سأل صحافي أجنبي بتأثر امرأة فلسطينية في شهرها الثامن من الحمل وهي تشارك في تشييع جنازة شبان نابلس الاربعة الذين قتلوا في يوم الجمعة الاحمر الرابع من انتفاضة الاقصى: "هل توافقين على ارسال اطفالك لكي يُقتلوا؟ في اوروبا يعتقدون انكم مجانين ترسلون اطفالكم لكي يقتلوا". تدفقت الكلمات من فم المرأة التي اعتكر لون عينيها الخضراء باللون الاحمر من شدة البكاء: "في اوروبا لا يعيشون تحت الاحتلال. علينا ان نقاوم. نحن في حالة حرب وعلى الجميع ان يشارك من أجل الحرية. اريد ان يكبر اطفالي وهم احرار. عليك ان تسأل الجنود الاسرائيليين لماذا يطلقون علينا النار بهدف القتل. انهم لا يقتلون فقط من يخرج الى الشارع مسلحاً بحجر بل يقصفون بيوتنا، هل كان محمد الدرة يرميهم بالحجارة؟" هذا هو المشهد الفلسطيني اليومي الذي يشاهده الملايين منذ أربعة اسابيع على شاشات التلفزيون: شبان في عمر الورود يتسابقون في الاندفاع نحو الدوريات الاسرائيلية المدرعة وفي لحظات يسقطون على الارض بين جريح وشهيد. والسؤال يكبر: ما الذي يحمل شباناً من المفترض انهم يتطلعون الى التمتع بالحياة الى بناء مستقبل لهم الى "الاندفاع نحو الموت" بهذه القوة؟ لماذا لا يجلس هؤلاء الشباب كنظرائهم في انحاء المعمورة أمام اجهزة الكمبيوتر ويتسلون على الانترنت أو يمارسون لعبتهم الرياضية المفضلة او يستكملون تحصيلهم العلمي؟ سلامة سلامة ابن الثانية والعشرين الذي تخرّج للتو من جامعة بيرزيت يرد "لن تجدي بيننا من يشارك في المواجهات ولديه رغبة في الموت. الشبان الذين تصورهم عدسات الكاميرا يرغبون بشدة في الحياة... بأن يعيشوا احراراً". ويتابع: "كيف تريدين من آلاف الشبان الذين لا يستطيع الواحد منهم بعد ان يتنقل من قريته الى قرية أخرى ألا يتمردوا؟" والحصار أشد على الشبان الذين اعتقلوا في الانتفاضة الشعبية الاولى وترفض سلطات الاحتلال الاسرائيلي السماح لهم بالتنقل داخل اراضيهم، وان حاولوا التسلل تعرضوا للاعتقال والضرب. وهؤلاء الذين كبروا في ظل اتفاقات اوسلو يتجرعون الذل وهم يقدمون طلبات السماح لهم بالوصول الى مقاعدهم الدراسية في الجامعات". الاف الشبان الفلسطينيين القاطنين في القرى الفلسطينية "يعيشون" الاحتلال في كل لحظة في حياتهم. الحواجز العسكرية الاسرائيلية التي تقطع اوصال الارضي الفلسطينية والمليون فلسطيني المحتجزون في قطاع غزة يفصلهم عن العالم "حاجز ايرز" الذي تحول بعد توسيعه في ظل اتفاق اوسلو "مدينة". أمجد 23 عاماً من مخيم الامعري في مدينة البيرة، اصبح من "زبائن" مستشفى رام الله الحكومي منذ اندلاع الانتفاضة حيث ادخل للعلاج من طلقات معدنية الطلقات مدببة خمس مرات حتى الآن، وفي المرة الاخيرة أقعدته الرصاصة على كرسي متحرك ولكنه يطالعك بابتسامة مليئة بالحياة على رغم الجراح ويقول بصوت حزين "ربما يتمكن الاطباء من شفائي واعود الى المشي واساعد رفاقي في رمي الجنود بالحجارة". ويضيف دامع العينين "قتلوا صديقي الذي يعمل معي في المطعم. قتلوه بدم بارد". كان صديق أمجد السمين الذي رفض الافصاح عن اسمه لكي لا يجرح شعوره حتى بعد مماته قد وصل قبل اشهر قليلة من غزة بشق الانفس الى مدينة رام الله بحثاً عن عمل ووجده في المكان الذي يعمل فيه أمجد. وفي كل يوم كان يتوجه امجد وصديقه الى الحاجز العسكري على مدخل البيرة الشمالي، ولكنه كان يبقى في الصفوف الخلفية بسبب سمنته خوفاً من ان لا يتمكن من الهرب عندما يطلقون النار. ولكنه في أحد الايام لم يستطع الا ان يشارك فقد كان ذلك "اليوم دامياً نقلت فيه سيارات الاسعاف العشرات من الجرحى، والجنود في الجانب الآخر يطلقون النار من وراء حافلاتهم المدرعة وهم يضحكون على الشباب". تابع امجد وهو يستعيد يوم استشهاد صديقه: "وصل الصديق الى نقطة التماس وما ان رمى حجراً من الحجارة التي جمعها بيده حتى كانت الرصاصة قد اخترقت صدره وتوفي قبل ان يصل الى المستشفى". وأضاف "صديقي لم يرغب في الموت بل جاء الى رام الله لانه كان يريد ان يحتفل بشبابه الذي كان محاصراً في غزة التي اصبحت كالقبر بسبب الاحتلال... كان يريد حياة افضل لاخوانه... ولكنه مات". الحرب "اعلامية" في ساحة المعركة غير المتكافئة حيث الحجارة في جانب والرصاص في الجانب الآخر، قال احد الشبان الذين "غمسوا زيت الزيتون والزعتر بالسياسة منذ نعومة أظفارهم" على حد تعبيره أنه ورفاقه "يعلمون اننا لن نحرر فلسطين بالحجارة، ولكننا لا نملك سوى هذه الوسيلة لنوصل رسالتنا الى العالم. نحن نعي جيداً انها حرب اعلامية ثمنها دماء تسيل برصاص عدو يظن ان دمه هو فقط الغالي ولا يعتقد ان لنا نحن ايضاً امهات يبكيننا اذا متنا أو حتى إذا اصبنا بجرح بسيط... ولكن في انتفاضتنا هذه ايقظنا العالم العربي الذي يبدو انه تنفس الصعداء عندما بدأت المفاوضات مع الاسرائيليين وتوقفت الانتفاضة الاولى وكأنه رمى حمل ثقيل من فوق كتفيه". "اعتقد العرب ومعهم العالم بسبب الاعلام ذاته ان الاحتلال الاسرائيلي انتهى وان الفلسطينيين اصبحوا احراراً... صرخنا وصرخنا ولكن العالم لم يسمع لا يسمعون ولا ينظرون الا اذا شاهدوا اللون الاحمر يسيل وهذا ايضاً ليس مؤكداً". العائدون نضال، أحد اصدقاء الشهيد جهاد العالول الذي سقط في مدينة نابلس كان زميلاً له على مقعد الدراسة في "جامعة بيرزيت" قبل ان ينتقل جهاد الى "جامعة النجاح" لانه لم يتمكن في كل مرة اراد ان يزور عائلته في مدينة نابلس من الوصول بسبب الحواجز والعراقيل الاسرائيلية اياها. يرفض نضال الحديث عن الاسباب التي دعت جهاد الذي عاد قبل ست سنوات من الابعاد القهري مع العائدين من الفلسطينيين بعد اتفاقات اوسلو الى الذهاب الى ساحة المعركة والاستشهاد ويكتفي بالقول: "استشهد مثل كل الشهداء. كان من الطبيعي ان يشارك في المواجهات وقتلوه لانه كان يصر في كل يوم على رمي الحجارة". وتدلل احصاءات لجان الاغاثة الطبية لعينة من 1100 جريح تمثل جرحى انتفاضة الاقصى ان غالبية الجرحى 49 في المئة منهم تتراوح اعمارهم بين 18-24 عاماً، فيما تبلغ نسبة الشباب الذين تتراوح اعمارهم بين 16-18 عاماِ 17 في المئة بحسب ما قاله رئيس هذه اللجان الدكتور مصطفى البرغوثي.