تسجل الأعمال التقليدية للمصارف التجارية والتي تعتمد على قبول الودائع وإقراضها تراجعاً مستمراً في جميع انحاء العالم. ففي الولاياتالمتحدة، تستحوذ المصارف الآن على 28 في المئة فقط من سوق الخدمات المالية وهو نصف ما كانت تحصل عليه قبل عشرين عاماً. وفي أوروبا واليابان والدول الناشئة لا تزال هذه النسبة عالية في حين تقدر بأكثر من 80 في المئة في المنطقة العربية. وأصبحت المصارف الآن تعتمد على توفير خدمة او بيع منتج معين اكثر من تقديم القروض، اذ تشكل العمولات من الوساطة في الأوراق المالية والعملات وتمويل الشركات والحفظ الأمين وإدارة الموجودات حوالى 40 في المئة من ايرادات المصارف الاميركية. ويتوقع ان يتراجع دور المصارف كوسيط بين المودعين والمقترضين، وابتدأ هذا التغير في الولاياتالمتحدة ويتوقع ان يمتد ليشمل بقية دول العالم. ويطالب المساهمون في البنوك بمزيد من الأرباح، اذ اصبحوا يتوقعون في الغالب تحقيق عائد على حقوق ملكيتهم بمعدل 15 - 20 في المئة. ومرة اخرى، تقود البنوك الاميركية عمليات خفض التكاليف وزيادة الايرادات، حيث يلعب الاندماج والتقدم التكنولوجي دوراً حيوياً في تحسين معدلات الكفاءة. فقد انخفضت نسبة التكاليف الى الايرادات في القطاع المصرفي الاميركي من 67 في المئة في اواخر الثمانينات الى حوالى 58 في المئة الآن. اما في أوروبا فتراجعت هذه النسبة الى 60 في المئة، وحقق بنك لويدز البريطاني أفضل نسبة كفاءة بلغت 45 في المئة. وارتفع معدل العائد على حقوق الملكية للبنوك الاميركية خلال معظم سنوات العقد الماضي الى اكثر من 4 في المئة مقارنة بمعدل 10 في المئة في الثمانينات. وأدى الاندماج الى تقليص عدد البنوك الاميركية من 14500 مصرف في منتصف الثمانينات الى اقل من 9000 الآن. وساعدت التكنولوجيا في تقليص عدد الفروع من خلال تقديم خدمات الصراف الآلي ATM ثم البنك الناطق خدمات الهاتف المصرفية والآن الانترنت، حيث وجدت البنوك طرقاً أرخص غير الفروع لتقديم المنتجات المصرفية لعملائها. ولزيادة الايرادات، قامت البنوك بالتخصص في المجالات التي تستطيع ان تعمل فيها بشكل افضل وأخذت تقدم خدمات مكملة لعملائها تختص بالأسواق المالية والتي تشتمل على خدمات ادارة الموجودات وخدمات الوساطة وخدمات الاستثمار الاخرى. وتنظر البنوك الناجحة الى العوائد المتوافقة مع المخاطر المرتبطة بها، حيث تقوم بالاستثمار في تلك الأعمال التي لا يكون عائدها عالياً فحسب وإنما يكون لها عائد يفوق مقدار المخاطرة التي تنطوي عليها هذه الأعمال. تأثر أداء البنوك العربية بالتباطؤ الاقتصادي الذي شهدته المنطقة بسبب تراجع اسعار النفط خلال عام 1998 والربع الأول من سنة 1999، والأزمة الآسيوية، وعدم الاستقرار المتزايد في أسواق المال العالمية. ورغم هذه الظروف واجهت معظم البنوك العربية ارتفاعاً في طلب القطاع العام والقطاع الخاص على القروض وسعيهما المتزايد للحصول على ادوات تمويلية جديدة. ويتوقع ان يتحسن أداء البنوك العربية خلال السنة المقبلة نتيجة ارتفاع اسعار النفط الذي بدأ اخيراً الاتجاه نحو تحرير الأسواق والاندماج وسعي المصارف العربية لتعزيز وضعها التنافسي. واشتملت قائمة اكبر الف بنك في العالم لعام 1998 على 57 بنكاً عربياً شكلت حوالى واحد في المئة من اجمالي الموجودات لأكبر الف بنك واثنين في المئة من رؤوس اموالها الأساسية Tier one capital وحوالى ثلاثة في المئة من ارباحها قبل استقطاع الضرائب الشكل رقم 1. ويلاحظ ان البنوك العربية ما زالت صغيرة الحجم مقارنة مع البنوك الأوروبية والاميركية، اذ ان مصرفين عربيين فقط هما البنك الأهلي التجاري في السعودية والمؤسسة العربية المصرفية في البحرين فاقت موجوداتهما 20 بليون دولار بنهاية عام 1998. وبلغ اجمالي الموجودات للبنوك العربية في نهاية عام 1998 حوالى 483 بليون دولار وهي تقل عن موجودات اي بنك من اكبر خمسة مصارف في العالم، وعلى سبيل المثال حصل البنك الأهلي التجاري على الترتيب 160 بين أكبر ألف بنك في العالم بمعيار حقوق الملكية في حين انه حصل على الترتيب الأول بين البنوك العربية الجدول رقم 1. ويشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1998 الى ان رؤوس اموال البنوك السعودية شكلت 24 في المئة من اجمالي رؤوس اموال البنوك العربية مجتمعة والبالغة 50.3 بليون دولار، تلتها البنوك المصرية بنسبة 17 في المئة، والاماراتية بنسبة 14 في المئة، و11 في المئة في البحرين، و9 في المئة في الكويت، و4 في المئة لكل من لبنان وتونس والمغرب، و3 في المئة في الأردن. ويظهر الشكل رقم 2 توزيع الموجودات لأكبر 100 بنك عربي حسب بلدان دول المنطقة. وتتلخص استراتيجيات البنوك العربية في ظل التغيرات المستجدة كالآتي: وسادت الثقافة الادارية القائمة على المركزية في اتخاذ القرار وقتاً طويلاً في العديد من البنوك العربية اذ كانت البيئة التنافسية مستقرة وكان منح القروض يعتمد على العلاقات والمعرفة الشخصية اكثر منه على الدراسات وتقييم المخاطر. وفي ضوء هذه الثقافة الادارية يحتل المدير العام رأس الهرم الوظيفي ويقوم بتحديد مهمات العاملين في كافة الادارات. ويشمل الهرم الوظيفي مساعدين ونواباً للمدير ذوي خبرة كبيرة في مجال عملهم يحرصون على تنفيذ الارشادات المعطاة لهم ويظهرون تفانياً وولاء كاملين للمدير العام. تغيرت الظروف وأصبحت بيئة العمل للمصارف اكثر تنافسية، اذ ان حرية الاختيار للعميل اليوم تفوق كثيراً ما كانت عليه في السابق، ولم يعد المدير العام في موقع يستطيع معه الالمام بكافة التغيرات التي تحدث في السوق والوقوف على جميمع متطلبات العملاء. لذلك نجد ان البنوك التي تقوم بتفويض موظفي الصف الأول في الفروع للتعامل مع المتطلبات المتغيرة للعميل هي التي ستنجح في الحفاظ على حصتها من السوق. ويبحث العميل اليوم عن المصرف الذي يؤمن له احتياجاته بشكل فوري وسريع. وبهذا تغيرت مسؤولية العاملين في الفروع من المهمات التقليدية لانجاز الاعمال اليومية الروتينية الى مسؤولية التعامل مع العملاء وتلبية احتياجاتهم. وتتميز البنوك التي تتبنى ثقافة ادارية قائمة على تثمين الأداء بأربع خصائص رئيسية هي: 1 استبدال الهيكل التنظيمي ذي الشكل الهرمي والمصمم حسب المناطق الجغرافية بهيكل تنظيمي أفقي حسب هيكل الأعمال والخدمات التي يقدمها البنك مثل خدمات التجزئة وتمويل الشركات والعمليات المصرفية... الخ. 2 التركيز على الأداء وجعله العامل الأهم الذي يحدد مستوى مكافأة الموظفين بدلاً من النظام السابق الذي يعتمد على رتبة الموظف وسنوات الخدمة لديه. 3 استبدال الوظائف الروتينية في الفروع بكادر من الموظفين المؤهلين لتسويق خدمات مصرفية جديدة ومفوضين لتلبية طلبات العملاء. 4 التركيز على تعظيم العائد على حقوق الملكية وإرضاء العملاء بدل تحقيق هدف الوصول الى حجم مستهدف للموجودات وحصة في سوق الإقراض. يعتبر التقدم التكنولوجي من اهم عوامل نمو القطاع المصرفي، اذ انه يساعد البنوك على تقديم خدماتها بأسعار اقل، الأمر الذي حفزها على توفير خدمة الصراف الآلي في السبعينات وخدمات الهاتف المصرفية البنك الناطق في الثمانينات والتسعينات، وأخيراً الخدمات المصرفية عبر شبكة انترنت. وقدرت مؤسسة مينتيس Mentis Corporation، وهي مؤسسة ابحاث رائدة في مجال الخدمات المالية في الولاياتالمتحدة الاميركية، انفاق البنوك في انحاء العالم على تكنولوجيا المعلومات بنحو 60 بليون دولار اميركي عام 1998، وتتوقع ان يرتفع الى 80 بليوناً عام 2000. وتشكل كلفة التكنولوجيا اكبر بند في ميزانية البنك بعد الاجور والرواتب، ويتم في العادة صرف 50 في المئة من مخصصات التكنولوجيا للخدمات المصرفية الذاتية التي لا تتطلب من العميل زيارة الفرع. وفي استقصاء اجرته مؤسسة "مينتيس" على سوق الخدمات المصرفية في الولاياتالمتحدة وجدت ان العملاء يفضلون الخدمة الذاتية او قنوات التوزيع المباشرة لانجاز اعمالهم المصرفية، اذ تراجع استخدام الفروع من 70 في المئة من اجمالي الخدمات المصرفية في الثمانينات الى 43 في المئة حالياً، وتم تعويض تراجع حصة الفروع من خلال استخدام خدمات الهاتف المصرفية اذ ارتفع معدل استخدامها من 3 في المئة الى 24 في المئة في حين حافظت خدمة الصراف الآلي على نسبتها البالغة 30 في المئة. ويتوقع ان تتراجع حصة الفروع من اجمالي الخدمات المصرفية في الولاياتالمتحدة لتصل الى 25 في المئة بنهاية عام 2000، وان تنخفض حصة اجهزة الصراف الآلي الى 25 في المئة، في حين يتوقع ان تسجل معدلات استخدام الخدمات المصرفية الهاتفية ونقاط البيع والخدمات المصرفية عبر انترنت اعلى نمو لتصل الى 35 في المئة و5 في المئة و10 في المئة على التوالي من اجمالي الخدمات المصرفية. واستطاع بنك "سيتي غروب" ان يحتل مركزاً رائداً في خدمات التجزئة في الهند عن طريق استخدام تكنولوجيا تم تطويرها في الولاياتالمتحدة، وأصبح اليوم اكبر مصدّر للبطاقات الائتمانية في الهند مع انه ليس له سوى عشرة فروع الى جانب شبكة ضخمة من اجهزة الصراف الآلي والخدمات المصرفية الهاتفية. واستخدم هذا البنك الاستراتيجية نفسها في اليابان اذ ان اكثر من نصف الحسابات الجديدة تم فتحها هناك من خلال الهاتف بدلاً من الفروع. وتستطيع اجهزة الصراف الآلي حالياً انجاز الكثير من الخدمات التي يوفرها الفرع اضافة الى كون هذه الاجهزة متاحة للعميل بشكل اكبر حيث تعمل على مدار الساعة، وتقدم الخدمات المصرفية بنوعية افضل في بعض الاحيان، وبكلفة اقل بكثير من الفروع. وقدرت كلفة انجاز المعاملة المصرفية بواسطة اجهزة الصراف الآلي ب10 في المئة فقط من كلفة انجازها عن طريق الفرع، وإذا ما تم انجاز المعاملة من خلال الهاتف فإن هذه الكلفة تنخفض الى 1 في المئة فقط. اصبح ضرورياً ان يقوم البنك بإيجاد جهاز عمليات واحد يخدم جميع فروعه وكافة قنوات تقديم الخدمات المصرفية الاخرى، وذلك لتسهيل تحويل الفروع من مراكز عمليات مستقلة لتصبح قنوات تسويق وبيع للخدمات المصرفية المباشرة للعملاء بحيث يتم تخصيص 80 في المئة من مساحة الفرع للعملاء و20 في المئة فقط للموظفين. ويتطلب هذا الامر تغيير ثقافة تقديم الخدمات في الفروع بحيث يتحول العاملون في الفرع من موظفين ينجزون معاملات روتينية الى مسؤولي تسويق وبيع خدمات مصرفية متطورة. وتستطيع البنوك بواسطة التكنولوجيا الاستفادة من البيانات المتوافرة لديها عن عملائها وتحويلها الى معلومات كاملة عنهم باستخدام برامج الحاسوب الخاصة بقواعد البيانات. فالبنوك العربية يجب ان تكون لديها الامكانية للتعرف على سلوك عملائها واحتياجاتهم لكي توفر لهم الخدمة المصرفية المطلوبة من جهة ومن جهة اخرى لكي تزيد ايراداتها وترفع العائد على رأس المال لديها. ويمكن بالأخص الاستفادة من بيانات العملاء لأغراض تقييم مخاطر الائتمان المرتبطة بالقروض الشخصية. ومن خلال توفر المعلومات الكافية لمختلف العملاء حسب نوع الخدمة المصرفية المقدمة، تستطيع البنوك تسعير هذه الخدمات بشكل اكثر فاعلية وبالتالي تقديم الخدمات للعملاء ذوي الملاءة الجيدة بأسعار أقل. * كبير الاقتصاديين وعضو منتدب مجموعة الشرق الأوسط للاستثمار.