كان من الواجب تقديم كل المحاضرات. في تلك اللحظة لم يملك مارشنير وفولس إلا امكانات قليلة، لكي يشرعا ببعض التصليحات. كافكا الذي كتب المحاضرتين لرئيسيه، حصل في مقابل ذلك، على مكافأة تسمح له بالسفر مع وفد براغ الى فيينا، ليجلس هناك، في المؤتمر، مكتفياً بدور "الكاتب الشبح"، كان بامكانه سماع محاضراته "مقالاته" ذاتها، من فم مديريه. على رغم ذلك لم يتوصل الرجل الجالس في الخلف، الى المحافظة على هدوئه. كان مجبراً، على رغم نومه القليل، على الظهور مع "ناس مرعبين"، ومثل "شبح" يجلس الى الموائد كما كتب لفيليسا في 9 أيلول 1913. حتى الآن لم يعرف الباحثون موضوع المقالتين بالضبط ولا ظروف نشأتهما. عملا كافكا هذان، اللذان نُشرا تحت اسم مديريه، يمثلان المرحلة العليا في حياة كافكا الوظيفية، وككاتب شركة تأمين. الدليل القاطع، الذي يؤكد تأليف كافكا هاتين المحاضرتين، يمكن العثور عليه في رسالته غير المنشورة حتى الآن والمعنونة: "الى العم المدريدي"، الفريد لوفي، التي ستصدر في خريف العام المقبل في الجزء الثاني من "مراسلات كافكا". الباحث بابست يجد، أن محاضرة المدير "فولس"، "تنظيم وقاية الحوادث في النمسا"، التي كتبها كافكا، كانت واحدة من المحاضرات المطبوعة التي وُزعت في شكل خاص في المؤتمر. كانت هناك أيضاً نسخة مطبوعة من مقالة مارشنير. العم لوفي في 12 آذار مارس 1914، رد على رسالة كافكا، يخبره، بأنه قرأ المقالتين باهتمام بالغ. و"لأنهما جاءا من تحت ريشتك، أهنئك بصدق على معلوماتك العميقة، الدقيقة والمقنعة. المرء تغمره قناعة الانطباع، بأن ذلك يُمكن أن يكتبه فقط من يسيطر على الموضوع بصورة تامة وأن يناقش ذلك بلغة واضحة ومغرية في هذه الصورة التي تجعل حتى الهاوي يقبل على قراءتها وفهمها، أمر نادر في مثل هذه التقارير. وان يوقع مديراك المحاضرتين اللتين ألفتهما، ليس ذلك أمراً نادراً، إنما على العكس، انه أمر مألوف وحادث، ويذكرني بتلك الزفرة التي اعترف بها السيد الوزير عند قدومه الى البيت لزوجته: "آخ، كم أنا متعب اليوم، هذه الظهيرة وقعت على رسالة طويلة، تشرح الوضع المالي وتحتوي على أربعين صفحة". الرسالة الموجهة الى لوفي تثبت بوضوح ان محاضرتي مارشنير وفولس ألفهما كافكا. وانها لمفارقة، أن المؤتمر وزع المحاضرتين بأعداد كبيرة، تفوق الألفي نسخة، وهو عدد يفوق عدد كل النسخ التي وُزعت من كتب كافكا خلال حياته!!!