من يعاين بعض أوجه الانتفاضة الفلسطينية والمواجهة التي اثارتها، لا يملك الا ان يلاحظ بُعداً صاعقاً في دلالته: انه صدام الحداثة من دون حق والحق من دون حداثة. واذا صح ان الحداثة من دون حق خطيرة خطر الحق من دون حداثة، فهذا لا يعفي من بعض تفصيل. ذاك ان الصفة التي أُسبغت اعلاه على السلوك الاسرائيلي تُدرجه في خانة اندرجت فيها الامبراطوريات الكولونيالية في حروبها في آسيا وافريقيا، كما اندرجت فيها، وكأعلى تجلياتها، الحالة النازية الناهضة على آلة وتنظيم معقدين، ولكنْ ايضاً على روح عدوانية وذئبية تستلهم الهمجيات الاولى. الا ان الحق من دون حداثة يندرج، بدوره، في خانة لا حصر لها من الاحترابات الاهلية والدينية والسلالية كان افضى اليها أصلاً طلب الحق في مواجهة غاصب محتل او طرف كولونيالي متوسع. فاذا كانت الحداثة من دون حق تنطوي على رفض التساوي بين الشعوب والاعراق، وهذه ردّة ضد التنوير الذي ظهرت معه فكرة المساواة في الجنسية وفي حقها المتكافىء، فان الحق من دون حداثة لا يني يهبط الى ما دون الجنسية. واذا كانت الاولى تترك حدود الدولة - الامة معلّقة ومفتوحة على التوسع، فان الثاني عرضة دائماً للانكفاء عنها والنكوص الى جماعة دموية او دينية بعينها. لهذا نرى العالم المتقدم حين يشجب العنف الاسرائيلي يجمع الى قوة التنديد عدم الاندهاش به، اذ هو يتعامل مع عنف يعرفه وقد خبره مراراً في تاريخه. غير انه، من جهة ثانية، يتعامل مع العنف الفلسطيني بخليط من الشعور بالذنب حيال "الآخر" المظلوم ومن العمل الاستباقي لتطويق ردود فعله غير المألوفة. وفي المقابل فحين يعلّق بعض كتّابنا مستهجنين ان اصواتاً غربية نددت بعنف الحجارة والسكاكين وغضّت النظر عن عنف البنادق والطائرات، يفوتهم ان العنف الاخير يعرفونه في ماضيهم القريب ويملكون، بالتالي، ادوات السيطرة عليه أو توهّمها، فيما العنف الاول آتٍ من مكان آخر بعضه في ماضيهم البعيد والمنسي وبعضه الآخر في لا ماضيهم: أي في صدّّهم المديد لهذا الآخر وصدّه لهم اللذين انتجا تثبّتهم في تاريخهم المحلي. والآخرية هذه، منظوراً اليها بعين متفهّمي أسبابها او بعين المتخوفين منها، لا تتجسّد بأدوات القتال فحسب بل تتجسد ايضاً بشعاراته التي يُفترض انها سياسية لكنها فعلاً دينية واهلية، وبأشكال تنظيمه، وبأيديولوجيا الشهادة التي لا تعبأ كثيراً بحياة الافراد. وغني عن القول ان هذه الازمة مع الحداثة اكثر اشكالية من ان تُربط ب"انهيار الايديولوجيات" الذي تلى الحرب الباردة وما شاهدناه من وحدانية اميركية وتصدّع للايديولوجيات السائدة في ربوعنا. والحال ان الانهيار هذا انما انعكس علينا على نحو بالغ الخصوصية، فلم نفلح في سبر أغواره وحصر تداعياته الكثيرة، ولا افلحنا اطلاقا في ربطه بسوابقه والنظر اليه كنتيجة وليس كسبب. فما قيل في شأنه، في الغالب والمتداول من كلام وأفكار، جاء استخلاصات تجنح الى العمومية أو الى استعارة ما قُدم تفسيراً وتحليلاً لأوضاع أخرى في بقية ارجاء الأرض. أو أن التحول ذاك قد اعتُبر لدى البعض الآخر، ضمناً أو صراحة، أمراً لا يعنينا "جوهرياً"، وهو إن فعل فضمن الحدود الجيوبوليتيكية المتعلقة بما جره علينا اندحار "حليفنا" السوفياتي السابق من اختلال في ميزان القوة لغير صالحنا... فكأننا قبل ذلك كنا نوالي الانتصارات لا ندري أين نضع ما فاض علينا منها! فهل ان ما عرف ب"انهيار الايديولوجيات"، من وطنية وقومية واشتراكية ومن خليط على هذا القدر أو ذاك من التجانس اقترفناه في ربوعنا، بعضه كاريكاتوري على الطريقة القذافية وبعضه الآخر كابوسي على طريقة صدام حسين والمثالان هذان لا يدّعيان بطبيعة الحال حصراً أو احاطة... هل أن ذلك الانهيار عديم الصلة بحلقة سابقة عليه ترقى الى احتكاكنا المبكر بالحداثة؟ في ظننا أن الشق الأخير من السؤال أعلاه، هو الذي ربما تضمن الاجابة الأقرب الى الصحة، أو ربما كان واعداً بمثل تلك الاجابة. ذلك أن أفول الايديولوجيات ربما أحدث واحداً من أكبر التحولات في الثقافة السياسية لمنطقتنا خلال القرنين الماضيين. غير ان الوشائج لم تنقطع فعلا بين هذه الحصيلة الرديئة وبين اقبالنا، القسري الى حد بعيد، على الحداثة وعالمها وزمانها، وهنا يكمن بيت قصيد التقدم العربي. فالايديولوجيات تلك سعت، حتى في بعض صيغها وتطبيقاتها الرثة عندنا، الى التأليف بين أمرين كانا يبدوان، بالقدر ذاته، حيويين ومرغوبين، أو غير مستبعدين أو متعذرين، أقله على الصعيد الذهني وفي مضمار العناصر المكونة للرؤية. نعني الجمع، في الآن نفسه وبالتساوي، بين الاعتراض على الغرب أو مناصبته العداء، من ناحية، وبين الاقبال على الحداثة أو على التحديث، من ناحية أخرى. لقد تراءى متاحاً، وفق النظرة التي كانت أرستها تلك الايديولوجيات، أن يصار الى رفض الغرب دون اللجوء، ضرورةً ولزاماً، الى نبذ حداثته. أو أن هذه المعادلة بدت هدفاً قابلاً للتحقيق، أو مطروحاً على اجندة مختلف الحركات والاتجاهات السياسية الغالبة. ذاك ان الحداثة، من المنظور هذا، ليست حكراً على الغرب وحده، بل توجد، أو يمكن ان توجد، طرق وسبل من شأنها أن توصل اليها دون المرور بذلك العدو حتماً، بل مع مضادّته ومع اشتراط تلك المضادّة. وذلك ما استوت فيه حركات التحرر الوطني: فقد عملت، في مجال بلدانها، على استخلاص مشاريع "الدولة - الأمة" كما تُستخلص المعادن من الخام بواسطة النار: من أتون مقارعتها للاستعمار الغربي. وهذا ما سرى عليها خصوصاً بوصفها حركات قومية ترمي الى التئام أشتات ما كانت تعتبره شعوبها الممزقة، في كيان واحد يكون لها وعاء ناطقاً بارادتها، على غرار تجارب التوحيد الأوروبية في القرن التاسع عشر، من ايطالية أو المانية أو سواهما، أو بوصفها تيارات اشتراكية تجهد، بالاستناد الى فكر غربي المنشأ ظهر في كنف الحداثة الكلاسيكية حاملاً لسماتها، الى مكافحة الامبريالية الغربية. صحيح أن تلك الايديولوجيات أخفقت، في جل حالاتها أو في كلها، اخفاقاً ذريعاً، وانها لم تكد تنجز سوى النزر اليسير مما كانت تعد به، وأنها لم تأخذ بالتحديث إلا في بعده الاجرائي الأداتي في الغالب الأعم، في حين كان الاستبداد بالنسبة اليها ذاتاً وصفاتٍ ثابتة ملازمة. غير أنه إذا ما تم النظر اليها بما هي ظواهر بالغة التعقيد، لا يجوز ابتسارها الى بعض أبعاد دون سواها، فإن ما يمكن قوله فيها قد لا يقل تعقيدا عن تعقيدها هي نفسها: ذاك انه مهما بلغت حدة النقد الموجه الى تلك الايديولوجيات، فلا سبيل الى الجحود بأنها كانت تولي مسألة الحداثة وبلوغها مكانةً محورية، أقله كمبدأ وكأفق نظري. وأنها كانت بذلك تسوّغ تلك الحداثة وتسبغ عليها شرعية الوجود. وتلك ملاحظة تستدعي التوقف عندها، دون أن يعني ذلك التوقف، بطبيعة الحال، أسفاً على تلك الايديولوجيات أو حنيناً الى ما كانته. فالأمر ذاك هو ما قد يمثل خلاصة أساسية وفارقة في ما يتعلق بطبيعة التحول الذي جد على صعيد الثقافة السياسية عندنا، وعلى صعيد نظرتنا الى العالم وموقعنا فيه، مع انصرام تلك الحقبة الايديولوجية. وذلك مع وجوب التنبيه الى أننا لا نحصر واقعة الانصرام المذكور في بعض علامات وأحداث فيها بارزة، كثيراً ما مال المعلقون والمحللون الى اعتمادها أداة ومنطلقا للتحقيب يسيرين، كسقوط جدار برلين أو انهيار الدولة السوفياتية، بل ننظر اليها كمسار طويل عميق وكديناميكية متعددة الأوجه شاملة تتضمن، في ما تتضمن، حالات وظواهر مثل الثورة الخمينية، وتلك كانت أول ثورة "لا شرقية ولا غربية" في ظل نصاب الاستقطاب الثنائي، أو الحرب الأفغانية في طورها الأول، عندما كانت جارية ضد الاحتلال السوفياتي، أو بروز نقابة التضامن في بولندا ونجاحها في تأليب الطبقة العاملة في ذلك البلد ضد نظام يزعم الحكم باسمها، ثم في اطاحتها ذلك النظام، الى غير ذلك الكثير. وإذا كان الجامع بين تلك الايديولوجيات انها من سوية "دولتية"، اي انها تضع الدولة في لب العملية التحديثية والتاريخية، سواء تعلق الأمر بالحركات الوطنية في سعيها الى اجتراح "الدولة - الأمة"، أو في الحركات القومية تنشد انشاء الدولة الجامعة، أو في الاشتراكية تنيط مهمة التنمية باقتصاد تشرف عليه الدولة وتسيّره، فقد نتج عن أفول تلك الايديولوجيات ضرب من نزع الشرعية عن الدولة، أو جنوح الى الارتداد بها الى ما دونها أو الى تذويبها في ما يتجاوزها، وهو أمر ان لم يكن في حد ذاته فادحاً بل ربما كان مطلوباً، اذا ما تمثل في الحد من الاستبداد ومن التسلط وفي تحرير قوى المجتمع من ربقتهما، إلا أن المشكلة عندنا تبقى من نوع مختلف نسبياً. فالدولة، في عديد الحالات، تكاد أن تكون صلتنا الوحيدة بحداثة وبعالم خارجي، يلزمها الانخراط فيه والانضواء في عداده أخذ العلم بما يتيحه وبما يمنعه. وبالتالي استدخال مبدأ الواقع في سلوكها. ولعل ذلك ما نرى قرائن عليه لا تكاد تحصى في التزام الأنظمة بواقعية، لا سيما في شؤون الحرب والسلام، تعتبرها الجماهير والتيارات التي تزعم النطق باسمها تخاذلاً وتقابلها بدعوات المنازلة. ذلك انه اذا كان من أوجه الحداثة القبول بالعالم والانتماء الى زمانه وخوض الصراعات في اطاره، لأن ذلك هو كل المتاح، فإن الدولة عندنا، على علاتها الكثيرة وعلى كل مآخذنا عليها، هي، في الغالب، الحامية الوحيدة لذلك التوجه وإن في حدوده الدنيا. فمن المعلوم ان التحديث، بما هو أيضاً عقلنة لوجودنا في العالم، قد نيطت مهمة النهوض به في بلداننا، ولو على نحو مجتزأ وبالغ الانتقائية، إما بالأقليات الدينية والعرقية، أو بموجات الاستيطان، أو بالغزوات الاستعمارية نفسها. وتلك كلها، بالطبع، بقيت محل شبهة أو ظلت مدانة ومرفوضة، في حين أن الصلب المجتمعي وتياره العريض والأكثري، يبقى من حيث المراحل الأساسية في تطوره محكوماً بهاجس القوة لا بهاجس التحديث، وبالسعي الذي لا يكل الى انجاز نصر عسكري مضمون. غير أن مكمن الخطورة في كل ذلك ربما طاول ما هو أعمق وأشمل. اذ ان زوال تلك الايديولوجيات التي كانت تقيم تمايزاً بين الحداثة والغرب، فتقبل على تلك وتعترض على هذا، قد أفضى الى أخرى حلت محلها، ممثلة على نحو خاص في التيارات الاسلاموية، عدا القليل منها يحاول منحى اصلاحياً توفيقياً ويبقى خافت الصوت قليل الحظوة. والتيارات المذكورة انما تعيد مطابقة الغرب بالحداثة، فتدحض هذه بقدر ما "تجاهد" ضد ذاك، فتنزع عنهما معاً كل شرعية أو تسويغ مُحدثة، في العمق، قطيعة يتوهمها الناس استئنافاً وتواصلاً مع موروث النهضة والاصلاح كما تبدى واستمر على هذه الدرجة أو تلك من الفعل منذ مئتي سنة. ذلك هو التحول الأساسي الذي طرأ مع نهاية الحرب الباردة، وفق المعنى الذي سبق لنا تحديده لتلك النهاية، والذي مثل ما لا يقل عن اعادة صياغة واعادة تعريف للثقافة السياسية السائدة في المنطقة، والتي بات يبلغ من سيادتها ومن سطوتها ان التحق بها وصادق عليها ما تبقى من فلول الحركات القومية ومن رواسب اليسار، ساعية من خلال ذلك الى ""استعادة الصلة بالجماهير"، متناسية بذلك انها كانت، في يوم من الأيام، حاملة لمشاريع تحديثية، أو صاحبة زعم صاخب بذلك. هناك إذن قوى سارعت الى "التخلص من الطفل مع ماء الغسيل"، أو انها ربما فعلت ما هو أنكى، فرمت بالطفل واحتفظت بماء الغسيل. اذ هي يبدو أنها، عندما تأزّمت الايديولوجيات التي كانت تدين بها ورأت، من أجل تحقيق البقاء، انه بات عليها أن تختار بين دعامتيها التقليديتين: معاداة الغرب والسعي في طلب الحداثة، لم تتردد في التضحية بالأخيرة في سبيل الأولى. ربما كان لأولئك عذرهم، وهذا مفاده أنهم لم يفعلوا في ذلك سوى ما تمليه النوازع الفاعلة بعمق في مجتمعاتهم. وهذه قوامها الثابت، الى أجل لا ندريه، انما هو إيلاء منافحة الغرب الأولوية على كل شيء عداه، واعتبارها مصدر الشرعية الوحيد لكل فعل نأتيه، ومعيار الحكم عليه بامتياز. وهكذا تكون الحداثة مقبولة أو حاضرة، ان لم يكن كديناميكية تاريخية وفكرية فاعلة وحاسمة فذلك ما لم يكد يحدث عندنا أبداً، فعلى الأقل في خطاب النخب وفي بعض سلوكها طالما لاح لنا أن بالامكان، توهماً أو واقعاً، تجييشها في تلك المواجهة المستديمة مع الغرب. اما إذا ما "عاد" هذا يتطابق مع تلك، توهماً أو واقعاً أيضاً، أو إذا ما انعدمت الوسيلة الايديولوجية الكفيلة باستحداث "الفصل" بينهما، منطقياً كان ذلك الفصل أم متعسفاً، غلب ذلك العداء المستحكم تجاه "الخصم التاريخي"، على كل اعتبار سواه. وبما أن الحداثة "يشوبها" دوماً قدر من تغريب، فإن الحقيقة تستدعي الإقرار بأن الواقع ذاك كان ماثلاً حتى قبل صعود حركات الاسلام السياسي. وأنه هو الذي أربك، على الدوام، علاقتنا بالحداثة. فنحن مثلا، وإذا ما توقفنا عند المشرق خصوصاً، لم نأخذ فعلاً بأي من المرتكزات السياسية الاساسية لهذه الحداثة، وهو ما يفسّر ما ذُكر قبلاً من ارتباط جوانب التحديث التي تمت بالاقليات او بموجات الاستيطان او بالغزوات العسكرية، على اختلافها والاختلاف بينها. ب"الدولة - الأمة" التي واجهناها سلفاً بحذر متعدد المصادر: فهي صناعة غربية تتوجت في معاهدة سايكس بيكو، وهي بديل عن تاريخ مجيد وعريق تمتعنا به قبل "صدمة أوروبا"، ثم انها أخيراً تتعارض مع الخليط المتنافر الذي نعرّف أنفسنا به عربي، اسلامي، فضلا عن الهويات المحلية الأصغر. وهكذا نشأت أزمة ثقة عميقة مع هذا المحمول الحداثي الضخم الذي سميناه "دولة قطرية" منقوصة ورحنا نعالجه ب"الوحدة". ذلك أن الدولة المرغوبة هي نقيض "الدولة القطرية" ونفيها اللذان لا تقوم أية حجة عليهما في الواقع الواقع الذي "أنشأه" الاستعمار أو الذي أنشأناه نحن ونمضي في انشائه. ولم تكن الديموقراطية، المحمول الثاني للحداثة السياسية، أوفر حظاً معنا. فالاقبال عليها، في ما خلا فترات قصيرة جدا من عمر بعض البلدان العربية هي الفترات الكولونيالية ما خلا الجزائر، ظل يبحث عن تبريره في "الشورى". وفي النهاية لم يكن القائلون بتوافق الديموقراطية والشورى غير أقلية هزيلة قياساً بالقائلين بالتعارض بينهما تعارضاً يؤول الى نبذ الديموقراطية. أما العلمانية، المحمول الثالث للحداثة السياسية، فكان حظها معنا أسوأ من حظي زميلتيها. فهنا، حيث يلتقي الأرضي بالمقدس، بدا الرفض في أعنف أشكاله، فلم تجد هذه النزعة لدينا غير التشكيك. صحيح ان انجازات على هذا الصعيد تمت في تونس البورقيبية، وفي لبنان المتعدد دينياً، إلا أن أياً من البلدان العربية لم يعرف العلمنة الفعلية: لا في صيغتها الفرنسية الراديكالية بالطبع، ولا في صيغتها الأنغلوساكسونية الأمرن، ولا حتى في صيغتها الأتاتوركية التركية. ولأن العداء للغرب له عندنا مثل تلك الصفة "الجوهرانية" الاطلاقية والتي لا تعبأ بتاريخيته مع انه واقعة تاريخية، فإن في ذلك ما قد يفسر اقامتنا على خطاب اعتراضي واحتجاجي ونضالي لا يني يستعيد، بلا كلل، نبرة ومفردات ومقولات حركات التحرر الوطني إبان فترة مقارعة الاستعمار كأنها راهن أبدا. أو لعل ذلك ما يفسر احتفاءنا بقائد، ننصبه بطلاً، راكم الهزائم ولم يحرر أرضاً ولا صنع تنمية، لا لشيء إلا لأنه صمد وقال "لا"، من دون أن نهتم لا بكلفة ذلك "الصمود" ولا بثمن تلك ال"لا". أو أن ذلك ما قد يعلل إصرارنا على الاستنكاف نفسه حيال الجيل الثاني من أفكار الحداثة، أي افكار رفض العنصرية والأخذ بالتعددية والتسامح. فلم نُعر اهتماماً للدلالات النفعية التي يمكن أن تعود على العرب من جراء الانتصار لهذه الأفكار - القيم. وهذا مع العلم ان حقبة ظهور هذه الافكار اختلفت تماماً عن الحقبة الكولونيالية التي تأسس فيها امتناعنا واستنكافنا، في ما بدا مردودها علينا، ولو نظرياً حتى الآن، أكثر شفافية وأقل خلافية من مردود الافكار الابكر. وبعد كل حساب فإن أبناء المستعمرات السابقة التي كان انقضى جيل على استقلالها، كان لهم في انتاج أفكار التعددية والتسامح حصة كبيرة نسبياً قياساً بمجرد التلقّي في التعاطي مع افكار مطالع القرن العشرين. ولأن العداء للغرب، في الصيغة الاسلاموية الغالبة حالياً، قد عاد صراحةً وكبرنامج في هيئة التطابق التام مع الحرب على الحداثة، ولأن هذه الأخيرة منحى العصر وسمته، تتخلل كل تفاصيل الوجود فيه، بل تطبع كل مناحي حياتنا، حتى ما كان منها حميماً، ان لم يكن بقيمها فبإنجازاتها المادية وهذه نادراً ما تأتي عزلاء من دون "حمولتها" الثقافية، ولأننا نبقى، مع كل ذلك، من بين أكثر مناطق الأرض تواصلاً مع الغرب، نصدّر اليه ونستورد منه واليه نهاجر أو نلجأ في الغالب وبه نستجير واليه نحتكم ومنه نتذمر، فإن تلك الحرب على الحداثة تصبح حرباً على الذات أو على بعض منها كبير. وتستحيل بذلك مأزقاً قاتلاً أو انتحارياً. فهي تضعنا أمام خيار صعب أو متعذر، بين الانتماء الى هوية نافية للعالم نابذة له، أو بين الانخراط في عالم يناقض هويتنا لأن هذه الأخيرة لم تترك مجالاً للتصالح معه، أي بعبارة أخرى ليست لنا سوى المفاضلة بين احدى "خيانتين". أو أن "الاستراتيجية" المقترحة علينا تلك، بل المفروضة علينا فرضاً، قد لا توفر لنا، لفرط صِداميتها الشاملة، من مجال سوى القبول بما لا نستطيع له دفعاً وبما لا نجد من بد غير التسليم به، فتحرمنا بذلك، سلفاً، من امتلاك مبادرة الانخراط في عالم بتنا نظهر بمظهر متوحشيه الجدد الغريبين غربة كاملة عن قيمه، جاعلة من القسر ومن الهزيمة وسيلتنا الوحيدة الى ذلك. لكل ذلك ربما آن الأوان للقيام بفعل مراجعة ثنائي الابعاد: فهناك، اولاً، الكف عن الخلط بين العداء للغرب، وهذا قد تكون له مبرراته، وبين نبذ الحداثة في ذاتها، وهذا قد لا يكون في نهاية المطاف غير عداء للنفس. ولعل من بين ما يتوجب القيام به في هذا الصدد دحض مقولات جوفاء، قد تملأ الفم وقد يستساغ وقعها، إلا أنها غير ذات مضمون يُعتدّ به، من قبيل أن "صراعنا مع الغرب صراع حضاري". صراعنا مع الغرب ليس كذلك، لأن الحضارة المعنية باتت كونية ولم تعد غربية، وبات الغرب من بين مصادرها لا مصدرها الوحيد، وهو اذا ما احتفظ بأرجحية فيها فلقدرته على ابتداع الجديد في مضمارها. وهذا ناهيك عن أن غربتنا عن تلك الحضارة، حتى بالمعنى التاريخي، هي أقل بكثير مما قد يصوره لنا خوفنا من خوض غمارها أو عجزنا عن ذلك. ان صراعنا مع الغرب صراع سياسي وصراع مصالح، يتنزل في التاريخ ولا يتسم بأية اطلاقية، وهو لذلك ليس شاملاً وقد لا يعني بالضرورة كل الغرب، فهذا قد يكون حليفاً في حالات أو في مواضع، وعدواً في سواها، أي ان الأمر خاضع الى تعقيد والى معرفة بالواقع الخارجي قد لا تحجبهما عنا سوى نظرة تبسيطية ابتسارية للأمور درجنا عليها. وإذا ما استطعنا النهوض بأعباء ذلك الصراع السياسي والمصلحي، ففي ذلك ما يغني عن كل حرب حضارية شاملة لا نمتلك عدتها، وما يفي بالغرض. صحيح أن نزاعنا مع دولة اسرائيل عنصر تأزيم أكيد في علاقتنا بالغرب، وهو الذي نراه مسؤولاً عن انشائها ودعمها، غير أننا نمكن الدولة العبرية من انتصار سهل إن نحن سمحنا لها، على ما فعلنا حتى الآن، بأن تكون المتحكم في نظرتنا الى الغرب، بل الى العالم والى العصر بأسرهما من ورائه. اما البُعد الثاني فمفاده المفاضلة بين الاكلاف التي تُبذل في مكافحة الغرب وبين انعكاس ذلك على صلتنا بالحداثة. فاذا ما بدا ان ما نكسبه في "سياسة" المجابهة اقل مما نخسره في "حضارة" التواصُل الكوني، او ان ذاك الكسب يؤدي الى انقطاع ذاك التواصل، عزفنا عن المواجهة والمكافحة واعتمدنا الرهان على عناصر اخرى يتدخل فيها عامل الزمن والمثاقفة والرأي العام وتقديم النماذج. وهذه عناصر ربما كانت بطيئة الايناع الا انها وسيلتنا الوحيدة كي ندفع كلفة الماضي من غير ان نخسر ما يمكن ان نعوّض به في المستقبل. هنا نقع، في الاغلب، على بعض ما يفسّر آخر حلقات الهزيمة لواقعنا وايديولوجياتنا كما سادت إبان الحرب الباردة. * كاتب تونسي. ** كاتب ومعلّق لبناني