يعرض السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة حقيقة الانشقاقات في صفوف الأنصار، وعلاقة هيئة شؤون الأنصار بحزب الأمة، وموقفه من مسألة الإمامة. كما يعرض للتحديات التي تواجه السودان خارجياً وداخلياً، في زمن العولمة التي يعتبرها "مؤمركة"، وفي ظل صراعات القوى السياسية السودانية المختلفة. هيئة شؤون الأنصار الآن تقود مبادرات فكرية أساسية: 1- مبادرة لجمع كلمة المسلمين على نظرة مؤصلة ومستنيرة على ضوء نداء المهتدين. 2- مبادرة لإيجاد أساس وفاقي بين الأديان على ضوء نداء الإيمانيين. هنالك ثلاثة أسئلة مهمة أجيب عنها هنا هي: - ما هي حقيقة الانشقاقات في صفوف الأنصار؟ - ما هي صلة هيئة شؤون الأنصار بحزب الأمة؟ - ما هو مستقبل الإمامة؟ الرد على السؤال الأول: الأنصار موحدون كما لم يكونوا في أية لحظة من لحظات تاريخهم. والدليل على ذلك أن حشودهم في أية مناسبة هي الأكبر والأكثر حماسة في كل المناسبات وفي صلوات الجماعة. ولدى الانتخابات الأخيرة 1986م وقفوا موقفاً قوياً مع حزب الأمة لدرجة جعلته يحقق نصراً انتخابياً لم يحققه في كل تاريخه. ولكن هناك فئات مخالفة لا يمكن مشاهداً موضوعياً أن يعتبرها أكثر من منقصات هامشية لم تؤثر على المسيرة، بل كانت وما زالت للأسف تسمح لنفسها بأن تكون مخالب قط لأعداء الكيان من الذين جاؤوا لإلغاء الرأي الآخر والاستبداد بالرأي وأحكموا أجهزة الأمن القمعية على الرقاب. وعبرت هيئة شؤون الأنصار عن ضمير الشعب في التصدي لهم فواجهوها وعاكسوها واستعانوا بمخالفيها استعانات بائسة. ولكن، لكي نحصي هذه الفئات نقول: 1- توجد فئة قديمة شجعها الانكليز في مواجهة الإمام عبدالرحمن وهم بعض آل خليفة المهدي الذين أنكروا دور المؤسس الثاني الإمام عبدالرحمن واستجابوا لتدابير الانكليز المضادة الحزب الجمهوري الاشتراكي ولتدابير المصريين المضادة في أوج الصراع مع مصر حزب التحرر. ولهؤلاء جيب ما زال باقياً. ولكن غالبية آل خليفة المهدي وآل الأمير يعقوب بريئة من هذا الموقف. ولكن الجيب موجود ومستعد لمؤازرة أي ديكتاتور يناهض كيان الأنصار. 2- هنالك جماعة محدودة بايعت السيد أحمد المهدي إماماً. لقد أوضحنا أن المرجع للإمامة هو وصية الإمام الصديق وهي الآن مكان تأييد غالبية الأنصار الساحقة. لقد تعاون السيد أحمد المهدي مع الجهات التي ناهضت كيان الأنصار منذ حصار الإمام الهادي في جزيرة أبا، ومروراً ببقية عهد جعفر نميري، وإلى حد ما الآن في عهد "الإنقاذ"... مهما كان فإن للسيد أحمد وضعه العائلي والاجتماعي كابن الإمام عبدالرحمن الكبير، ولكن تعاونه مع الذين بطشوا بالأنصار، وتطلعه للإمامة من دون آلية الوصية حصرا تأييده في فئة قليلة. والتخلي عن هذين الموقفين هو شرط الانخراط في التيار العام. 3- هنالك جماعة تقف مع السيد ولي الدين الهادي المهدي. السيد ولي الدين هو أول من أعلن استشهاد الإمام الهادي في عام 1982م. واشترك مع بقية أسرة الإمام الهادي في توزيع أملاكه ورثة بينهم بحسب أنصبتهم الشرعية. ومع ذلك يقول ان الإمام الهادي ما زال حياً وأن بيعته ملزمة. ما هي البيعة؟ البيعة التزام بين طرفين لذلك لا تكون إلا مع شخص حاضر لأن البيعة مثلما يترتب عليها طاعة للإمام يترتب عليها إرشاد ورعاية من الإمام. أين الإرشاد والرعاية في حال غياب دام ثلاثين عاماً؟ كنت أول من شك في رواية مايو عما حدث للإمام الهادي إلى أن عينت لجنة ذات كفاية عالية كرئيس للوزراء ضمت السيد نصر الدين الهادي كممثل لأسرة الإمام. هذه اللجنة برئاسة المدعي العام درست ملف الأحداث وأتت بتقرير واضح جاء فيه: لم نجد في تجاربنا في التحقيقات مثلما وجدنا في هذا التحقيق: كل ما قاله الشهود وتعقبناه وجدناه في الواقع. مثلاً: قال أحدهم ان الخال محمد أحمد مصطفى ضرب بالرصاص من الخلف فوجدنا ذلك عليه. وأن الإمام دفن في أسفل المجرى المائي، وأن السيدين محمد أحمد مصطفى وسيف الدين الناجي دفنا في أعلى المجرى فوجدنا ذلك. وأن الإمام دفن على السرير العنقريب الذي حملناه عليه، فوجدنا ذلك، وهلم جرا. لا أشك في أن بعض الذين يعتقدون أن الإمام الهادي ما زال حياً يصدقون ذلك لأن الإمام الهادي لدى خروجه في الهجرة قال: أهاجر اليوم وسوف أعود لنحقق أهدافنا. ولكن الله يفعل ما يريد. وعلى أية حال المسؤول في غيبة الإمام الهادي بنص ما قاله الإمام الهادي هو شخصي وبهذا شهد السيد ولي الدين والمرحوم السيد الفاضل ابن الإمام الهادي. 4- هناك الفئة التي وقفت مع المرحوم السيد خالد محمد إبراهيم وبعد وفاته اختارت له خليفة كأمين عام لهيئة شؤون الأنصار. هؤلاء شجعتهم بعض عناصر النظام لتسجيل أنفسهم هيئة شؤون الأنصار مكايدة.. إنهم يعلمون أين يقف الأنصار وأين هي هيئة شؤون الأنصار ويرجى أن يراجعوا أنفسهم من هذه الدعوى الكيدية والحق أحق أن يتبع. ... هذه الفئات محدودة التأييد. وانا أرجو أن يراجعوا جميعاً أنفسهم فهم يضرون أنفسهم أكثر من مضرة الكيان. والرجوع للحق فضيلة. الرد على السؤال الثاني، الصلة بين الحزب والهيئة: كانت الإجابة عن هذا السؤال في الماضي مبسطة، فحينما نشأ التساؤل إبان معركة الاستقلال كان الرد عليه: كل أنصاري حزب أمة ولكن ليس كل حزب أمة أنصارياً. الصورة الآن أكثر تعقيداً. حزب الأمة حزب سياسي ديموقراطي سوداني يجمع الأنصار وغير الأنصار والمسلمين وغير المسلمين في تنظيم واحد مفتوح لكل مواطن. هيئة شؤون الأنصار هيئة محصورة في الأنصار، ولكن الأنصار يتعدى وجودهم الوطن السوداني، لذا يمكن أن تتمدد الهيئة - إذا أتيحت لها حرية الحركة والاتصالات - إلى خارج حدود السودان. ولأنها كذلك، فإن أهدافها بنص الدليل الأساسي هي: 1- العمل على إحياء الكتاب والسنّة ليكون الدين موجهاً لسلوك الفرد وأسرته والمجتمع. 2- إحياء فكر وتراث المهدية ونشره باعتباره الدعوة لتجديد شباب الإسلام والبعث لتعاليمه. 3 - تنظيم الأنصار وجمع شملهم في تنظيم ديني تتوحد فيه ارادتهم خلف إمامة يتم اختيارها بالشورى. 4- الاهتمام بشؤون الأنصار الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية والرياضية. 5- إذكاء الروح الوطنية، والإسلامية، والإنسانية. 6- الاجتهاد العلمي لبعث الفكر الإسلامي لتوحيد أهل القبلة في مواجهة قضايا العصر. 7- إغاثة المستضعفين والمنكوبين من أبناء الإنسانية في كل مكان. 8- هيئة شؤون الأنصار محصورة في هذه الأهداف كهيئة متخصصة ولكنها لا تعمل بالسياسة لتكون صالحة للدعوة والإرشاد والتربية في كل عهد سياسي وفي داخل السودان وخارجه. صحيح أن المشرف على الهيئة الآن، ورئيس حزب الأمة شخص واحد، لكن هذه حال موقتة، ويمكن أن يكون رئيس حزب الأمة وإمام الأنصار شخصين مختلفين. ويرجى ان يكون الحزب والهيئة متفقين في أهم الأمور المصيرية مثل: التأصيل والتحديث، الديموقراطية، الالتزام الوطني. لأن وجود قيادة في كيان الأنصار منكفئة وضد الديموقراطية أو ضد التحديث يصيب الأنصار بنكبة ويصيب الحزب بنكبة بل يصيب البلاد بنكبة. إن موقعي الحالي يساعد في الحيلولة دون التداخل غير الصحي والتعويق. ولكن في المستقبل ينبغي أن توثق العلاقة في شكل اتفاق تعاون وتحديد اختصاصات سأقدمه ضمن وثائق مؤتمر الحزب العام، ومؤتمر الهيئة العام المقبلين، لتحديد الأمور بشفافية تامة. الرد على السؤال الثالث، اختيار الإمام: لماذا لم يختر الإمام حتى الآن؟ الحقيقة هي أن كل الذين يمكن أن يرشحوا للإمامة يحتاجون في نظري الى مزيد من التأهيل بمن فيهم شخصي. وعندي مشكلة أخرى هي التوفيق بين الإمامة والعمل السياسي القومي. هذه المسائل لا يمكن أن تترك للصدف وينبغي حسمها على أسس مدروسة وهذا ما نحن بصدده وفي مناخ الحرية النسبي الحالي سوف تحدد. ولكن حتى إذا توافر التأهيل وعولجت مشكلة التداخل السياسي فينبغي إيجاد المؤسسة التي تنتخب الإمام. إن علينا أن نحدد مؤهلات الحد الأدنى للإمام، وأسس التوفيق بين الإمامة والسياسة، وأن نوجد المؤسسة المؤهلة بحسب الدليل الأساسي لاختيار الإمام. حينئذ سيتم انتخاب الإمام، ولا أحد ممن تنطبق عليهم المؤهلات سيمنع من هذا التنافس الخيِّر.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إذا استطاعت الهيئة أن تكون مؤسستها بالصورة المطلوبة داخل السودان، فإنها يمكن أن تلعب الدور الآتي: داخلياً: النهضة بجماهيرها في كل جوانب نشاطها المذكورة بصورة مؤسسية مدروسة. وطنياً: مع الآخر الفقهي تشكل الهيئة أساساً لاحتواء الخلافات داخل الجسد الإسلامي، فالأنصارية في روحها سنية ولها من المتصوفة شيء، ومن الشيعة شيء، ومع الحركيين شيء... والأنصار في أي محفل يضم الفرق المختلفة يكونون الأقرب الى كل جماعة من غيرهم... الهيئة تسعى الى بلورة هذا الموقف في نداء المهتدين. كما أنها مع الآخر الملي يمكن أن تبني أساساً جيداً للتعايش السلمي بل وتجاوزه للتعاون الإيجابي وفق ما دعا إليه نداء الإيمانيين. إقليمياً: يمكن الهيئة أن تمد عونها لكيانات الأنصار في بقية البلدان والتي تتطلع إليها بحق الريادة والتطور، ويشكل مثل هذا الارتباط أساساً متيناً وحقيقياً للتمدد الافريقي على مستويات شعبية. دولياً: يمكن الهيئة التنسيق مع منظمات العمل الإسلامي المستنيرة، ومع الجماعات الإسلامية الصحوية عبر بلدان العالم الإسلامي العريض، لتكوين ديبلوماسية إسلامية فاعلة تهتم بقضايا المسلمين عبر العالم. ومثلما ذكرنا في دورها الوطني، يمكن لها أن تقدم نداء المهتدين كأساس يجمع أهل القبلة حول برنامج حد أدنى للتعاون والتفاهم المشترك، وأن تسعى ليكون نداء الإيمانيين أساساً للتعاون بين أهل الملل المختلفة. العودة الدائرية منذ نهاية الحرب الباردة في 1991م أطل عالم جديد لا يزال يتشكل ولكنه لم يستقر على صورة محددة بعد. النظام الدولي المعاصر يقوم على افتراض وجود الدولة القطرية ذات السيادة الكاملة وهو افتراض الأممالمتحدة ميثاقاً ونظاماً. ولكن منذ حين بدأت عوامل كثيرة تنخر في هذا المفهوم، وأهمها عاملان: إنتصار آلية السوق الحر كأفضل وسيلة للتعامل الاقتصادي والتجاري، ونضوج ثورة الاتصالات التي ربطت العالم وحققت ثورة المعلومات التي كشفت المعلومات في كل مجال ويسرتها لكل متناول. هذه العوامل سارعت بفتح العالم لسوق واحد تتحرك فيه المعاملات الاستثمارية، والمالية، والتجارية بلا حدود... هذه العولمة نقلت القرارات المؤثرة في الاستثمار، والمال، والتجارة، للشركات والأفراد مهمشة دور الدولة الوطنية. هذه الظواهر الجديدة بما فيها من اتصالات واصلة، ومعلومات متوافرة وفي ظروف عالمنا الخاضع أصلاً لتوزيع الثروة والمعرفة والامكانات الإستراتيجية، أتاحت فرصة للقوة الاقتصادية والاستراتيجية الأعظم - الولاياتالمتحدة - لتحقيق عولمة مؤمركة مرتبطة بمطالب المصالح الأميركية وملفحة بثياب الثقافة الأميركية. هكذا شهد العالم العولمة كظاهرة موضوعية ممتدة عبر حقائق ووقائع اقتضاها تطور الإنسانية وتقدم التكنولوجيا، والعولمة كظاهرة ذاتية اقتضتها ظروف التوزيع الحالي للثروة والنفوذ. العولمة بظاهرتيها كفعل ضخم في الفكر والحياة أثارت ردود فعل أهمها ثلاثة: الأول: التماس حماية من العولمة بشقيها عن طريق احتياطات وطنية مثلما فعلت ماليزيا في وجه أزمة جنوب شرقي آسيا، ومحاولة لتأطير العولمة عن طريق اهتمام أكبر بتكوين تكتلات إقليمية كبيرة تحقق مصالح مشتركة للدول الأعضاء فيها. الثاني: حماية السلام الاجتماعي من آثار آلية السوق السالبة في هذا الصدد مثلما ورد بيانه في أطروحات الطريق الثالث. الثالث: حماية الهوية الدينية والثقافية بنزعات تأصيل ديني، وثقافي، وإثني قوية: - في العالم الإسلامي صار الخطاب الإسلامي هو الأبرز. - في العالم المسيحي تعاظم الدور الذي يلعبه الدين في الحياة، وتعاظم الدور القيادي لرجال الدين، واتسعت المساحة التي يحتلها الدين بين الدولة والمواطن. - وفي العالم الهندوسي أصبح التيار السياسي الهندوسي هو الأكبر. - وفي العالم الإفريقي انتعشت الهوية الإثنية حتى صارت في بعض الدول أساساً للتقسيم السياسي مثلما هو الحال في إثيوبيا، وأساساً لإحياء الممالك القديمة مثلما هو الحال في يوغندا. وعلى الصعيد القاري أطلت أطروحات التقسيم الإثني للقارة. في السودان في نطاق السودان، سوف تؤثر هذه العوامل: هناك استقطاب فكري وسياسي في السودان عمقه النظام الحالي، ويمكن أن يتخذ بعداً جديداً إذا خلص الاستقطاب إلى مواجهة بين التأصيل الإسلامي والتأصيل الإثني.. هذا الاستقطاب ممكن ولكن ممكن للاستنارة أن تتجنبه بكفالة التعددية والتعايش والتعاقد على مصالح كبرى. هذا التعاقد ممكن ولكنه بطبيعة الحال يتحرك في مسرح أكبر من المسرح القطري لأن لأطراف النزاع فيه علائق لا قطرية. وهناك عوامل تتعلق بأمن السودان القومي ومصالحه التنموية لا سبيل للتعامل معها إلا في نطاق إقليمي يشمل حوض النيل، والقرن الإفريقي، والشمال الإفريقي، وغرب إفريقيا، وجنوب غرب آسيا. وهنالك مصالح تنموية وأمنية، تفرض تعاملاً مع لاعبين مهمين في المسرح الدولي: أميركا، كندا، الاتحاد الأوروبي، الصيناليابان، الهند... وهلم جرا. هذه العوامل تجعل السودان بحدوده الجغرافية جزءاً من حدود واسعة ومتحركة يفرض التعامل معها التعامل مع فضاءاتها الواسعة والمتحركة. حدود السودان الشمالية، والشرقية، والغربية، والجنوبية واصلة وليست فاصلة بشرياً، وثقافياً. وفي ظروف النزاعات في الأقاليم المجاورة لجأت عناصر كثيرة الى السودان، وفي ظروف النزاعات السودانية، لجأت عناصر سودانية الى دول الجوار. وفي الحالين كانت إدارة الأزمات والنزاعات على مستوى فوق قطري. هذا سوف يستمر ما استمرت النزاعات وسوف يترك بصماته القوية إذا انتهت النزاعات. وبصرف النظر عن النزاعات، لم يعد بالإمكان التعامل القطري مع مسائل حيوية مثل مياه النيل. مياه النيل سوف تفرض على الدول المتشاطئة في النيل برنامجاً حوضياً. ومسألة الطاقة الكهرومائية والنفطية سوف تفرض على دول القرن الإفريقي تكاملاً "طاقيّاً"... كذلك سوف تفرض مطالب الأمن والتنمية اهتماماً أكبر برابطة الإيقاد في القرن الإفريقي. وهنالك حاجة أكبر لدى الطرفين لتطوير علاقات دولتي وادي النيل، كما سيكون لمثلث: مصر - السودان - ليبيا، اعتبار أكبر، ولعلاقات السودان - عبر ليبيا وتشاد - بدول الساحل والصحراء دور جديد. عامل مهم آخر. يموِّه حدود السودان الجغرافية وجود سودان المهجر... الأحادية الآمرة الناهية في البلاد غطت في ما غطت عليه على دور سودان المهجر. ولكن مع الحريات والتعددية سوف يتعاظم أثره في الداخل ويلفت إليه اهتمام المعنيين بالشأن العام بصورة أكبر. بل سيكون لكل القوى السياسية الفاعلة علائق قوية في سودان المهجر تلعب دوراً مهماً في الحياة العامة. نهاية الحرب الباردة فكت عقال المبادرة الدولية بشأن القضايا ذات البعد العالمي مثل قضايا: البيئة - السكان - الصحة - المرأة - الطفل، وكل المسائل التي تعنى بها منظمات الأممالمتحدة المتخصصة. هذه كلها سوف تخضع لدراسات عالمية، ومواثيق عالمية، وبرامج عالمية، وآليات مشتركة للتعامل معها. العولمة كظاهرة موضوعية سوف تندفع صماء عن غضب من حولها ورضا. والعولمة المؤمركة سوف تواصل اتجاهها لإعطاء أولوية للمصالح الأميركية وللثقافة الأميركية. ولكن حول العولمة بشقيها: سوف يدور نزاع فكري كبير مثلما حدث في انتفاضة سياتل وما أعقبها حتى براغ. هذا النزاع الكون مسرحه! كل هذه العوامل سوف تجعل المواطن السوداني - لا سيما المشغول بالتنمية وبالشأن العام - مركزاً على ثلاثة أبعاد في آن واحد: البعد القطري - والإقليمي - والدولي. التحرك بالوعي القطري وفي النطاق القطري تحرك محلي قصير النظر عاجز مثلما هو خارج التاريخ. أعود الى البلاد مدركاً أن حركتنا الوطنية ينبغي أن تسير واعية بالأبعاد الثلاثة. لذلك وصفت العودة بأنها دائرية إلى السودان، ومنه إلى فضاءات الجغرافيا السياسية، وعالمه المعاصر... هذا أو التيبس والتكلس والقوقعة .... الأجندة الوطنية نرى أن الفترة الممتدة من 1989م إلى 1999م مع كل ما صحبها من شقاء واستقطاب لم تذهب سدى، بل أدت إلى تراجع الاستئصال والاستئصال المضاد وأفضت إلى تسليم عام بأربعة أمور: الأول: اعتماد المواطنة أساساً للحقوق الدستورية والاستفتاء أساساً للوحدة الطوعية. الثاني: الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والنظام الديموقراطي أساس لنظام الحكم. الثالث: حسن الجوار أساس للعلاقات الإقليمية. الرابع: الشرعية الدولية أساس للعلاقات الخارجية. التسليم بهذه المبادئ الأربعة يعني فتح صفحة جديدة تسمح بتحقيق تطلعات الشعب المشروعة عن طريق التفاوض المباشر، والضغط الشعبي التعبوي. الأجندة الحربية ظروف الشمال والجنوب ليست عادية. إن فيها أربعة عوامل رسخت البغضاء ووسعت فجوة الثقة، هي: - التعالي الإثني. - العنف. - قلة جدوى الاتفاقيات. - الحضور الأجنبي الكبير. التعالي الإثني ليس ظاهرة ينفرد بها السودان، إنها ظاهرة عامة صحبت كل المجتمعات الإنسانية. ولكن حيثما وجدت فإنها تشوه العلاقات بين الجماعات وتغذي الشحناء والبغضاء. التعالي الشمالي على الجنوبي والتحقير له مصدر بغضاء تدمر الموضوعية في التعامل بينهما. هذا التعالي والتحقير يشكلان عنفاً معنوياً ينتقل ليصبح عنفاً مادياً دامياً. هذا ما حدث منذ عهد الحكم الذاتي في السودان: حوادث آب اغسطس 1955م الدامية. منذ تلك الحوادث وسم العنف العلاقات. من ناحية الشمال، الانقلابات العسكرية تمثل عنف دولة لأنها غالباً انقلابات يسيطر عليها الشمال وتطبق سياسات مفروضة على البلاد. ولكن، غبن الجنوب فيها أكثر وشقاؤهم بها أعمق. ومن ناحية الجنوب كانت حركات: أنيانيا 1، وأنيانيا 2، والجيش الشعبي، وغيرها حركات مشحونة بالكراهية وبالانتقامية. منذ الاستقلال تمت اتفاقيات أو مراحل تفاهم متقدمة أهمها: - اتفاق بين القوى السياسية الشمالية والجنوبية على أن يؤيد الجنوبيون إعلان الاستقلال من داخل البرلمان على أن ينظر في طلب إقامة علاقة فيدرالية لدى كتابة دستور البلاد 1955م. - تفاهم متقدم في لجنة الإثني عشر ثم في مؤتمر كل الأحزاب في 1967م لإقامة نظام حكم ذاتي إقليمي في الجنوب. - اتفاقية أديس أبابا في 1972م. - مشروع اتفاق الحكومة الديموقراطية مع الحركة - 1989م. - قرارات مؤتمر أسمرا - 1995م. - اتفاقية السلام من الداخل- 1997م. أهم صفة عالقة بهذه الاتفاقيات هي صفة الخرق وعدم الوفاء مع اختلاف الأسباب. الوعد بالنظر في الفيدرالية لم يتحقق لأن انقلاب تشرين الثاني نوفمبر 1958م عصف بالنظام الديموقراطي وعطل كتابة الدستور الدائم. مشروع لجنة الاثني عشر واتفاق مؤتمر كل الأحزاب لم يجدا طريقهما الى الدستور لأن الحكومة التي أشرفت عليهما أسقطت نتيجة خلافات حزبية 1967م ثم نتيجة تعطيل العملية الدستورية نفسها بقيام انقلاب أيار مايو 1969م. أما اتفاقية 1972م، وكانت أنجح محاولة للاتفاق فخرقها النظام الذي أبرمها وهيأ ظروفاً لاندلاع حرب أهلية أكثر شراسة من الحرب التي أوقفتها الاتفاقية. أما مشروع اتفاق حكومة الديموقراطية الثالثة مايو 1989م فعصف به انقلاب حزيران يونيو 1989م. وقرارات مؤتمر أسمرا يونيو 1995م تدل مؤشرات كثيرة أن الحركة الشعبية تتخذ مواقف تتجاوزها. واتفاقيات السلام من الداخل يقول أهم طرف جنوبي دخل فيها - د. رياك مشار - أن النظام الحالي الذي أبرمها أجهضها. وفي ما يتعلق بالحضور غير السوداني فإن الجنوبيين عامة يرون أن الشمال يقوى بعلاقاته بالعالم العربي والإسلامي وهم يتطلعون دائماً الى دعم إفريقي جنوب الصحراء ودعم كنسي وإسرائيلي وغربي. الأهداف التي اتفقت عليها القوى السياسية السودانية في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية يمكن تحقيقها في المناخ الوطني، والإقليمي، والعالمي الجديد عن طريق التفاوض الجاد والضغط الشعبي، والإعلامي، والديبلوماسي. ولكن الأهداف التي ذكرها د. جون قرنق في خطابه في 16 مايو 2000م وحدد فيها ثلاثة مسارات لحركته لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق التغلب العسكري. المسارات هي: الأول: ضم جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ومنطقة أبيي للجنوب وإخضاع الجنوب الموسع لحكم الجيش الشعبي واقتسام السلطة المركزية بالتساوي مع السلطة الحالية لمدة عامين ثم يمارس الجنوب تقرير المصير. الثاني: إسقاط النظام في الخرطوم وتسلم التجمع الوطني الديموقراطي الى السلطة. قوات التجمع الوطني الديموقراطي الفعلية هي الجيش الشعبي. هذا معناه أن تكون السلطة الفعلية للجيش الشعبي وإعطاء تمثيل شكلي لفصائل التجمع الأخرى. الثالث: أن تعم المناطق "المحررة" كل السودان بفعل الزحف وتصبح الحركة الشعبية الحزب الحاكم في البلاد وجيشها هو جيش البلاد. هذه المسارات هي معالم الأجندة الحربية. هذه الأجندة الحربية تجد دعماً من الولاياتالمتحدة. وهناك ثلاثة أسباب وراء انحياز أميركا للضغط العسكري على النظام في السودان: السبب الأول: استمرار الضغط حتى يبعد الإسلام نهائياً من السياسة في السودان. السبب الثاني: الضغط لحصر الشأن السوداني الإقليمي في القرن الإفريقي الكبير وإبعاده من الشمال الإفريقي. السبب الثالث: الضغط لمراجعة استغلال البترول السوداني لمصلحة الشركات الأميركية. هناك حلقات لوبي تدفع بالسياسة الأميركية في هذا الاتجاه وزيادة. هناك ثلاثة تيارات لوبي دينية وحلقة لوبي الكوكس الأميركي من أصل إفريقي. هؤلاء استثارتهم سياسات النظام السوداني الجهادية والأحادية الثقافة فصاروا يشكلون عنصراً قوياً ضد النظام السوداني ولم تقنعهم توجهات النظام الجديد بجديتها. هذه الحلقات هي: اللوبي اليهودي - الصهيوني. هذا اللوبي يعادي توجهات النظام السوداني الإسلامية والعربية ويدعم كل التيارات المناهضة للثقافة المركزية في البلدان العربية. واللوبي الكاثوليكي وهو ينتصر للمسيحيين ضد الاضطهاد الإسلامي. واليقظة في الأوساط الكنسية البروتستانتية وهي تتأهب لتبني قضايا المسيحيين في أميركا وفي كل مكان. و"الكوكس" الإفريقي الأميركي الجماعة القيادية الأميركية من اصل إفريقي في الكونغرس هؤلاء يقفون إلى جانب المقاومة الجنوبية انتصاراً للزنجي السوداني على العربي السوداني. هذه الحلقات الأربع حركتها بانفعال سياسات النظام في مرحلتها "الرسالية" وصارت تطالب بقوة بموقف أميركي متشدد ومعاد للنظام السوداني. ومع أن الإدارة الأميركية لم تلتزم القرارات المتشددة التي أصدرها الكونغرس الأميركي في الشأن السوداني إلا أن ضغطها جعل الموقف الأميركي أكثر تشدداً من الموقف الأوروبي وجعله أكثر استعداداً لدعم الأجندة الحربية. زحزحة الموقف الأميركي ممكنة كيلا يواصل استغلاله لدعاة الأجندة الحربية ويعرقل الحل السياسي الشامل في السودان. كيف؟ عبر التخلي بوضوح تام عن أية سياسات إكراه ديني أو إثني أو ثقافي. والتمسك الصادق بأسس السلام العادل كما صيغت في مؤتمر أسمرا 1995م. وبدعم الجبهة الجنوبية التي أدركت أن الشمال صار مستعداً لحل عادل، وأن استمرار الحرب يفني أهل الجنوب، وأن ربط قضية الجنوب بأهداف مستحيلة خطأ تاريخي. هؤلاء على استعداد للتجاوب مع فرص السلام العادل، وهم الأقدر على مخاطبة الإدارة الأميركية وحلقات اللوبي المذكورة للتخلي عن الأجندة الحربية. وعبر إنهاء التناقض بين السودان وجيرانه وتحقيق حسن الجوار وتجريد الأجندة الحربية من استغلال التناقضات الإقليمية. وعبر التجاوب مع الاتحاد الأوروبي لبلورة سياسة غربية عقلانية وفاعلة. وهذا من شأنه التأثير في السياسة الأميركية في اتجاه إيجابي لا سيما في عهد الإدارة الجديدة. ختاماً إضافة الى الدعم الأميركي، والتناقض الإقليمي، يستند الجيش الشعبي في تسويق أجندته الحربية الى عاملين مهمين: العامل الأول: السند الواسع الذي تمنحه له برامج الهيمنة الدينية، والثقافية، والإثنية في البلاد. البرامج التي صعدها النظام الحالي فاكتسب سمعة دعمت موقف معارضيه. والمطلوب الآن التخلي تماماً عن ذلك والتعبير الواضح عن التوجهات الجديدة. العامل الثاني: الغطاء الشمالي أو "القومي" الذي يمنحه تحالف مصوع للجيش الشعبي وهو يواصل أجندته الحربية. وهو غطاء ينبغي طيه. بل هو في طريقه الى الانحسار. الأجندة الشمولية داخل النظام أكثر من لوبي لا يرضى بمقتضيات الحل السياسي. هؤلاء يدفعون في اتجاهات تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في طريق السلام وفي طريق التحول الديموقراطي. هذه "اللوبيات" خائفة على امتيازاتها من الاحتكام للشعب وتريد الإبقاء على مواقع في الدولة وفي الاقتصاد بصورة لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق "كونترول" شمولي. هؤلاء يدركون أن أغلبية الشعب السوداني والموقف الدولي يدفعان بعيداً من الشمولية، لذلك يتطلعون الى مواصلة الشمولية مصحوبة بشكليات ديموقراطية كما هو الحال في كثير من البلدان. هذا مع وعي الشعب السوداني وتجربته والشفافية المطلوبة في عملية الحل السياسي الشامل الذي لن يجدي بل سوف يعمق عدم الثقة ويوحد القوى السياسية السودانية ضد الشمولية المقنعة!! الأجندة التدويلية منذ نهاية الحرب الباردة في عام 1991م صارت الأممالمتحدة أكثر استعداداً للتدخل في مناطق مختلفة من العالم لاحتواء مآس إنسانية تفرزها انتهاكات حقوق الإنسان والحروب الأهلية. هذا التدخل مهما صدقت نياته تحكمه رؤى سياسية معينة، وتقوم به بالفعل، تحت مظلة مجلس الأمن، دولة أو دول ذات مصالح معينة. وفي حال السودان فإن التدخل الوارد ينطلق من فكرتين، الأولى: التركيز على مشكلة الجنوب كمشكلة خاصة من دون اعتبار للمشكلات الوطنية الأخرى. والثانية: ان حل مشكلة الجنوب يكمن في إجراء الاستفتاء لتقرير المصير الذي يطالب به كل الجنوبيين وتوافق عليه القوى السياسية الأخرى.