يتمثل أول التغيرات المؤثرة على المصارف العربية في الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية، وأصبح الناس يعيشون حياة أطول وأكثر تعقيداً. وكنتيجة لذلك لم تعد الخدمات المصرفية تقتصر على مجرد تقديم القروض وانجاز المعاملات المالية التقليدية بل أصبحت تشمل ادارة المحافظ والاستثمار المجدي للثروات الخاصة. كذلك تغيرت عادات العملاء وطرق تعاملهم مع المصارف وأصبحوا يفضلون الخدمة الذاتية أو قنوات التوزيع المباشرة لانجاز أعمالهم المصرفية، مما يؤدي الى تراجع أهمية الفروع ويستوجب تغيير الطريقة التي تدار بها هذه الفروع. ويعتبر تحرير تجارة الخدمات المالية في ظل منظمة التجارة الدولية من التغيرات الأخرى المهمة والمؤثرة على المصارف العربية. ويتوقع أن تزيد حدة المنافسة في الأسواق المحلية، إذ أنه حسب متطلبات منظمة التجارة الدولية لن يكون هناك أي تمييز بين المصارف المحلية والأجنبية. ومن التغيرات الأخرى المؤثرة على المصارف العربية ثورة تكنولوجيا المعلومات وانتشار قنوات تقديم الخدمات المالية على الانترنت، فمثل هذه الخدمات تعطي العملاء القدرة للاختيار بين بدائل مختلفة بدلاً من القبول بما هو متوافر لهم في الأسواق المحلية، وهذا يمثل نقلة نوعية في علاقة العميل مع مصرفه، اضافة الى تمكين المصارف من الدخول الى أسواق أخرى من خلال شبكة الانترنت. ومن الطرق التي تستطيع المصارف العربية من خلالها زيادة قدرتها التنافسية هو الاندماج، لخلق كيانات مصرفية قوية. وسيؤدي هذا الى تقليص الطاقة الفائضة لقطاع المصارف وتحسين كفاءته من خلال تقليل التشابه والتكرار في الأعمال وتوزيع تكاليف التكنولوجيا الضخمة على قاعدة أكبر والاستفادة من اقتصادات الحجم. ويجب أن يكون الاندماج مدروساً وأن يتم اعتماده من وجهة نظر استراتيجية حتى يكون ناجحاً. وعلى رغم تنفيذ بعض صفقات الاندماج في المنطقة خلال العامين الماضيين، إلا أنه لم يتحقق حتى الآن سوى عدد قليل من عمليات الاندماج والحيازة الناجحة ويبدو أن المصارف العربية الصغيرة لن تندمج إلا إذا أجبرتها السلطات النقدية على ذلك. ستستعرض الدراسة أداء وهيكل المصارف العربية خلال الأعوام القليلة الماضية ثم التحديات التي ستواجهها في ضوء التغيرات المستجدة والمؤثرة على القطاع المالي العالمي والاقليمي. الأوضاع الحالية لمصارف المنطقة تشير النتائج المجمعة للبنوك العربية لعام 1999 والنصف الأول من العام الى أن المؤسسات المصرفية في المنطقة لم تتأثر كثيراً بضعف النمو الاقتصادي المسجل خلال العامين الماضيين وأصبح معظم المصارف اليوم في وضع جيد يؤهله لأن يستفيد من تحسن الظروف الاقتصادية المتوقعة خلال السنتين 2000 و2001. ويدل الارتفاع الحاد في مخصصات القروض لعامي 1998 و1999 الى أن وضع المصارف العربية اليوم هو أفضل مما كان عليه في السابق. والمشاكل التي تواجهها المصارف لا تختلف كثيراً عن تلك التي غالباً ما ترافق نمو القطاع المصرفي في الأسواق الناشئة، كما أن بعض هذه المشاكل هي نفسها التي تواجهها المصارف في الدول المتقدمة. وتتمثل هذه المشاكل في تركز الائتمان على قطاع معين مثل الانشاءات وارتفاع مخاطر الاقراض الاستهلاكي للأفراد والتفرع الخارجي غير الاستراتيجي بالاضافة الى تحكم الحكومات وبعض المساهمين الكبار في ادارة البنوك. ولكي ندرك طبيعة التحدي الذي تواجهه المصارف العربية علينا النظر الى ما يحدث في السوق المالية الأميركية وهو غالباً ما يحدد التوجهات العالمية في هذا المجال. فالبنوك الأميركية لا تستحوذ حالياً سوى على 28 في المئة من سوق الخدمات المالية المحلية وهو ثلث ما كانت تستحوذ عليه قبل خمسة وعشرين عاماً. في حين ما زالت هذه النسبة عالية في العالم العربي وتصل الى 95 في المئة. ويتأتى نحو 40 في المئة من ايرادات المصارف الأميركية من عمولات بيع الخدمات المالية التي تشمل الوساطة في الأوراق المالية واصدار البطاقات الائتمانية وادارة صناديق الاستثمار المشترك، وتقديم خدمات الحفظ الأمين للأوراق المالية وإدارة الاستثمار وغيرها، في حين أن معظم ايرادات المصارف العربية يتأتى من قبول الودائع ومنح القروض. وساعدت التكنولوجيا الحديثة على تقليص عدد الفروع، إذ تراجعت حصة استخدام الفروع في اجمالي الخدمات المصرفية في أميركا مثلا من 70 في المئة في الثمانينات الى 40 في المئة حالياً، في حين ارتفعت حصة اجهزة الصراف الآلي الى 30 في المئة والبنك الناطق الى 28 في المئة والخدمات المصرفية عبر الانترنت الى 2 في المئة، وهذا يشير الى تفضيل العملاء لقنوات التوزيع الذاتية بدلاً من الذهاب للفرع. أما في المنطقة العربية فما زال أكثر من 90 في المئة من العملاء يستخدم الفروع، إذ بلغ متوسط عدد السكان لكل فرع 8800 العام الماضي مقارنة مع 4000 في الدول المتقدمة. تعتبر نسبة التركز في قطاع المصارف التي تقاس بالحصة السوقية لأكبر خمس مصارف عاملة في البلاد مرتفعة نسبياً في المنطقة العربية. ففي المملكة العربية السعودية يستحوذ "البنك السعودي - الأميركي" و"البنك الأهلي التجاري" على نحو 50 في المئة من اجمالي موجودات المصارف السعودية. في حين يستحوذ "بنك الكويت الوطني" و"بنك البحرين الوطني" على 30 في المئة من موجودات قطاع المصارف في البلدين. وفي مصر تستحوذ مصارف القطاع العام الأربعة على 50 في المئة من اجمالي الموجودات، في حين سيطرت المصارف الكبرى الخمسة في الأردن على 80 في المئة من اجمالي موجودات القطاع المصرفي. وارتفع اجمالي الموجودات للمصارف العربية العام الماضي بنسبة 4.2 في المئة لتصل الى 526.3 بليون دولار مقارنة مع زيادة نسبتها 8.7 في المئة عام 1998، ونمت موجودات المصارف العربية بأسرع من نمو اجمالي الناتج المحلي لهذه الدول الذي لم يتجاوز معدله 3 في المئة عام 1999، كما ارتفعت القروض والسلف بنسبة 9.6 في المئة لتصل الى 321.3 بليون دولار مقارنة مع زيادة نسبتها 13.1 في المئة عام 1998. أما بالنسبة لحقوق المساهمين للمصارف العربية فقد ارتفعت بنسبة 14.6 في المئة عام 1998 وبنسبة 8.3 في المئة عام 1999 لتصل الى 59.7 بليون دولار، في حين تراجعت الموجودات الأجنبية للمصارف العربية لتصل الى 64.5 بليون دولار العام الماضي بعدما سجلت تراجعاً نسبته 8.6 في المئة في عام 1998. واشتملت قائمة أكبر ألف مصرف في العالم لسنة 1999 حسب مجلة "بانكر" على 54 مصرفاً عربياً شكلت 2 في المئة من اجمالي موجودات هذه المصارف ونحو 2.4 في المئة من رؤوس أموالها الأساسية، ونحو 2 في المئة من أرباحها قبل الضرائب. ويلاحظ ان المصارف العربية ما زالت صغيرة الى حد كبير مقارنة مع نظيراتها في أوروبا وأميركا. وفي نهاية عام 1999 تعدت موجودات أربع مصارف عربية فقط وهي "البنك السعودي - الأميركي" و"البنك الأهلي التجاري"، و"بنك الرياض"، و"المؤسسة العربية المصرفية" مستوى 20 بليون دولار وهذه تعتبر متدنية لدى مقارنتها مع المصارف القيادية في العالم. وما زال اجمالي موجودات جميع المصارف العربية والتي بلغت 526 بليون دولار عام 1999 أقل من موجودات أي من المصارف العشر الكبرى في العالم. وعلى سبيل المثال بلغت موجودات "بنك هونغ كونغ وشانهاي" HSBC 569 بليون دولار العام الماضي. وتصدر بنك "المؤسسة العربية المصرفية في البحرين" أكبر مصرف عربي، بمعيار حقوق الملكية المرتبة 161 بين أكبر ألف مصرف في العالم لعام 1999 يليه "البنك السعودي - الأميركي" الذي حصل على المرتبة 166. أما "البنك الأهلي التجاري" في السعودية الذي لم ينشر نتائجه المالية لعام 1999 بعد فقد نزلت مرتبته من 160 عام 1998 الى 169 عام 1999. وأدى ارتفاع أسعار النفط منتصف العام الماضي وبرامج التصحيح الهيكلي المتبعة في الأقطار العربية غير النفطية الى تحسن الأوضاع الاقتصادية في المنطقة وانعكس هذا ايجاباً على نتائج المصارف العربية. وارتفع اجمالي أرباح أكبر مئة مصرف عربي بنسبة 10.2 في المئة العام الماضي الى 8.3 بليون دولار وهو يقارب الزيادة التي تحققت في عام 1998 في حين أظهر أكثر من 20 مصرفاً تراجعاً في الأرباح وبعضها سجل خسائر. وبلغ معدل العائد على متوسط حقوق الملكية ومعدل العائد على الموجودات لأكبر مئة بنك عربي 13.9 في المئة و1.58 في المئة على التوالي، في حين بلغت نسبة رأس المال الى الموجودات 11.3 في المئة، كما أظهرت المقارنة الاقليمية لمؤشر الكفاءة التشغيلية للمصارف، أي نسبة التكاليف الى الايرادات، ان المنطقة العربية تمتعت بأدنى نسبة ومقدارها 48.17 في المئة في عام 1999، مقارنة مع 81.5 في المئة لليابان و68.8 في المئة لأميركا اللاتينية و62.1 في المئة للاتحاد الأوروبي و58.1 في المئة لآسيا و60.2 في المئة لأميركا. ولدى مقارنة المصارف العربية بالاعتماد على نسبة العائد على حقوق الملكية وهو مؤشر رئيسي للربحية فإن المصارف القطرية الخمسة الكبرى احتلت المرتبة الأولى حيث بلغ متوسط نسبة العائد على حقوق الملكية لديها 17.7 في المئة عام 1999، تليها المصارف المصرية الأربعة عشر الكبرى حيث وصلت هذه النسبة الى 16.2 في المئة عام 1998 و17.5 في المئة في عام 1999. أما المصارف التونسية التي تميزت بنمو جيد في الأرباح فقد ارتفعت نسبة العائد على حقوق الملكية للمصارف السبعة الكبرى من 10.6 في المئة في عام 1998 الى 17.1 في المئة عام 1999، في حين انخفضت هذه النسبة للمصارف اللبنانية السبعة الكبرى من 18.1 في المئة في عام 1998 الى 16.9 في المئة عام 1999. وبلغ متوسط نسبة العائد على حقوق الملكية للبنوك البحرينية الثلاثة عشر الكبرى والبنوك الكويتية التسعة الكبرى والبنوك العمانية الثمانية الكبرى والتي كانت في قائمة أكبر 100 مصرف عربي 10.5 في المئة و11.6 في المئة و12.2 في المئة على التوالي. وبلغت نسبة العائد على حقوق الملكية للمصارف السعودية العشرة، والمصارف الاماراتية الثمانية الكبرى وأكبر بنكين أردنيين 15 في المئة و10.8 في المئة و9.7 في المئة على التوالي. وحقق البنك التونسي العربي الدولي أكبر نسبة عائد على حقوق الملكية العام الماضي بلغت 54.9 في المئة، يليه بنك سوستيه جنرال مصر بنسبة 28 في المئة ومؤسسة الراجحي المصرفية في السعودية بنسبة 27.1 في المئة وبنك مصر الدولي بنسبة 26.6 في المئة والبنك السعودي - الهولندي بنسبة 25.7 في المئة. * كبير الاقتصاديين وعضو منتدب في مجموعة الشرق الأوسط للاستثمار.