عندما كان الاتصال بين شمال افريقيا وأوروبا لا يتم إلا عبر البحر، في القرن الثامن عشر مثلاً، تطورت في المرافئ المتوسطية لغة بحارة، هي خليط عجيب من التركية والعربية والايطالية والفرنسية والاسبانية والمالطية. لغة هجينة تحركها الأسفار والمصالح وتبادل البضائع، ولا همّ لها سوى تحقيق الاتصال والربح المباشر. مثل هذا الانطباع يمكن أن يخرج به المرء وهو يشاهد أو يتحدث عن السينما في بلدان شمال افريقيا. وما يميز لغة هذه السينما، عن المثال السابق، انها لم تعد في مستوى تكافؤ أو صراع، بل ارتمت، بما هي لغة صورة، في إسار الغرب تماماً. وهي تجمع بين الكلام المنطوق والمترجم عموماً والتعبير الفني، والرؤية المصاحبة. تأتي الرؤية المصاحبة من منتج العمل الفني ذي التكوين الغربي اجمالاً، ضمن تقنيات الصورة التي هي غربية أساساً. ويأتي الكلام المنطوق خليطاً من الدارجة وزحف اللغة الفرنسية عليها، مع تحريفات في النطق والاستعمال. تجعل المشاهد من بلد مغاربي لا يتوصل الى فهم لغة فيلم من بلد مغاربي آخر، فيفضّل الاستناد الى قراءة الترجمة الفرنسية، أسفل الشاشة، ثم ينتقل من القراءة الى السماع، عندما يتحول الممثلون الى الكلام باللغة الفرنسية. ولا تكون اللغة الأجنبية في هذه الأفلام مجرّد توشيح وإشاعة مناخات، كما يحدث في الأفلام الأجنبية، بل هي - أي اللغة الأجنبية - من صميم العمل. انتاج مشترك لا يكاد أي فيلم يخلو من الاشارة، من بدايته، الى كونه انتاجاً مشتركاً، تسهم فيه جهة أو أكثر. وكثيراً ما تكون ذات علاقة بالرابطة الفرنكوفونية المهددة بلغة العولمة. هذا الارتباط، أو الارتهان، عندما لا يتوصل الى تحقيق تمويله محلياً، أو يحققه جزئياً فقط، وعندما تكون بين أهدافه أسواق التوزيع الفرنكوفونية، يجعل النظرة الى الواقع مسقطة من الشمال على الجنوب، بطرق واعية وأخرى لاواعية. وهي طرق ذات وسائل عدة تطاول الشكل والمضمون، وتتوخى للوهلة الأولى منطقاً ما يبدأ من السيناريو، ويبرر استخدام لغة الموانئ. فلكي تُستخدم اللغة الفرنسية المموِّلة للفيلم - وبالتالي، من أجل تبرير العلاقة بالآخر الأوروبي - لا بد من أن تكون هناك شخصية أجنبية، امرأة فرنسية مثلاً، يحبها تونسي، أو قصة تستوجب السفر والهجرة، أو الإقامة في الضفتين. وللحصول على الدعم الفرنكوفوني من المؤسسات الأوروبية التي ترعى الانتاج السينمائي في العالم الثالث، لا بد من أن يُقدّم مشروع السيناريو باللغة الفرنسية أولاً، ثم يترجم لاحقاً الى اللهجة المحلية التونسية، الجزائرية، المغربية، وقد لوحظ في تونس مثلاً ان الجهات الفرنكوفونية المحلية هي الأسبق الى الدعم في هذا المجال قناة تلفزيونية، البعثة الثقافية الفرنسية... الخ فضلاً عن المؤسسات الأم في بلدانها. قبل ذلك يتشكل التكوين الفني المباشر للسينمائي المغاربي، اليائس من امكانات بلده، هناك في الشمال، ضمن اقامة تشمل الثقافة والرؤية. الى ذلك، نطقت السينما المغاربية بلغة الحنين أيضاً، والحنين الى الماضي يسكن فيه المستعمر القديم والجاليات القديمة عندما كان نوع من "التعايش" الكاذب آنذاك، بين العرب والفرنسيين ومَنْ تحت جناحهم من ايطاليين ومالطيين واسبان، فضلاً عن يهود تونس. ذلك الخليط "المرافئي" يزيّن مواقعه بالمشاهد الجميلة، أي الابهار الفني، على حساب المضمون. انه يلتقط مشهد المرفأ من أعلى حيث تتأرجح الأشرعة في لقاء المطلق بين البحر والسماء. تقنيات سينمائية عالية لمواضيع تشكو من تشوش الفكرة، وازدواجية اللغة والفكر والرؤية، مع اعادة انتاج ذلك وتكراره في أكثر من تجربة. نادرة هي الأفلام التي لا تعاني الكليشيهات المتكررة. ونادر هو المخرج الذي يستطيع التحدث، من دون لجلجة عن عمله وعن نفسه بغير اللغة الفرنسية. ونادرة هي الأعمال التي تخلصت من احتكار المخرج للعمليات الفنية كلها، كما يحدث في المسرح أيضاً. تبدو السينما المغاربية، للوهلة الأولى، كأنها لا تجد مجالاً للتحرّك إلا عبر المتوسط، أي عبر العلاقة بالآخر. وكأن المواضيع المحلية والمشكلات الخاصة استنفدت مرة واحدة. إلا أن نظرة المخرج عين على كلّ ضفة وبالتالي ضغوط التمويل، هي التي ترسم المسار العام لهذه السينما. وقد لاحظنا توجهاً مماثلاً في السينما اللبنانية الناشئة، وكذلك في فيلم المخرج المصري يسري نصرالله الأخير "المدينة"، خلال ايام قرطاج السينمائية، وربما كان على خطى معلّمه يوسف شاهين. ولا ندري الى أي حد يمكن التحدث عن تراكم سينمائي في المغرب العربي، إذا كان هذا القطاع يشكو من مآزق كثيرة: التمويل، قلة الانتاج، قلة اقبال الجمهور، تقلص عدد القاعات ونوادي السينما... الخ. فالسينما الجزائرية التي شهدت انطلاقتها اللافتة منذ عقود، سرعان ما تشتتت جهودها، وهاجرت بدورها مع أسماء مشتتة في المغرب، بعد الظروف التي مرّت بها الجزائر في الأعوام الأخيرة. وهي تعاني، كمثيلاتها الافريقية، على لسان المخرج الجزائري يحيى دبوب "مشكلات عدة أغلبها من النوع الفني، كالتمويل والتجهيزات والمخابر والتوزيع الخ. وحتى قاعات السينما تقلص عددها من 460 أيام الاستعمار الى مئة الآن. وغالبية هذه القاعات تعرض أفلام الفيديو وتروّج للثقافة الرديئة". مرحلة الانتظار وهذه المشكلات والعوائق هي التي تطيل مرحلة الانتظار أمام المخرج الشاب حتى يخرج فيلمه الأول وهو على أبواب الكهولة. وتباعد بين انتاج فيلم وآخر، مدة قد تتجاوز السنوات العشر كما يحدث في تونس أيضاً. فالسينما التونسية، بدورها، تعاني تلك المشكلات على رغم نشأتها المبكرة في أُطر العمل الجماعي مثل الجامعة الفدرالية التونسية لنوادي السينما، والجمعية التونسية لتنمية النقد السينمائي، والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة. وقد أدت هذه الجمعيات دوراً بارزاً، منذ البداية، في تأسيس مهرجان قرطاج الدولي، وغيره من النشاطات والتظاهرات السينمائية. إلا ان اسباباً كثيراً جعلت نشاط هذه الجمعيات يتقلص كثيراً في الاعوام الأخيرة. فنوادي السينما لا تكاد تتجاوز العشرة، بعدما كانت تشمل معظم المدن التونسية. وتعاني الجمعيات الأخرى تعثر نشاطاتها وامكاناتها. وعلى مستوى الانتاج تصطدم السينما التونسية بمشكلة التمويل على رغم جهود وزارة الثقافة وجانب من القطاع الخاص في دعم الأفلام دعماً جزئياً، يدفع بأصحابها الى استكمال الدعم من الخارج. كذلك شهدت قاعات السينما تقلصاً من مئة الى اثنتين وأربعين. ولعل بعضها لم يقفل أبوابه حتى الآن بسبب الدعم الرسمي والتشريعات الجديدة التي تمنعها من التحول الى محال تجارية. أما المغرب فلم يكن من البلدان العربية أو المغاربية المتميزة بالانتاج السينمائي حتى الثمانينات. ومنذ منتصف التسعينات شهد طفرة سينمائية على مستوى الكم والنوع، تجاوزت ثلاثة عشر فيلماً في هذه السنة التي لم تكتمل بعد. ويعود ذلك كما يوضّح الناقد السينمائي المغربي أحمد بوغابة، الى تنظيم القطاعات المختلفة للسينما، حيث تشكّلت غرف مستقلة لتنظيم كل مهنة على حدة الانتاج، التوزيع، التقنيون، أصحاب القاعات لتصبح المحاور الرئيسي والمختص للمؤسسة الرسمية المشرفة على تأطير السينما في المغرب، وهي مؤسسة المركز السينمائي المغربي. وقد سنّت هذه المؤسسة قانوناً لدعم السينما المغربية من دون الاقتصار على انتاج الأفلام وحدها. فهذا الدعم يشمل القاعات اصلاح، ترميم، اعفاء من الضرائب لمدة خمس سنوات، وخصوصاً في مجال استيراد الأجهزة والآلات. أما القاعات التي يتم تشييدها من جديد فتعفى من الضرائب... عشر سنوات. ويذكر أحمد بوغابة ان الرصيد المالي لصندوق الدعم يتكوّن من حسم على التذاكر والإشهار التلفزيوني بنسبة خمسة في المئة، فضلاً عن دعم مباشر من وزارة الاتصال التي تشرف إدارياً وقانونياً على المركز السينمائي المغربي. هذه النقاط الايجابية في التجربة المغربية، وكذلك المشكلات الواردة سابقاً، ناقشتها الندوة التي عقدت على هامش أيام قرطاج المسرحية في دورتها الأخيرة، وأوصت بضرورة التدخل سريعاً لتنظيم القطاع السمعي البصري في دول الجنوب، لتفادي حال التبعية المتزايدة، والمتأتية من عولمة الصورة. وبين الوسائل التي أوصت بها الندوة لتحقيق ذلك: "إجبار" التلفزيون على تخصيص برامج لبث اعمال وطنية، سينمائية وتلفزيونية. و"إجباره" على التعاطي مع الانتاج المشترك والشراء المسبق للأعمال الوطنية المحلية والجهوية الاقليمية، وكذلك رصد نسبة مئوية من رقم عائداته لصندوق الدعم السينمائي، ومراجعة نظام الضرائب الخاص بالقطاع السمعي البصري...