أمير الشرقية يستقبل سفير السودان ومدير الجوازات    التواصل الداخلي.. ركيزة الولاء المؤسسي    وزير الطاقة.. تحفيز مبتكر !    1510 سجلات تجارية يوميا    الطقس يخفض جودة التمور ويرفع أسعارها    السفر في الشتاء.. تجربة هادئة بعيدًا عن الزحام    مستويات تاريخية.. السعوديون يتجاوزون 3.99 مليون موظف    أمير القصيم يوجه بسرعة إنجاز المشاريع    هيئة الإحصاء تُطلق خدمة توفير البيانات الدقيقة    من ياسمين دمشق إلى غاز روسيا !    جسر المحبة وليس جسر المساعدات    من طق الباب سمع الجواب !    بيع سمكة تونة ب266 ألف دولار    آفاقٍ اقتصاديةٍ فضائية    غارات الاحتلال تودي بحياة عشرات الفلسطينيين في غزة    ميزة من «واتساب» للتحكم بالملصقات المتحركة    رالي داكار السعودية 2025 : "الراجحي" يبدأ مشوار الصدارة في فئة السيارات .. و"دانية عقيل" تخطف المركز الرابع    الأهلي متورط !    لماذا هذا الإسقاط والفوقية..؟!    في ختام الجولة ال15 من دوري" يلو".. أبها في ضيافة النجمة.. ونيوم يخشى الفيصلي الجريح    في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين.. الشباب والرائد يواجهان الفيحاء والجبلين    المنتخب بين المسؤولية والتبعات    إنزاغي: مواجهات الديربي تنافسية    اختتام معرض «وطن بلا مخالف»    وحدات الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في (4) مواقع حول المملكة    فقط.. لا أريد شيئاً!    مناسبات أفراح جازان ملتقيات شبابية    دعوة مفتوحة لاكتشاف جمال الربع الخالي    شتاء جازان يحتضن مواهب المستقبل مع أكاديمية روائع الموسيقية    من نجد إلى الشام    فنون شعبية    «سحر بحراوي: الجولة الثانية !»    مفتاح الشفاء للقلب المتضرر    تقنية تفك تشفير الكلام    اليقطين يخفض مستوى الكوليسترول    المستشفيات بين التنظيم والوساطات    قلة النوم تسبب تلف الدماغ    وزير الصحة في الإدارة السورية الجديدة يلتقي فريق مركز الملك سلمان للإغاثة    نادي جازان الأدبي ينظم ملتقى الشعر السادس    مجمع الملك سلمان يُطلق برنامج «شهر اللُّغة العربيَّة»    «المرور»: استخدام الجوّال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في الجوف    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الوليد بن طلال    الملك وولي العهد يعزيان العاهل الأردني في وفاة ماجدة رعد    تهنئة الكويت بنجاح تنظيم خليجي 26    أمير تبوك ونائبه يواسيان أسرة الشيخ فهد الحمري    «دوريات المجاهدين» تقبض على شخص لترويجه مادة «الميثامفيتامين»    أمطار وبرد ورياح على 6 مناطق    حرس الحدود بمنطقة مكة ينقذ مواطنيْن تعطلت واسطتهما البحرية في عرض البحر    سعود بن نايف يستقبل سفير جمهورية السودان ومدير جوازات المنطقة الشرقية    «عون الحرم».. 46 ألف مستفيد من ذوي الإعاقة    أرض العُلا    الداخلية أكدت العقوبات المشددة.. ضبط 19541 مخالفًا لأنظمة الإقامة وأمن الحدود    انطلاق ملتقى دعاة «الشؤون الإسلامية» في نيجيريا    الكذب على النفس    «911» تلقى 2,606,195 اتصالاً في 12 شهراً    تأخر المرأة في الزواج.. هل هو مشكلة !    المرأة السعودية من التعليم إلى التمكين    القيادة التربوية نحو التمكين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة : من "تهتدون" الى "تفلحون" كتاب الصادق المهدي ."التجمع" انتهى دوره والحاجة الآن لمظلة عمل جماعي داخل السودان 5
نشر في الحياة يوم 27 - 11 - 2000

يرسم السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة خريطة القوى السياسية السودانية من واقع معرفة عميقة ومراقبة لصيقة وقدرة اكاديمية وفكرية تمكن من اثبات الحقائق والجدل في معانيها. يركز المهدي خصوصاً في هذا السرد على "الحركة الشعبية لتحرير السودان" و"الجيش الشعبي لتحرير السودان" بقيادة العقيد جون قرنق ويقدم صورة للمشهد السياسي داخلها وفي تفاعلها مع غيرها ومع الجوار الاقليمي. ولا يمانع المهدي في تقديم نصائح لكل هذه القوى من منطلق يبدو صادراً من داعية سلام وديموقراطية يدرك ان صلاح الاحوال واستقرار البلاد يتطلب خطوات من الجميع وهو لا يعفي حزبه من ذلك، وان بدا ملماً بمآلاته فيطرح نتيجة لذلك تصورات لمستقبل الحزب تؤهله للمرحلة الجديدة التي تلجها القوى السياسية السودانية.
كان الاختلاف حول برنامج "التجمع الوطني الديموقراطي" تركز في نقطتين هما:
النقطة الأولى: انتقد حزب الأمة استمرار مبادرة إيغاد محصورة في النظام والحركة الشعبية، لا سيما بعد ان اتضح ان الحركة الشعبية تطرح مواقف تفاوضية متعارضة مع المواثيق المبرمة. ألحّ حزب الأمة على توسيع ايغاد. الآخرون عارضوا التوسيع في البداية ثم وافقوا عليه. لكن فكرة التوسيع تعثرت لذلك سعينا لآليات أخرى. وعندما برزت المبادرة المشتركة تحمسنا لها حماسة شديدة. الحركة الشعبية أيدت المبادرة المشتركة في البداية. ولكن، راجعت نفسها بعد ذلك واتفقت مع جهات أخرى على قتلها، وقامت بعمل واسع وممول لاستقطاب الآخرين لذلك.
النقطة الثانية: اختلفت تحليلاتنا للأوضاع. قال حزب الأمة بوضوح تام في تحليل الأوضاع في اجتماعات هيئة القيادة: ان الظروف الداخلية والخارجية السائدة في الأعوام 1994-1998م لم تعد قائمة وان فرص العمل العسكري في الخارج إلى انحسار، وفرص العمل السياسي في الداخل إلى اتساع.
والشأن السوداني يعاني من مخاطر التمزيق والتدويل، وكلاهما يضر بالسودان الوطن مثلما يضر بالسودان النظام. لقد أدى الضغط العسكري والمواجهة لنتائج ينبغي ان لا نهدرها. لذلك يجب ان نعطي أولوية للتفاوض المباشر مع النظام من أجل مطالبنا المشروعة، وان نهرع لبناء تنظيماتنا السياسية في الداخل، وهذا من شأنه ان يخلق تعبئة لمصلحة أهدافنا الوطنية، وان يضغط على النظام إذا تراخى في الاستجابة للمطالب عبر المفاوضات، وان لا نتوقع استمرار مواقف دول الجوار المعهودة وان نطلب منها ان تدعم الحل السياسي الشامل.
الآخرون كانوا يشككون في صحة هذا التحليل وأمام قوة منطق الحل السياسي الشامل، سلموا به لكنهم ذهبوا يقررون الامتناع عن التفاوض إلا إذا طبقت شروط معينة لبناء الثقة وإذا تم تنسيق بين المبادرة المشتركة ومبادرة ايغاد.
اعتبرنا هذه الشروط غير موضوعية لأن الذين يطالبون بإجراءات بناء الثقة يعلنون ايضا العزم على إدخال أساليب "حزب الله" في السودان ويقولون انهم يطالبون بمزيد من الحريات للانتفاضة لا للتفاوض، ويواصلون التفاوض تحت آلية ايغاد من دون اشتراط تنسيق.
الخلاف على هذه المسائل هو الذي أدى لمفاصلة بيننا وبين فصائل مصوع الأخرى.
ولكن، بصرف النظر عن هذه الخلافات فان تنظيم التجمع في الخارج كان الفصيل السوداني في تحالف إقليمي دولي ولد في ظروف 1994م وانتهى في عام 1998م. هنالك حاجة لمظلة للعمل الجماعي في المرحلة الجديدة، لكن شروط المرحلة ان يكون العمل الجماعي في داخل البلاد ليحقق أهداف المرحلة القادمة وليتخذ الأساليب المناسبة لها.
القوى السياسية السودانية
ومقتضيات المرحلة
1- حزب الأمة:
سأتناول حزب الأمة وصفا وتحليلا وتحديدا لدوره في المرحلة القادمة في فصل خاص. ولكن، هنا سأكتفي بان أذكر ان جزءاً كبيراً من الولاءات الدينية والقبلية ستتمحور في حزب الأمة. المتوقع ان تؤيد غالبية الأنصار حزب الأمة لكن بعض الأنصار ربما اتجهوا اتجاهات أخرى. وستؤيد قبائل كثيرة حزب الأمة كما ستعارضه قبائل أخرى للأسباب التاريخية ذاتها. وسيهتم حزب الأمة بدوره كحلقة الوصل الأقوى بين سكان الغرب وسكان النيل، ودوره كحلقة الوصل الأقوى بين الجنوب والشمال عبر مناطق التجاور القبلي.
وسيهتم حزب الأمة بالمناطق المهمشة لان كثيراً من سكانها ينتمون له، ما سيدفع حزب الأمة للاهتمام بقضايا العدل الاجتماعي واستقطاب عناصر الوسط ويسار الوسط. وسيستمر حزب الأمة في تطوير نفسه ليصبح حزب البلاد القومي.
2- الاتحادي الديموقراطي:
جزء كبير من الولاءات الدينية والقبلية سيتمحور في الحزب الاتحادي الديموقراطي. والمتوقع ان تؤيد غالبية الختمية وولاءات دينية وقبلية تاريخية أخرى الاتحادي الديموقراطي. وسيلعب دوراً مهماً كحلقة بين شرق السودان والوسط. ان غالبية الطبقة الثرية في السودان والمناطق الأكثر ثروة كذلك أقرب لتأييد الاتحادي الديموقراطي ما يجعله يهتم باستقطاب الوسط ويمين الوسط.
حزبا الأمة والاتحادي، مهما تلكأ بعض قياداتهما، ستدعمان التحول الديموقراطي، واتفاق السلام، ويقفان ضد الاجندات الحربية والتدويلية والشمولية.
3- الحركة الشعبية والجيش الشعبي:
لأهمية ما يدور في الحركة الشعبية والجيش الشعبي وجدّتهما النسبية سأتناولهما بتفصيل أكبر:
في العام 1972تهيأت ظروف إقليمية ودولية لنظام ايار مايو 1969-1985 فعقد مع حركة انيانيا1 بقيادة الجنرال جوزيف لاقو اتفاق أديس أبابا مستعيناً بالتحضيرات التي تمت أثناء الديموقراطية الثانية 1964-1969، واقترح الحكم الذاتي الإقليمي حلاً وسطاً بين الحكم المركزي والحكم الفيديرالي، ومستعيناً بظروف إقليمية وغربية، وكنسية مؤاتية بعد البطش بالحزب الشيوعي السوداني في يوليو تموز 1971م.
نشأت في عهد ايار مايو خلافات أتى تنفيذ اتفاق العام 1972م سببها في المقام الأول أن الاتفاق بأحكام ومفاهيم ليبرالية غريبة على النظام الشمولي الذي يجد صعوبة شديدة مع الرأي الآخر، وسببها ثانياً: خلافات قبلية وحزبية بين الأطراف الجنوبية. هذه الخلافات أدت إلى انشقاق حركة انيانيا2 في عام 1975م. ثم انشقاق الحركة الشعبية في العام 1982م.
ذكر لي الدكتور جون قرنق انهم لدى تنظيم حركتهم تجنبوا الفصل بين القيادة السياسية والعسكرية كما كان في عهد انيانيا 1 واقتدوا بتجربة الجبهة الوطنية المتحدة التي دمجت القيادة العسكرية في القيادة السياسية. لكن، في عهد الجبهة الوطنية المتحدة كانت القيادة السياسية هي الأساس والجيش جناحها العسكري. أما في حالة الحركة الشعبية فان الجيش الشعبي هو الأساس والحركة الشعبية هي منبره للعلاقات العامة.
الجيش الشعبي والحركة الشعبية ترعرعا في أحضان نظام منغستو. لذلك كان ميثاقها الأول افريقانياً اشتراكياً يدعو لتحرير السودان كله وإقامة نظام شبيه بنظام منغستو في أثيوبيا. هذا النهج جديد على حركات التحرر الجنوبية فقد كانت كلها إثنية وجهوية. ولكن، لم يكن بالإمكان ان يدعم منغستو حركة جهوية وهو يعاني من ثورة جهوية- الثورة الإريترية - في الشمال. كان منغستو يشبه حركة الجنوب عندنا بحركة الشمال عنده مع ان الاختلافات بينهما كثيرة!!
الحركة الشعبية كانت أول حركة جنوبية لا تتجه جهوياً. وكانت أول حركة جنوبية تدخل مباشرة في أتون الحرب الباردة. في تموز 1976م أبرم جعفر نميري مع الرئيس انور السادات في مصر اتفاق الدفاع المشترك ليحمي نظامه مباشرة بعد انتفاضة الجبهة الوطنية المتحدة في 2 تموز 1976م.
وفي عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، الذي أتى بسياسة راديكالية يمينية، صعدت الحرب الباردة. ومن نتائج هذا التصعيد على الصعيد الإقليمي توظيف اتفاق الدفاع المشترك رافداً لحلف ناتو ولاحتواء النفوذ السوفياتي في البحر الأحمر والتصدي لليبيا. في وجه هذا التصعيد، كون الطرف الآخر حلف عدن 1982 من أثيوبيا وليبيا واليمن الجنوبي. حلف عدن المنحاز لحلف وارسو احتضن الجيش الشعبي وحركته منذ مولدهما ومنحهما السلاح، والمال،والتدريب والمعسكرات. وغرس الجيش الشعبي سكيناً في خاصرة نظام نميري في السودان. ونشأ تحالف بين الجيش الشعبي ونظام منغستو ضد مشروعات الري السودانية - المصرية، مثل مشروع جنغلي الذي كان أول ما أستهدفه النشاط العسكري للجيش الشعبي.
حصل الجيش الشعبي على السلاح والمال من ليبيا، والتدريب والمعسكرات من أثيوبيا، واستطاع ان يضم عدداً من حركات المقاومة الجنوبية وان يحارب ويهزم بدعم أثيوبي حركة انيانيا2 ليصبح التنظيم العسكري الجنوبي الأقوى والأوحد. ان للجنوبيين قضية متعلقة برفض الهيمنة الدينية الإسلامية، والهيمنة الثقافية العربية، والتظلم من التهميش التنموي والخدمي، والتطلع لمشاركة عادلة في السلطة والثروة، والاعتراف بالهوية الدينية والثقافية المغايرة. هذه القضية التي تحظى بدعم إقليمي ودولي، تبنتها حركة انيانيا 1 ثم حركة انيانيا 2 ثم طورتها الحركة الشعبية في اتجاه قومي، اذ صار الهدف هو تحرير السودان كله من عوامل التظلم المذكورة نفسها.
واصل الجيش الشعبي هجماته على النظام السوداني حتى اندفعت عوامل داخلية معلومة فأحدثت انتفاضة رجب/ نيسان أبريل 1985م وأطاحت النظام المايوي.
الحركة الشعبية رفضت ان تعترف بنتائج الانتفاضة واعتبرت الحكم الانتقالي الجديد مجرد نسخة أخرى من نظام مايو المباد. هذه قراءة خاطئة لما حدث، وكان النظام الانتقالي حريصاً على فتح حوار مع الحركة الشعبية لأن الوزير المعني بالملف الدكتور أمين مكي مدني من العناصر الوطنية الليبرالية المعتدلة.
لكن الحركة أشاحت بوجهها بعيداً واستمرت في موقف سلبي من الحوار إلى ان قامت الحكومة الديموقراطية الثالثة بعد انتخابات عامة حرة 1986-1989م. واستمر موقف الحركة سلبياً من الحوار، كأن نظام منغستو الذي تحالفت معه يبلغ عشر معشار شرعية نظام منتخب!
ومع ذلك دخلت الحركة معنا في حوار في تموز 1986م بعد شهرين من انتخابي رئيساً للوزراء. كان الحوار خطوة إلى الأمام سارعت الحركة بإجهاضها بإسقاط طائرة الخطوط الجوية السودانية المدنية في ملكال 1986م. كانت الحركة تفاوض تكتيكياً لكيلا توصف بالتعنت لكنها لم تكن حرة في إجراء حوار حقيقي لان نظام منغستو الذي كان يحتضنها كان يستخدمها ورقة للمساومة: ان نساعده على الثورة الأريترية مقابل تسهيل اتفاقنا مع الجيش الشعبي!! هذا ما اعترف لي به وزير خارجية منغستو صراحة. كان نظام منغستو قوياً بدعم السوفيات. ومع ان جيشه ومعداته جعلته الأقوى بما لا يقارن في أفريقيا 600 ألف جندي ومعدات حربية قيمتها 8 بليون دولار فان النظام تهاوى كالصفق اليابس عندما سقط النظام السوفياتي في 1991م. مدهش حقاً كيف ان هذه النظم الشيوعية وملحقاتها كانت أقوى كيانات عسكرية في التاريخ من حيث قوة النيران والجنود. ولكنها إزاء التحديات الداخلية تهاوت نموراً من ورق.
كان نظام منغستو حامياً للحركة الشعبية وجيشها من التمرد الداخلي. لذلك ما ان سقط نظام منغستو حتى وقع انقلاب الناصر داخل الحركة وكاد يعصف بها تماماً، في 1991 تغلبت الحركة على الانقلاب الداخلي لكنها فقدت الحاضن الخارجي فصارت في اضعف حالاتها لولا التحالفات الجديدة التي قيضها لها نظام "الإنقاذ" الذي استفز جيرانه بسياسات توسعية فدفعهم للبحث عن وسائل تحجيمه. تحالفت الحركة بعد الانقلاب الداخلي مع القوى السياسية الشمالية الأساسية في التجمع الوطني الديموقراطي، وتحالفت مع الجبهة الإقليمية والدولية العريضة التي تكونت ضد سياسات نظام الإنقاذ.
أما قادة الانقلاب ضد قيادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي وهم أربعة: رياك مشار وأروك طن أروك ولام اكول ووليام نون فكونوا أحزاباً سمّوها باسم الحركة الشعبية مع إضافة مميزة. إلا رياك مشار فإنه سمّى حركته: حركة استقلال جنوب السودان. وكونوا جيوشاً تدعم أحزابهم ثم دخلوا في حوار مع النظام السوداني ووقعوا معه اتفاقات.
بناء على قراءتها للموقف الداخلي في السودان، والموقف الإقليمي، والموقف الدولي، غيرت الحركة الشعبية مواقفها تغييراً راديكالياً ثلاث مرات: المرة الأولى عندما رفضت مفاهيم انيانيا 2 وأصدرت المانيفستو التكويني في 1983م، والمرة الثانية عندما وقعت على قرارات أسمرا 1995م، والمرة الثالثة عندما أعلنت في خطاب جون قرنق في 16 مايو 2000م التزامها بثلاثة مسارات حددها.
أمام الجيش الشعبي وحركته في هذا المنحنى التاريخي المهم خياران محددان:
الخيار الأول: الحل السياسي الشامل المتفاوض عليه. وهذا ممكن في الظروف الداخلية والإقليمية والدولية الحالية. إذا التزمت الحركة بما وقعنا عليه جميعاً في اسمرا في حزيران يونيو 1995م أساساً للسلام العادل فإن الحركة تستطيع أن تحقق:
- تضامن الطيف السياسي الجنوبي كله معها.
- تضامن القوى السياسية السودانية الموقعة على قرارات أسمرا كلها معها.
- دعماً إقليمياً من كافة جيران السودان.
- دعماً دولياً عريضاً.
التمسك بهذا الموقف يفتح الطريق للسلام العادل والاستقرار في السودان ويمكن الحركة من التحول لقوة سياسية تساهم في تشكيل أوضاعه بوزنها.
الخيار الثاني: أن تحدد الحركة أهدافاً لا تقف عند حد المطالب المشروعة المنصوص عليها في قرارات أسمرا في حزيران يونيو 1995م وإنما تتعداها لأهداف لا تتحقق إلا بالانتصار الحربي. الأهداف التي ذكرها قرنق في16/5/2000م وأعلن فيها تمسك جيشه وحركته بثلاثة مسارات هي:
المسار الأول: اتفاق ثنائي بينه وبين النظام في الخرطوم يتم تحت مظلة ايغاد ويؤدي لقيام دولتين كونفيديراليتين بحدود جديدة لمصلحة الجنوب وباقتسام متساو للسلطة المركزية بين الطرفين، على أن يجرى استفتاء لتقرير المصير بعد عامين من الاتفاق.
المسار الثاني: أن ينجح التجمع الوطني الديمقراطي في اقتلاع نظام الخرطوم ويحل محله. في هذه الحالة يفرض الجيش الشعبي أجندته لأنه الفصيل الأقوى تسليحاً وتدريباً وبلا منافس في التجمع وسيكون دور الفصائل الأخرى شكلياً.
المسار الثالث: أن يوسع الجيش الشعبي المناطق "المحررة" الحالية لتعم السودان، وفي هذه الحالة يكون هو جيش البلاد الوطني وتكون الحركة تنظيم البلاد السياسي المهيمن.
هذه المسارات الثلاثة لا تتحقق إلا نتيجة الانتصار العسكري.
في حال إصرار الجيش الشعبي وحركته على الأجندة الحربية هذه سيواجه الآتي:
- بروز طيف سياسي جنوبي عريض يشجب الحرب ويريد السلام العادل المؤسس على قرارات أسمرا 1995م.
- اتحاد القوى السياسية الشمالية ضد البرنامج الحربي ومقاصده المتعدية.
- تخلياً إقليمياً ودولياً عن دعم الأجندة الحربية.
الموقف الأخير لا ينطبق على الموقف الأميركي الحالي، لأن الموقف الأميركي الآن يدفع الجيش الشعبي وحركته لتصعيد الضغط العسكري لتحقيق أهداف استراتيجية اميركية سنفصلها في ما بعد.
4 - الحزب الشيوعي السوداني:
مرجعية الماركسية اللينينية الغريبة أصلا على المجتمعات ما قبل الرأسمالية، صارت الآن أكثر غربة بعد إخفاق النموذج السوفياتي في الاستجابة لأهم مطالب العصر الحديث وهي:حقوق الإنسان، الحريات الأساسية، التنمية، والتعامل السويّ مع مطالب الإنسان الروحية والخلقية والثقافية والفنية.
هنالك شيوعيون لم يتأثروا بغربة الشيوعية على المجتمعات ما قبل الرأسمالية، ولا بإخفاق الشيوعية في أهم مناطق تطبيقها في القرن العشرين في الاستجابة لمطالب العصر الأساسية. هؤلاء، وقد فاتهم تغيير المجتمع بتعبئة العداء الطبقي لتحقيق أهدافهم، التفتوا للغضب الإثني ليحقق لهم التحول المنشود على حد تعبير استيفن واندو أحد قادة الحركة الشعبية. قال عن هذه العناصر: "بعد أن فشلت في إيجاد أرضية جماهيرية لأطروحاتها الفكرية بدأت الزحف جنوباً بحثاً عن غطاء لأطروحاتها وتحميل النخب الجنوبية هذه المفاهيم لتناضل بدلاً عنها".
إن في الحزب الشيوعي السوداني تياراً يقوده أربعة من القدامى يريدون إعادة تنظيم الحزب الشيوعي السوداني من دون أن يعوا الدرس الوطني والعالمي. لقد عقد الحزب الشيوعي مؤتمراً في الخارج في لندن في عام 1999م وأصدر فيه توصيات مستنيرة. إن قضية اليسار أكثر جدية من الماضوية العبثية التي تريد أن تحافظ على أيديولوجيا تجاوزها التاريخ. أو الذين يريدون الاحتفاظ باسم لم تعد له صلة بالفعل.
إنني أناشد الأمين العام للحزب أن يخرج من مخبئه وأن يتضامن مع القوى الحية في حزبه لإحداث قفزة مماثلة للقفزات التي أحدثتها أحزاب شيوعية أخرى في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا. قفزة تستصحب الفكر الاشتراكي في الاستجابة لأهم مطالب العصر. وتتعامل مع السياسة السودانية بمنطق القرن الجديد لا منطق خمسينات القرن الماضي.
أنا أختلف مع اليسار في أشياء كثيرة، لكنني أدافع عن حقه في الطيف السياسي السوداني، وأتطلع لدوره البناء في التحول الديموقراطي في البلاد وفي تحقيق السلام العادل.
5 - قوات التحالف:
كان لهذا الفصيل دور رائد في مرحلة المواجهة الشاملة 1994-1998م، لكن تخلفه عن قراءة المستجدات جعله يحاول التعامل مع عام 2000م كأنه عام 1995!
التحالف مكون من ثلاثة أضلاع هي: عسكريون- نقابيون- مثقفون. العسكريون كانوا مع القيادة الشرعية واعتبروها جامدة ونمطية ورأوا أن المرحلة تستوجب عملاً ثورياً فخرجوا عليها. والنقابيون هم جماعة منظمة العمل الاشتراكي. والمثقفون يمثلون حزب المؤتمر الوطني الذي كان برئاسة المرحوم السيد عبدالمجيد إمام وتحالف القوى التقدمية جماعة محسي وعوض الكريم وآخرين
أقدم التحالف في ظروف ملائمة فحقق تقدماً، وتقاعس عن إدراك المستجدات فتعرض لنكسة ولتفكك.
الجزء الأكبر من التحالف سيتجه للحل السياسي الشامل وللداخل حيث العمل الجماهيري الحقيقي.
6 - التحالف الفيديرالي:
ينادي ببرامج قومية فضفاضة ولكن، في الحقيقة، لم يتجاوز جماعة احتجاج جهوي. ومع ذلك فهو منقسم إزاء الأجندات الراهنة.
7 - مؤتمر البجا:
مؤتمر البجا الذي يشارك في تجمع الخارج ليس هو صاحب الاسم التاريخي، ومع ذلك فقد انقسم داخلياً بين جماعة الحاج عمر، والشيخ أحمد بيتاي. إن تطورات الأحداث في الحدود الشرقية الشمالية وما حدث في همشكوريب رجّح كفة الشيخ أحمد بيتاي.
8 - الأسود الحرة الرشايدة:
تنظيم انضم للتجمع اخيراً ولعب دوراً نشطاً في الجبهة الشرقية الشمالية. وعندما اتضحت اختلافات الأجندة انحاز للأجندة الوطنية وأعلن مؤتمره العام الذي عقد في الشهر الماضي تخليه عن الأجندة الحربية.
9 - النقابات:
لا توجد نقابات حقيقية ولكن هنالك نقابيون أدوا دورهم في العمل المعارض ومواقفهم تميل إلى أحزابهم في النهاية.
10 - القيادة الشرعية:
هذه لافتة كانت مناسبة في مرحلتها، لكنها الآن لا معنى لها وقد كنا اقترحنا عليهم في مرحلة سابقة أن يكونوا تجمعاً عسكرياً للمشاركة في تطور القضية السودانية.
11 - الحزب القومي:
هو تنظيم قبائل النوبة وهو عضو في التجمع الوطني بالخارج، ولكن المجموعة الموجودة بالخارج معزولة من قواعدها بالداخل، واستوعبت اخيراً في برامج إعادة التوطين، كما أن المجموعة الموجودة بالداخل توالت مع النظام.
12 - المؤتمر الوطني:
عندما انقسم المؤتمر الوطني انحازت المجموعات الآتية غالباً للحزب الحاكم:
- كوادر الجبهة الإسلامية السابقة القيادية من الرعيل الأول والثاني، والكوادر العسكرية القيادية، والكوادر المهنية والتكنوقراطية، ورجال الأعمال، والمجموعات الجنوبية، المجموعات التي استقطبها "الإنقاذ"، والطرق الصوفية وزعماء العشائر الذين أيدوا "الإنقاذ".
وبصرف النظر عن الناحية الدستورية، فإن إجراءات شهر رمضان كانت صائبة من الناحية السياسية لأنها بدت كأن رئيس المجلس الوطني يهاجم رئيس الجمهورية فدفعه للدفاع عن نفسه. لكن إجراءات شهر صفر كانت سياسياً خاطئة لأنها بدت كأن رئيس الجمهورية يستخدم سلطته لفرض أوضاع في الحزب السياسي.
المؤتمر الوطني في موقف يستطيع منه أن يوحد القوى السياسية معه من أجل أجندة وطنية ديموقراطية سلامية وأن يوحدهم ضده.
- إذا تخلى عن أي امتيازات رسمية نالها أيام الشمولية، وبنى نفسه ديموقراطياً في داخله، وأفسح المجال الحقيقي للتعددية واحترام الآخر فإنه سيؤهل قيادته العليا الرئيس عمر البشير لدور قومي في تحقيق السلام العادل والتحول الديموقراطي. في هذه الحالة سيجد أن القوى الوطنية، والديموقراطية، والإسلامية المعتدلة تدفع معه في اتجاه واحد.
وإذا غلبت عليه عناصر الشمولية الأولى والثانية المتمسكة بالامتيازات الشمولية، فإنه سوف يجد نفسه حريصاً على بناء حزب السلطة. نسخة مستحدثة من الاتحاد الاشتراكي. حينئذ سوف يجد أن القوى الوطنية، والديموقراطية، والإسلامية المعتدلة تدفع ضده في اتجاه واحد.
13 - المؤتمر الوطني الشعبي:
لدى انقسامه من الحزب الوطني لم يحدث الطوفان الذي أنذر به. لكن هذا الحزب رقم سياسي يرجى ألا تدفعه النزعة الانتقامية أو يدفعه استفزاز الآخرين له لمواقف حمقاء يعمّ شرها.
أهم معالم هذا الحزب:
- احتفظ الدكتور حسن الترابي لنفسه بدورين مهمين: أنه رمز الحركة وأنه مفكرها.
- استقطب الجزء الأكبر والأكثر حماسة من شبان الحركة ونسائها.
- سريع الحركة لاستغلال أخطاء المؤتمر الوطني السياسية.
هنالك في الساحة السياسية السودانية عوامل ملتهبة يتعامل معها الحزب بطريقة مجازفة خطيرة:
- العامل الجهوي في السودان هو عامل مشحون بمتفجرات.
- عامل الجيش الشعبي.
- الراديكالية التي تلوح في الأفق العربي والتي غذتها تعديات إسرائيل.
كثير من الناس داخل السودان وفي إقليم جواره يحمّلون الدكتور حسن الترابي مسؤولية السياسات التي أوصلت السودان إلى ما نحن فيه، ويرون أن الموقف السياسي الصحيح هو إلغاء دوره نهائياً. إلغاء الدور بالقرار غير ممكن في ظروف السودان السياسية، ومحاولته سوف تبرر لأصحاب الدور الملغي التآمر والتطرف. والصحيح تقنين دوره وترك الحكم في أمره للشعب السوداني ليحكم في أمره بما يراه، عبر انتخابات حرة، على أن تتفق كل الأطراف على التزام سلوك سياسي عاقل.
أمام هذا الحزب خياران: ان يسترسل نحو مغامرة جديدة فيضر نفسه ويغذي الاستقطاب في البلاد، أو أن يتخذ موقفاً مع نفسه ويراجع ما حدث في الماضي ويكتب لنفسه عمراً سياسياً جديداً. كل الذين نفوا الآخر وعاقبوه على غير جرم جناه فدفعوه لممارسات مستفظعة محتاجون لوقفة صدق مع الذات من أجل الإسلام والسودان.
الخميس المقبل نواصل نشر كتاب الصادق المهدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.