الأحداث الجارية حالياً في فلسطينالمحتلة والتي هي امتداد لنضال شعبي عادل منذ عشرات السنين في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، تذكرنا بتاريخ طويل من التضامن أبداه الشعب الايراني مع الشعب العربي الفلسطيني. إن ما نبتغيه من هذا المقال ليس الا تذكير القارئ العربي بأن العوائق والجدران التي فرقت وتفرق بين الشعبين الايراني والعربي لم ولن تتمكن من طمس مشاعر الأخوة الانسانية تجاه المصير الايراني المشترك مع العرب والفلسطينيين، علماً أن الظروف السياسية الرسمية على اختلافها سواء أيام الانتداب البريطاني على فلسطين أو بعد اقامة الدولة العبرية أيام الشاه أو إثر استقرار نظام الجمهورية الاسلامية، لم تكن ملائمة لتحقيق التضامن الفعلي بين الشعبين الايرانيوالفلسطيني. 1- في ظل الانتداب البريطاني كان هناك ممثلون ديبلوماسيون للحكومة الايرانية في فلسطين. ففي عام 1944 كان السفير الايراني "اشتياني" وكان الايرانيون المعروفون بولائهم لبريطانيا مثل سيد ضياء الدين طباطبائي الذي قام بانقلاب عسكري الى جانب رضا خان عام 1931 ومهد لاستقرار حكم الأخير وتأسيس نظام "بهلوي" بدلاً من "قاجار" يقيمون في فلسطين كملاك للأراضي وتجار، كما كانوا قدموا خدمات للوكالة اليهودية لشراء الأراضي من العرب كوسطاء وبيعها لليهود الوافدين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الى فلسطين. طبيعي ان هذه التحركات كانت تجري بسرية تامة وبعلم من سلطات الانتداب، ولم يكن الشعب الايراني يومها يعلم أي شيء عما كان يجري في فلسطين، اذ انه كان مأخوذاً بالكثير من المشكلات كان آخرها خضوع البلاد لاحتلال قوات الحلفاء. 2- عام 1948 شهدت البلاد الاسلامية، مثل باكستان، تظاهرات ضد احتلال فلسطين، وقامت تظاهرة احتجاج من موقف اسلامي معادٍ لليهود امام البرلمان الايراني تطالب بفتح الطريق امام المتطوعين للذهاب الى القدس والدفاع عنها، الا ان آية الله حسين بروجردي - المفتي الأعظم آنذاك - منعهم من ذلك. 3- منذ عام 1953 واثر الانقلاب البريطاني - الأميركي الذي أدى الى سقوط حكومة مصدق وضرب الشيوعيين والوطنيين توطدت العلاقة بين حكم الشاه واسرائيل وامتدت الى جوانب تجارية وأمنية وعسكرية وثقافية وأصبح اي خبر أو كلام عن فلسطين وحقوق شعبها ممنوعاً تحت طائلة العقوبات: وهناك من حوكم مثل مصطفى وهنما لأنه كتب كراساً صغيراً حول القضية الفلسطينية، واعتقل علي أكبر هاشمي رفسنجاني لأنه ترجم ونشر عام 1964 كتاباً عن تاريخ فلسطين من تأليف الكاتب والسياسي الأردني أكرم زعيتر. وجدير بالذكر ان المترجم بحسب ما جاء في مقدمته آنذاك لم ينطلق من موقف ديني واسلامي بل من موقف وطني معادٍ للاستعمار. ذلك أن الخطاب السائد آنذاك لم يكن دينياً بل وطنياً، ولكن بعد أن أوصلته الأقدار الى الحكم، لم يف بما كان يكتبه في الستينات بل وقف ضد وحدة الشعب الفلسطيني وحاول مع كل طاقمه الحكومي ونفوذه ان يفرض رؤيته الدينية على النضال الفلسطيني. ووصلت حال المنع والرقابة ذروتها في حرب الأيام الستة عام 1967 حيث اجمعت الصحف الرسمية وأجهزة الاعلام على اخفاء حقيقة الموقف الرسمي الايراني ودعم الشاه لإسرائيل وتوفير النفط لها. كما قامت الصحف في غالبيتها بتبرير الحرب الاسرائيلية على البلدان العربية، خصوصاً على مصر وسورية اللتين كانتا على خلاف شديد مع حكم الشاه وتحالفه مع الولاياتالمتحدة واسرائيل. أضف الى ذلك انه خلال الخمسينات وأوائل الستينات كان هناك بعض المثقفين الذين انفضوا عن الشيوعية واتجهوا نحو الاشتراكية الدولية. وكما يقول الكاتب المعروف جلال آل أحمد: "اتخذوا الكيبوتز بديلاً من "الكولخوز" واعتبروا اسرائيل نموذجاً ناجحاً للاشتراكية والتنمية وقاموا ببعض الدعاية لمصلحة اسرائيل من دون ان ينتبهوا الى ما كان يقترف بحق الفلسطينيين. وعلى رغم ان الرقابة كانت تعتم على اخبار فلسطين، الا ان احداثاً مهمة مثل حرب قناة السويس عام 1956 كانت تعطي فرصة لبعض الأقلام لأن تكشف عن تضامن الشعب الايراني وقواه الواعية مع أخوانه العرب. من هذه المواقف وأحسنها ما كتبه الصحافي محمود تفضلي في مجلة "تهران مصور" تحت عنوان: "ما جرى في قناة السويس وفي قلوبنا". 4- وقعت حرب الأيام الستة واحتلت اسرائيل كل الأراضي الفلسطينية. وفي ايران اتخذت غالبية أجهزة الاعلام الرسمية موقفاً محايداً تجاه اسرائيل، وكتب بعض الصحافيين المتعاملين مع نظام الشاه مقالات أثارت دهشة القراء الواعين من شدة تعاطف تلك الأقلام مع مصلحة اسرائيل مثلاً مقالات داريوش همايون في مجلة "بامشاد". ولكن لم يتأخر الرد وبدأ منعطف مهم في الرأي العام إثر الموقف الجريء الذي اتخذه عدد من الكتاب والمثقفين في التنديد بهذا العدوان، وأفضل ما عبر عن هذا الموقف ما كتبه الكاتب المعروف علي أصغر حاج سيد جوادي آنذاك في مجلة "نكين" الشهرية حيث شرح جذور وأبعاد العدوان الاسرائيلي والدعم الأميركي له مع رسم يصور تمثال الحرية الأميركي بعين "موشي ديان" المعصوبة. 5- منذ أواسط الستينات حتى نهاية السبعينات ظهر التطور النوعي لدى الوطنيين والثوريين الايرانيين وتضامنهم مع المقاومة الفلسطينية. فحاول عدد غير قليل من الشباب المنتظمين في مجموعات سرية ثورية أو كأفراد متعاطفين مع الثورة الفلسطينية الذهاب الى اماكن وجود الفلسطينيينالعراق، بلدان الخليج... للالتحاق بصفوف المقاومة، وعلى رغم ان بعضاً منهم قد اعتقل بأيدي البوليس السياسي- السافاك - وحكم عليه بالسجن، الا ان الكثيرين منهم تمكنوا من الالتحاق بصفوف المقاومة في الأردن ولبنان وسورية. وجدير بالذكر ان الفلسطينيين قاموا بكل ما في وسعهم لدعم نضال الشعب الايراني في مجال التدريب والاعلام وأشكال أخرى للدعم. كما قام المناضلون الايرانيون من شيوعيين ومجاهدين ووطنيين بكل ما في وسعهم لدى الرأي العام الايراني للتعريف بنضال الشعب الفلسطيني ودعمه اعلامياً وعسكرياً ومادياً وثقافياً. كما ان التعاطف مع الفلسطينيين بارز تماماً لدى غالبية الايرانيين الذين يعيشون حالياً في المنفى. وكان هذا التضامن تتوج باختلاط الدم الايراني بالدم الفلسطيني حيث عمل وقاتل بعض الايرانيين الى جانب الفلسطينيين في الأردن ولبنان. وتم في الفترة نفسها تنفيذ عمليات عسكرية في ايران تهدف الى فضح العلاقات مع اسرائيل سياسياً واقتصادياً وأمنياً. ولما نشرت مذكرات أسدالله علم وزير البلاط - بعد وفاته - ثبت ما كان المناضلون الايرانيون يؤكدونه من العلاقات الوطيدة بين نظام الشاه واسرائيل، ومنها: - زيارات سرية لمسؤولين اسرائيليين مثل ليفي اشكول وغولدامائير واسحق رابين. - مشروع مشترك بين ايران واسرائيل لاقامة أنابيب النفط. - اقامة حفلة لتكريم رئيس أركان الجيش الاسرائيلي دافيد العازار في طهران. - اعطاء ميدالية التاج لممثل اسرائيل في طهران المدعو "عزري". الا ان الشعب كان ينتهز أية فرصة للتعبير عن موقفه كما حصل خلال مباريات كرة القدم بين الفريقين الايراني والاسرائيلي في أيلول سبتمبر 1969 حيث دوت الشعارات المنددة باسرائيل أثناء المباراة وبعدها في شكل تظاهرة نادرة في ايران الشاه. 6- بعد سقوط الشاه كان المد الشعبي عارماً في تأييد القضية الفلسطينية وثم اغلاق السفارة الاسرائيلية إثر الهجوم الجماهيري العفوي الغاضب عليها فتم فتح سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وعلى رغم ان الخطاب الرسمي كان ولا يزال ينادي بتحرير فلسطين ودعمها، الا ان النظام الجديد حاول بكل الوسائل ان يتخذ من موقفه الدعائي المزاود ذريعة لاثبات ثوريته، وان يتدخل في مصير القضية ويشق الصف الفلسطيني ويفرض على النضال الوطني للشعب الفلسطيني ما كان يراه مناسباً لموقفه المتعصب الاستبدادي التوسعي خدمة لسياسته الداخلية. وطبيعي ان الفلسطينيين بتجربتهم المريرة والطويلة مع سياسات الاحتواء من كل حدب وصوب، لم يركنوا الى ما كانت ايران تمليه عليهم. إن مواقف النظام ودعاياته المملة أضرت بسمعة النضال الفلسطيني لدى الايرانيين، لكن، يمكن القول انهم راغبون في التضامن مع الفلسطينيين ويؤيدون حقهم في تقرير مصيرهم كما يرونه هم مناسباً. * كاتب ايراني مقيم في فرنسا.