رياح كسر الحصار والتطبيع مع النظام العراقي تهب من كل الجهات هذه الأيام. ومعها يلوح بصيص ضوء أو طيف سراب في الأفق المعتم الذي لف القضية العراقية منذ مغامرة صدام بغزو الكويت قبل عشر سنوات. لقد تزحزحت القضية حقاً بعد أن أعملت فيها السياسات المتشددة للحصار الدولي ومناورات نظام بغداد عملها طيلة السنوات الماضية، من دون أن تفضي الى نتيجة واضحة، باستثناء تراكم الخراب الذي لحق بالعراق شعباً واقتصاداً. غير أن الزحزحة ليست تقدماً في المواجهة الطويلة والمفتوحة بين العراق ومجلس الأمن، انما هي جملة اختراقات اعلامية وديبلوماسية متزامنة لطوق الحصار، كما تفهمه وتتبناه الولاياتالمتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص. ويلزم المرء قدراً كبيراً من السذاجة أو الوهم ليصدق دعاوى نظام بغداد عن فشل سياسة الحصار وتهافت نظام العقوبات الدولية، ذلك لأن القضية لا تسمح بنهايات سهلة أو بانتصارات خاطفة كتلك التي لا تنفك تراود المخيلة المراوغة لمهندس "أم المعارك". وفي نهاية المطاف، ما قيمة هبوط طائرات أجنبية وعربية في المطار الذي يحمل اسم الرئيس العراقي، إذا علمنا أنها جاءت لتكسر حظراً جوياً على الرحلات المدنية غير منصوص عليه في نظام العقوبات حسب بعض التفسيرات؟ وما الجديد إن طالبت سورية برفع الحظر عن جارها المنكوب، وأعلنت فقدان نظام العقوبات مبررات استمراره؟ وماذا سيغيره تنويه المسؤولين الليبيين بزيارة مرتقبة للعقيد القذافي الى بغداد التي سبقه اليها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز؟ وأي موازين ستختل لو حلقت طائرة تضامن من حركة طالبان في الأجواء العراقية؟ على الجبهة الاعلامية والديبلوماسية، لا أحد ينكر دلالة هذه المبادرات المتسارعة يوماً بعد آخر، سيما حين تُقرن بتباين وجهات نظر الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، ومداولة المجلس في مراجعة نظام التعويضات المحسومة من حصة العراق وفق اتفاق النفط مقابل الغذاء، وبالهجوم اللطيف لبيتر هين وزير الشؤون الخارجية البريطاني لترويج قرار 1284 لضمان التزام الحكومة العراقية به، مقابل منحها ضمانات جدية بتعليق العقوبات. واقع الحال ان العقوبات المفروضة دولياً لأسباب معلومة لا يمكن رفعها إلا بموافقة دولية لا يحسمها الاجماع وحده ان توفر، وانما قوة ومصلحة الدولة الأعظم. في المقابل، لا أحد ينكر نجاح الموقف الرسمي العراقي في كسب التعاطف مع قضيته، بعد ان راهن بكل شيء على كسب جولة المجابهة مع مجلس الأمن والسياسة الأميركية، منذ أن أوقف عمل لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل قبل عامين. وجوهر تلك القضية انساني بحت، وان خالطته اعتبارات سياسية ومصالح اقتصادية لا تقتصر على دول المنطقة وانما تمتد الى الشركاء القريبين والبعيدين. فالعقوبات الدولية التي قيّدت يد النظام وحجمت امكانياته العسكرية وأضرت أيما ضرر بالشعب العراقي، بدت وكأنها تدور في حلقة مفرغة من الاجراءات البيروقراطية والشروط التعجيزية والمناورات الاستعراضية من كلا الطرفين، حلقة لا تقاس بعامل الزمن ولا بحجم المعاناة الانسانية. وهذا يفسر ارتفاع الأصوات المطالبة بانهائها لاعتبارات أخلاقية أو قانونية حيث اعتبرت العقوبات، التي هي الأشد في تاريخ الأممالمتحدة، تجاوزاً صارخاً على حقوق الانسان الأساسية من أجل الضغط على نظام لا يهمه سوى البقاء في السلطة بأي وسيلة كانت. وهنا يكمن الوجه الآخر للموضوع طالما ان نظام بغداد سخر الحصار، الذي هو أحد أشكال العقوبات، من سلاح مفروض عليه الى سلاح بيده ضد شعبه. فقد حارب الحصار بالحصار بدل أن يلطف اثاره الوخيمة على الشعب، رغم أنه أُجبر على ذلك نتيجة موافقته المتأخرة على قرار النفط مقابل الغذاء عام 1996. وحسابات النظام الناتجة عن عقلية سادية، تقوم على مفاقمة معاناة الشعب العراقي لتأليبه وتوجيه غضبه وغضب الرأي العام العالمي ضد السياسة الأميركية التي تتمسك بالحصار كوسيلة لتحقيق مآرب سياسية معلنة أو غير معلنة. والظاهر أن العقوبات التي استهدفت بالأساس نظاماً مغامراً وخارجاً عن القانون، تحولت تدريجاً الى مصدر لشرعيته بعد أن تمكن من البقاء في السلطة رغم الظروف الخانقة أو ربما بفضلها. بلعبة ميكيافيلية ماكرة قلب النظام ضعفه، وهو المثقل بالجرائم والمكبل بالعقوبات، الى مصدر قوة معنوية مستمدة من تدهور أوضاع العراقيين. فالجوع وسوء التغذية والبطالة والمرض واليأس والألم غدت سلاح النظام لمواجهة لا عدالة السياسة الأميركية وحلفائها، ولتأكيد أفكاره المضللة وهي تترجم الزمن الحقيقي بلغة الأساطير، والسياسة بلغة الأقدار. والمسألة هنا لا تتعلق بالسياسة الأميركية المجافية للعدالة والانصاف إزاء العراق، بل في استثمار النظام شعور العزلة والاستبعاد الذي يضغط على نفوس العراقيين الذين أخذوا بجريرة حاكمهم، وفي إصراره على عدم الاحتكام لمنطق التسويات الواقعية لمشاكل صنعها بإرادته. ولا غرابة بعد ذلك أن ترى رأس النظام يدعو العراقيين ليكونوا رواة قصص عن المحنة التي صنعها لهم وجعل كل واحد منهم يدفع جزءاً من ثمنها مكرهاً. لعل أول ما يتبادر الى الذهن في هذا الصدد هو نظرية المؤامرة التي اكتسبت في الحالة العراقية مصداقية أكيدة، من زاوية نظر النظام بالطبع. فما عاد العدو المتربص بالوطن والمتحين الفرص للايقاع بالثورة و"قيادتها الحكيمة" شبحاً وهمياً أو شعاراً تعبوياً. انه الآن حقيقة واقعة مجسدة في أعداء مشخصين لا يترددون عن الاعلان بأن الحصار سيبقى طالما بقي صدام في الحكم. وهذه فرصة نادرة للخطاب الرسمي العراقي للإيهام بالتطابق بين مصير الحاكم ومصير الوطن، ولحشد مروّجين وأنصار في الساحة العربية لا يسعفهم النظر في التمييز بين الغابة والشجرة. فالحاكم الذي يحتكر بشخصه السلطة بجانب الرأسمال المادي والرمزي للمجتمع بقديمه وراهنه، هو نفسه الذي خرب الوطن في حربين خاسرتين، ومارس على الشعب من القمع والتنكيل ما لا يجرؤ عليه حتى محتل أجنبي. تلك هي حقيقة مؤلمة لمن يتوخى رؤية الواقع بنزاهة وتجرد. أما معادلة المساواة بين حاكم دموي مغامر وبين العراق الذي خرج من مأزق ليدخل في آخر منذ أن قفز صدام الى كرسي الحكم قبل عشرين عاماً، فمن شأنها خلط الأوراق في لحظة محتدمة تتطلب التفكير الهادئ لا الحماس العاطفي. من هذه المعادلة، المحملة بدوافع التسلط والهيمنة الأبوية، تصدر أنواع وألوان من الهذيان المقزز عن الوطنية العراقية الجريحة، واتهامات عشوائية بالعمالة لكل من خرج عن الخط "المقدس" للحزب والثورة، وخالفهما في الفكر والموقف. والأمثلة هنا أكثر من أن تعد، لعل آخرها حكم الاعدام على المعارض العراقي المقيم في لندن غسان العطية بعد أن حللت عشيرته، في وقت سابق من هذا العام، سفك دمه بدعوى خيانة الوطن!. الوطن بالنسبة الى النظام هو سلطة الحاكم بأمره وقد تصرفت بحقوق القوم بلا خوف تبعة، حسب عبارة عبدالرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". أما الوجود الملموس للوطن، من أرض وقيم وحقوق ومصالح وفرص حياة جماعية، فيغلفه الخطاب الرسمي بعبارات انشائية هلامية ويصادره بكلمات فضفاضة عن التحدي والأصالة والرسالة التاريخية. أخيراً، فواحدة من الحقائق المريرة للحصار أن المطالبة برفعه أولا عن الشعب الذي تحمل أعباءه طيلة السنوات العشر الماضية، تتضمن التنازل موقتاً عن شرط اسقاط النظام. ورغم وجاهة حجة المعترضين بأن ذلك سيحل ظاهر المشكلة دون المس بجوهرها الملازم لطبيعة النظام، الذي هو السبب الأول للكوارث التي حلت بالعراق خلال العقدين الأخيرين، فإن فصل قضية الحصار عن مستقبل النظام فرضته متغيرات سياسية لا رغبات ذاتية. فقد غدا من المؤكد ان سلاح الحصار أخطأ هدفه فأصاب الشعب وترك النظام حراً في استرجاع قوته والتطفل على معاناة الضحايا الأبرياء. وما كان ممكناً تجنب هذه النتيجة العكسية تماماً، لأن العقوبات الدولية وضعت النظام منذ البداية في موقعين متناقضين: كطرف مدان ومعاقب، وكطرف محاور و"متعاون" لتطبيق العقوبات. كذلك لأن سياسة الاحتواء الأميركية وجدت من المناسب لها الإبقاء على النظام كمصدر تهديد في المنطقة مع ترويج خطط كاريكاتيرية لاطاحته. وبالتوازي مع الاتساع الملحوظ لهامش المناورة أمام نظام بغداد، تجتمع اليوم أسباب حقيقية للمطالبة برفع الحصار منها انساني بحت تضامناً مع الشعب العراقي في محنته المأسوية، ومنها رمزي لمخالفة الامبريالية الأميركية التي صارت تملى على دول العالم أدواراً تناسب مصالحها الاستراتيجية الخاصة، ومنها مادي يتطلع الى الفوائد الاقتصادية للتعامل مع العراق البلد الغني بنفطه والمغري بأسواقه. ولئن كان من الصعب بلوغ هدف إفراغ العقوبات الدولية من محتواها بطريقة الضغط من الأسفل كما يراهن نظام بغداد، فإنه ليس من الصعب تصور حصول موقف مزدوج من العراق. فمن غير المستبعد أن تتعايش العقوبات، لفترة من الزمن، مع رفعها الجزئي الذي فرضه الأمر الواقع والذي لم يشكل ظاهرة جديدة إلا في الطابع المكشوف والواسع الذي يأخذه حالياً. ينبغي أن نتذكر أنه منذ بداية الحصار لجأ نظام بغداد الى سياسة السوق السوداء فصدّر كميات معتبرة من النفط وأدخل بضائع مهربة واحتكر الموارد والمساعدات الانسانية وضارب بهما. ولعله في رهانه الأخير على توسيع ثغرات الحصار أدخل مفردة اضافية الى قاموس مقاومة العولمة عنوانها التبادل بين الدول بمنطق السوق السوداء.