تحدث الكاتب الروسي ايغور تيموفييف حلقة الاثنين 6/11/2000 عن توقيع بروتوكول ملكارت لتنظيم عمل المقاومة الفلسطينية وقيام حرب تشرين اكتوبر 1973 وبروز دور جبهة الرفض في الساحة اللبنانية. وهنا الحلقة السابعة. صبيحة الأحد الموافق 13 نيسان ابريل 1975 وصل رئيس الكتائب بيار الجميل لحضور تدشين كنيسة جديدة في عين الرمانة في بيروت. وما ان بدأ القداس حتى انطلقت من أحد الأزقة الضيقة سيارة "فيات" رقمها مغطّى بخرقة وسخة، واندفعت صوب الكنيسة في شارع مار مارون. خففت سرعتها أمام المدخل، وبلمح البصر أطلق مجهولان كانا في داخلها النار من بندقيتين رشاشتين مصوبتين من النوافذ الجانبية على الجمهور المحتشد عند الرصيف، فلقي أربعة أشخاص مصرعهم في الحال، ومنهم جوزف أبو عاصي المرافق الشخصي للجميل. كان الرجال المسلحون عند الكنيسة لا يزالون يبحثون في تفاصيل الحادث الدموي بصخب وضجيج، عندما ظهرت في عين الرمانة حافلة تقل، كما اتضح في ما بعد، فلسطينيين عائدين الى مخيم تل الزعتر القريب من المنطقة، بعدما شاركوا في تجمع أقيم في مخيم صبرا احتفالاً بالذكرى الأولى للغارة الفدائية على مستعمرة كريات شمونة الاسرائيلية. وكانت الاعلام الفلسطينية ترفرف من نوافذ الحافلة، التي كان ركابها يصفقون ويرددون أناشيد المقاومة. ولم يدر أحد ما الذي جعل السائق يختار طريقه عبر ضاحية عين الرمانة، ومعظم سكانها من الموارنة، وكان الفلسطينيون عادة يتحاشون المرور بها، فكانت تلك الغلطة قضاء محتوماً على ركاب الحافلة، وطوال عشرين دقيقة من الطلقات النارية تحولت الحافلة الى ما يشبه الغربال. وعندما أسرع رجال الاسعاف الى مكان الحادث كان سقط 27 قتيلاً و19 جريحاً. وقرابة الساعة السادسة مساء اجتمع زعماء "الأحزاب الوطنية والتقدمية" في جلسة عاجلة بمنزل كمال جنبلاط. الا ان التيار الكهربائي في المصيطبة انقطع، فاقترح محسن دلول، عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، استكمال اللقاء في شقته في منطقة الرمل الظريف. ومع ان المشاركين في الاجتماع لم يكونوا اطلعوا، حتى ذلك الحين، على كل ملابسات حادث الصباح، فان رد فعل الفلسطينيين الشديد وإرسال فصائلهم المسلحة في اتجاه عين الرمانة والأشرفية، لم يتركا مجالاً للشك في ان تطور الأحداث اتخذ طابعاً خطيراً لا تحمد عقباه. بعد قليل لعلعت الرصاصات الأولى في الأزقة ما بين عين الرمانة ومحلة الشياح التي يقطنها نازحون شيعة، وسرت موجة العنف بالتداعي، فاجتاحت النواحي القريبة، الواحدة تلو الأخرى. وعندما خيم المساء على بيروت كانت المعركة الطاحنة بالمدفعية والهاونات تدور بين تل الزعتر والدكوانة، والشهب النارية المتقابلة تخترق الأجواء فوق النبعة وسن الفيل. لم يكن ياسر عرفات يومذاك في لبنان، فاتصل جنبلاط فوراً بأبي أياد ليقنعه بعدم الانسياق للعواطف، ويناشده ان يلقي بثقله لحل النزاع بالطرق السلمية. وأقر المشاركون في اجتماع الاحزاب بياناً أجمعوا فيه على اتهام الكتائب بالتنكيل بالفلسطينيين العزل، وطالبوا بتسليم المذنبين الى القضاء فوراً. ولتفادي التحركات غير المرخص بها، التي قد تقدم عليها الميليشيات اليسارية والاسلامية، اتخذ الاجتماع قراراً بتأليف "قيادة مشتركة" ضمّت زعماء أحزاب التقدمي الاشتراكي، الشيوعي، البعث الموالي للعراق، السوري القومي الاجتماعي، وحركة الناصريين المستقلين المرابطون. الا ان أهم حصيلة للاجتماع كانت قراره عزل حزب الكتائب، بناء على اقتراح الامين العام للحزب الشيوعي جورج حاوي والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم، وكانا يريدان له ان يحقن الدماء وينقل النزاع الى صعيد المواجهة السياسية. واتضح في ما بعد ان النيات الطيبة لا تؤدي دوماً الى الهدف المنشود. فتحولت تلك الخطوة، التي تصوّرها كمال جنبلاط موفقة وفاتحة للسلام الى ممهدة للحرب الدموية.... وبمبادرة من جنبلاط وحلفائه عقدت في نادي خريجي المقاصد يوم 15 نيسان 1975 جلسة للهيئات الاجتماعية أقرت بالاجماع توصيات طالبت بتسليم المذنبين، وتضمنت دعوة واضحة الى فرض عقوبات على حزب الكتائب. وكانت تلك التدابير تفترض عزل وزيري الكتائب من الحكومة والامتناع عن الحوار السياسي مع الكتائبيين، لتجريدهم من حق التحدث باسم المسيحيين، كما تفترض مناشدة الاقطار العربية الامتناع عن اجراء اي اتصالات او محاولات للتوسط معهم.... وبعدما استدعى الرئيس سليمان فرنجيه - وكانت اجريت له جراحة في المستشفى - الشيخ بيار الجميل وطالبه بالعمل على "تنقية الاجواء"، تم تسليم اثنين من المتهمين السبعة بتدبير الحادث الى السلطات في 16 نيسان. وتوافقت خطوة الكتائبيين هذه مع وقف اطلاق النار الذي امكن تحقيقه بفضل الامين العام للجامعة العربية. في ذلك اليوم تلبدت سماء بيروت بسحب كثيفة صاحبها مساء برق ورعد، واختلط ذلك كله بأزيز الرصاص الذي كان لا يزال يدوي في بعض الاماكن. مع الفجر توقف المطر وخيم هدوء غير مألوف، الا ان شائعات سرت في المدينة ظهراً عن وجود قناصة يطلقون النار من سطوح المنازل على عابري السبيل وسط بيروت. وكان الجميع يتحدث عن "قوة ثالثة" تحاول احباط الجهود الرامية الى احلال النظام واستتباب الامن.... في اجتماع زعماء الاحزاب الوطنية والتقدمية الذي دعي اليه الامام الصدر طرح جنبلاط مسألة عزل الكتائب سياسياً واقتصادياً، واعلن ان "جبهة النضال الوطني" ستحجب الثقة عن كل حكومة تتألف بمشاركة الكتائبيين. ومع ان زعماء الاحزاب اليسارية والامام الصدر استحسنوا هذه المبادرة، الا ان فكرة مقاطعة الكتائب لم تلق حماسة لدى السياسيين السنّة التقليديين، فأيدها بعضهم بفتور خشية فقدان ماء الوجه حيال ابناء طائفتهم التي يؤيد السواد الاعظم منها رأي جنبلاط. وفي 26 نيسان خطا جنبلاط خطوة اخرى في هذا الاتجاه، فتمكن في جلسة "الجبهة العربية" المشاركة في الثورة الفلسطينية، من استصدار قرار بشأن استنكار افعال الكتائبيين ومقاطعتهم في العالم العربي. في 30 نيسان 1975 قابل وزيرا الحزب التقدمي الاشتراكي عباس خلف وخالد جنبلاط رئيس الجمهورية بعد مغادرته المستشفى، وسلماه استقالتيهما من الحكومة فرفض وناشدهما ارجاء الموضوع. حتى ذلك الحين كان واضحاً تمتع الكتائبيين بدعم قوي من جانب الاوساط المسيحية المحافظة، اذ اعلن الرئيس كميل شمعون ان حزبه لن يدخل الحكومة الا اذا شارك فيها حزب الكتائب. واعرب الاب شربل قسيس، باسم الرهبانية المارونية التي لها نفوذ كبير جداً بين الموارنة، عن التضامن التام مع الكتائبيين، بينما قال البطريرك انطونيوس بطرس خريش، بلهجة مؤدبة وصارمة في الوقت عينه، ان "فيتو" جنبلاط لا يروق الكنيسة المارونية. ولم يؤيد العميد ريمون اده فكرة عزل الكتائب معتبراً هذا الاجراء تجاه احد أكبر الاحزاب في البلاد حماقة وسفاهة. صمم الشيخ الجميل على القيام بخطوة ذات مغزى شجعه عليها تأييد المسيحيين وازدواجية موقف الكثير من السياسيين السنّة. ففي اول جلسة يعقدها مجلس الوزراء عقب الاحداث يوم 7 أيار مايو، قدم وزيرا الكتائب استقالتيهما، وعلى اثر ذلك ترك الحكومة اربعة وزراء آخرين: ثلاثة من الوطنيين الاحرار والرابع هو وزير الصحة الامير مجيد ارسلان. وأسفرت استقالة 6 وزراء من 18 وزيراً عن تبدل جوهري في الموقف، اذ ان غياب أشد الخصوم هيأ، في اعتقاد جنبلاط، الظروف الملائمة في الحكومة للعودة الى مسألة اصلاح النظام السياسي. ولذلك اتخذت الاحزاب اليسارية في 8 أيار قراراً بدعم حكومة الصلح والتعاون معها في حل أكثر مشكلات المجتمع إلحاحاً. وعلى مدار الاسبوع التالي قابل جنبلاط مراراً الرئيس فرنجية محاولاً إقناعه بعدم الرضوخ لضغوط الكتائبيين وانصارهم وابقاء الصلح في رئاسة الوزارة. على رغم استقالة الوزراء عادل عسيران وزكي مزبودي وطوني فرنجية، ظل جنبلاط مصراً على استمرار الحكومة آملاً بأن الاكثرية النيابية ستؤيدها. وفي جلسة عقدها مجلس النواب في 15 أيار تلا الصلح بياناً اتهم فيه الكتائب بتدبير مجزرة عين الرمانة، وطالب باصلاح النظام السياسي اللبناني، وتعديل قانون الجيش بهدف تمثيل المسلمين في قيادته العليا تمثيلاً عادلاً، كما طالب بمساهمة لبنان في النضال العربي المشترك واقرار قانون التجنس. الا ان النائب امين الجميل اصر في اثناء المداخلات على شطب الاتهامات الموجهة الى الكتائب من محضر الجلسة، مؤكداً عدم شرعية اي تهمة ما لم تثبت الادانة قضائياً، وحمل رئيس الوزراء مسؤولية الموقف، فهو ملزم، على حد تعبيره، اتخاذ كل التدابير لاستعادة النظام واستتباب الامن، لكنه لم يفعل على رغم انه يشغل منصب وزير الداخلية، اضافة الى رئاسة الحكومة. وجرت مشادة كلامية حادة بين الصلح وامين الجميل كادت ان تنتهي بمناوشة، وبات مستبعداً ان تصمد الحكومة في تركيبتها المبتورة تلك. وفي اليوم عينه توجه الصلح الى قصر الرئاسة وقدم استقالته. قام جدل واسع في الاوساط السياسية حول الشخصية التي ستكلف تأليف الحكومة الجديدة، في جو تبادل اطلاق النار الذي تجدد بعد هدوء استمر منذ الاتفاق على وقفه في 16 نيسان 1975. وفي 18 ايار خاضت ميليشيات الكتائب في منطقة الدكوانة معركة مع فلسطينيين من مخيم تل الزعتر ينتمون الى "جبهة الرفض والتصدي". وهبت فصائل مسلحة من حزب العمل الاشتراكي العربي ومنظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي واحزاب يسارية اخرى لنصرة الشيعة والفدائيين على امتداد خط المواجهة بين عين الرمانة والشياح. وسرعان ما شملت المعارك منطقة سن الفيل ذات الغالبية المارونية إذ اشتبك الكتائبيون مع الميليشيات الشيعية في النبعة والفدائيين المؤيدين لهم.... في بداية حزيران يونيو 1975 اتسعت رقعة الاشتباكات، فنشبت معارك ضارية جنوب العاصمة ما بين الشيعة في حارة الناعمة الساحلية وفصائل حزب الوطنيين الاحرار في الناعمة والدامور، وامتد التوتر الى الشمال ايضاً، فسدت الميليشيات المسيحية في جبيل طريق بيروت - طرابلس المهمة استراتيجياً. وفي منتصف حزيران خيّم هدوء نسبي مكّن الطرفين المتحاربين من اعادة توزيع قواتهما وتزود اسلحة وذخيرة، الا ان تبادل اطلاق النار استؤنف آخر الشهر بشدة اكثر وعلى كل خطوط المواجهة وبلغ ذروته على الخط الفاصل ما بين عين الرمانة والشياح. ومنذ بداية المشاورات في شأن تأليف الحكومة وضع جنبلاط على كرامي شرطين لا مجال للمساومة السياسية حولهما، الاول عدم مشاركة الكتائب فيها، والثاني عدم جواز تعيين عسكريين في منصبي وزير الدفاع ووزير الداخلية. وادى هذا الموقف الى احراج كرامي الذي كان يواجه وضعاً في منتهى الصعوبة. ورفض الجميل "فيتو" جنبلاط قطعاً، واعلن عن رفضه اقصاء حزبه عن الحكومة اياً تكن الظروف، وايده في ذلك كميل شمعون معلناً انه لن يدخل الوزارة الا اذا دخلها الكتائبيون. وزاد في حراجة الموقف العداء الشخصي ما بين شمعون وكرامي، الذي تعود جذوره الى العام 1958 عندما كانا في متراسين متقابلين اثناء "الثورة". ومذذاك لم يجر اتصال بينهما. واثناء المشاورات التي اجراها لتأليف الحكومة لم تتوافر الفرصة لكرامي ليكلم زعيم "الوطنيين الاحرار" مباشرة. والى ذلك كان الرئيس فرنجية الذي كلفه تأليف الحكومة مرغماً يتعمد التملص من التعاون معه، بل يضع العقبات في طريقه.... وفي 30 حزيران اعلن رشيد كرامي تشكيل "حكومة الانقاذ الوطني" من ستة وزراء. وعلى رغم ان احداً من الكتائبيين لم يدخلها فقد استاء جنبلاط لأن كرامي لم يرَ ضرورة للاستئناس برأيه حول توزيع الحقائب الوزارية. وكان جنبلاط يخشى ان يقع منصب وزير الدفاع في يد الامير مجيد ارسلان او كميل شمعون، والاحتمال الثاني أسوأ من الأول بكثير طبعاً. الا ان تلك المخاوف لم يكن لها ما يبررها، فقد احتفظ كرامي لنفسه بحقيبة الدفاع تفادياً لمحاولات الزعماء الموارنة توريط الجيش في النزاع لمصلحتهم، واسند حقيبة الداخلية الى شمعون. ازداد استياء جنبلاط بسبب اخفاق محاولة عزل الكتائب ما دام شمعون ينوي تمثيلهم في الحكومة. وكان ثمن هذا النجاح الشكلي التخلي عن المشاركة في السلطة، وهي المشاركة التي تعتبر في نظر جنبلاط ضرورية الآن اكثر من كل وقت مضى. والى ذلك فالحكومة تتألف من الطاقم السياسي المحافظ القديم، ما عدا غسان تويني، ممن يتألقون في علية المجتمع ولكنهم غير مؤهلين لتحقيق اصلاحات جذرية. ثم ان سياسيي هذا الرعيل لم يعودوا، في اعتقاد جنبلاط، يمثلون احداً، لذا لم يبق بين وزراء الحكومة الجديدة من يتمتع بنفوذ سياسي فعلي سوى كرامي وشمعون. في 15 تموز 1975 محض مجلس النواب حكومة كرامي ثقته، فصوت لمصلحتها 83 نائباً وامتنع عن التصويت 16 من انصار جنبلاط. ومع ذلك سلم جنبلاط رئيس الوزراء برنامجاً سياسياً ضمّنه التدابير العاجلة للخروج من الازمة، في مقدمها الغاء الطائفية السياسية وتوزيع الصلاحيات على نحو اكثر عدلاً ما بين مختلف فروع السلطة، وتغيير النظام الانتخابي، واعادة هيكلة الجيش وتنظيمه، واقرار قانون للتجنس يرمي الى تيسير منح الجنسية اللبنانية لبعض الاقليات الاسلامية.... انتشار العنف أنهت الاشتباكات المسلحة التي دارت في منطقة زحلة يوم 24 آب اغسطس 1975 بين المسيحيين من جهة، والشيعة والفلسطينيين المؤيدين لهم من جهة اخرى، فترة هدوء نسبي استمرت نحو ثمانية اسابيع. وكانت تلك الاشتباكات بدأت بعراك مألوف في احد المقاهي، الا انها سرعان ما اجتاحت المدينة وضواحيها. وعلى رغم الجهود الحثيثة لرجال الامن استمر تبادل اطلاق النار في زحلة اياماً عدة واستخدمت فيه الرشاشات والصواريخ. وفي بداية ايلول سبتمبر تأزم الموقف بدرجة أكبر في الشمال، فدارت في طرابلس معارك ضارية بين مقاتلي "حركة 24 تشرين" وميليشيات زغرتا المسيحية، رافقتها عمليات خطف وتعذيب ونهب للمتاجر والمنازل. ونزح المسيحيون من طرابلس زرافات ووحدانا… واضطر، الى الموارنة، مغادرة المدينة الروم الارثوذكس وهم من أهاليها الاصليين، وكانوا التزموا الحياد منذ بداية الاحداث. على أثر ذلك اجتاحت موجة العنف عكار حين استولى المقاتلون المسلمون والفلسطينيون على قرية بيت ملات وعاثوا فيها فسادا وأرغموا اهاليها على الفرار الى كسروان. وتميزت الاحداث في الشمال بصبغة خاصة كون زغرتا مسقط رأس الرئيس فرنجية وطرابلس القاعدة السلطوية التقليدية لرئيس الوزراء كرامي. وكانت جلسات الحكومة العقيمة في تلك الايام اشبه بلعبة شد الحبل. ففي الوقت الذي أصر رئيس الجمهورية والوزراء المسيحيون على اعلان حال الطوارئ واستخدام الجيش للفصل بين الطرفين المتحاربين، عارض رئيس الحكومة والوزراء المسلمون هذه التدابير بشدة. الا ان كرامي أخذ يميل تدريجاً الى هذه الفكرة، اذ لم ير سبيلاً آخر لحقن الدماء، ورفضت الحركة الوطنية موقف رئيس الوزراء هذا وأصدرت بياناً حذرت فيه كرامي من مغبة زج الجيش في الصراع. فهو لن يتمكن من البقاء على الحياد، ولا بد من ان يلتزم جانب الميليشيات المسيحية. وأعرب زعماء المسلمين عن مخاوفهم بهذا الخصوص فأعلنوا انهم لن يقبلوا باستخدام الجيش ما دام العماد اسكندر غانم قائده، اذ لا أحد يجادل في علاقاته الوثقى بالسياسيين المسيحيين المحافظين. وفي 10 ايلول عقدت جلسة طارئة لمجلس الوزراء ترأسها فرنجية الذي وصل من اهدن الى بعبدا على جناح السرعة. وأفلح في اتخاذ قرار باجراء عملية محدودة للفصل بين الطرفين المتقاتلين، ووافق على منح قائد الجيش غير المقبول من المسلمين اجازة لأجل غير مسمى، وتعيين العماد حنا سعيد، المعروف بالاعتدال، في هذا المنصب موقتاً. وكما توقع كمال جنبلاط، فسرعان ما اتخذت الاحداث طابعاً مأسوياً. ففي 14 ايلول لقي 12 مقاتلاً من اعضاء "حركة 24 تشرين" التي يتزعمها فاروق المقدم مصرعهم في اشتباكات مسلحة في منطقة شكا مع وحدات الجيش التي هبت لنجدة ميليشيات زغرتا. وكهرب هذا النبأ الاوضاع في بيروت الى اقصى حد. ففي اجتماع عقده زعماء "الاحزاب الوطنية والتقدمية" في منزل جنبلاط اتخذ قرار باعلان الاضراب العام ليوم واحد في 15 ايلول احتجاجاً على توريط الجيش وتأييداً لمقاتلي الحركة الوطنية في طرابلس. وخيم خطر الاشتباكات المسلحة على بيروت أيضاً. وتوقع الزعماء السنّة والمفتي الشيخ حسن خالد ان يعمد الكتائبيون الى تفجير الموقف لارغام رشيد كرامي على زج الجيش في العاصمة، فحاولوا اقناع كمال جنبلاط بالتخلي عن الاضراب. وكان هذا ايضا رأي عرفات الذي خشي ان يؤدي تصعيد العنف في بيروت الى توريط الفلسطينيين في عمليات حربية كانت قيادة منظمة التحرير تتفاداها جاهدة طوال الاشهر الاخيرة. واقتنع جنبلاط بالحجج المنطقية لحلفائه فأعلن الغاء الاضراب في آخر لحظة، الا ان ذلك القرار لم يعد قادراً على تغيير مجرى الاحداث. ففي 16 ايلول طالب الجميل مجدداً وبمنتهى الحدة باستخدام الجيش لاحلال النظام. وعندما لم يتسلم رداً على انذاره هذا، بدأ الكتائبيون في اليوم التالي قصف المناطق المركزية في بيروت بالمدفعية على نحو مسعور، وفي اليوم عينه، نشبت معارك ضارية في انحاء عدة من لبنان ورافقها خطف. وفي 18 ايلول واجه وليد، نجل كمال جنبلاط، حادثاً مروعاً. فعندما خرج من شقته في الحازمية اعترض مسلحون سيارته وخطفوه وعصبوا عينيه ونقلوه الى جهة مجهولة. في ذلك اليوم عانى جنبلاط أشد المعاناة. فأنباء التعذيب والاعدامات الواردة من مختلف ارجاء بيروت تثير الرعب والفزع. واستخدم جنبلاط كل السبل الممكنة للبحث عن ابنه، واستعان بأبي حسن سلامة مدير الدائرة الامنية في منظمة التحرير الفلسطينية. وسرعان ما اتضح ان جماعة من مقاتلي الوطنيين الاحرار اختطفوا وليد ونقلوه الى موقع في "قناطر زبيدة". وفوجئ شمعون بهذا التصرف الاعتباطي فكلف ابنه داني ان يتخذ كل التدابير لانقاذ حياة جنبلاط الشاب. وبعد حين افرج عن وليد بك ونقل الى القصر الجمهوري وكان الرئيس فرنجية والوزير شمعون في انتظاره. عادت الروح الى جنبلاط، ودفعته الخاتمة السعيدة الى تصرف ما كان سيقدم عليه في ظروف أخرى، فقد اخذ جهاز الهاتف العتيق "الاريكسون" ذا السلك الطويل من يد مرافقه جوزف ابي خليل وأدار قرصه مكوناً الرقم 222244. كان ذلك رقم هاتف منزل شمعون في السعديات. استغرقت اول مكالمة هاتفية بينهما منذ 17 عاماً بضع دقائق، وبعد التحية والسلام التقليدي شكر جنبلاط شمعون على انقاذه حياة وليد، ولم يضف الى ذلك كلمة واحدة. ثم وضع السماعة في مكانها وسلم الجهاز عفوياً الى جوزف الذي كان الى جانبه وأومأ اليه بأنه يريد ان يختلي بنفسه. في مساء ذلك اليوم ادلى جنبلاط ببيان أكد فيه بحزم ضرورة الحل السياسي للنزاع، ودعا الى وقف اطلاق النار فوراً. ورداً على ذلك وسع الكتائبيون رقعة العمليات الحربية، فقصفوا منطقة الاسواق التجارية، ولم يبق هناك شك في كونهم قرروا نهائياً استخدام القوة. ولم تفلح فرق الاطفاء التي وصلت من دمشق في اخماد الحرائق التي اندلعت تلك الليلة لأن مناطق الوسط التجاري كانت هدفاً للقناصة القابعين على سطوح المباني وشرفاتها. * يصدر قريباً عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار". * السبت: انقلاب الأحدب وحرب الجبل.