نام الروائي المصري النوبي إدريس علي، وتعالى شخيره، أثناء الندوة المنعقدة أخيراً في مقر "الورشة الإبداعية" في القاهرة لمناقشة تجربة التشكيلي السوداني النوبي حسّان علي أحمد. ضمن التعقيبات آخر الندوة، أشار أحد الحضور إلى تلك الواقعة مداعباً إدريس وحسان الروائي والرسام فغرقا في الضحك. وعلق الروائي قائلاً: "حين يدفعني ناقد نحو متاهة من الكلمات الكبيرة او الفذلكة أحس بالضيق فأنام". يقيم الرسام حسان علي أحمد، وفي شروط ثقافية قاسية، معارض فردية وجماعية منذ أكثر من عشرين عاماً. نال تقديرات عالمية مهمة مثل جائزة نوما اليابانية لرسوم الأطفال. فالأمر لا يتعلق به هنا، بمقدار ما يتعلق بأزمة النقد التشكيلي البادية للعيان في السودان والعالم العربي معاً، وهو النقد الذي أخفق حتى الآن في توصيف وتحليل هذا الفن بأدوات ومفاهيم تساعد في جلائه على مستوى مجتمعي ما، بل وفي رسوخه داخل وعي الكثيرين من المثقفين العرب. تكشف جولة عشوائية على منتوج النقد التشكيلي عربياً، بعض أوجه الاشكالية القائمة. فمعظم هذا النقد يكاد يستعير عدته المنهجية، وما تفرزه من مقولات، من داخل حقل النظرية النقدية الأدبية، وغالباً ما يتم ذلك عبر لغة شديدة الغموض، تزيد الأمر التباساً. الندوة جاءت كمحاولة لاختراق هذه الأجواء. وشارك فيها ثلاثة محاضرين هم الناقد أحمد عبدالمكرم، والتشكيلي عادل كبيده، والروائية المصرية مقدمة الندوة نجوى شعبان. ألقى أحمد عبدالمكرم الضوء على ما أسماه "ملامح تعريفية عن تاريخ وتجربة الحركة التشكيلية في السودان"، بغية "الكشف عن المناخ الثقافي" الذي انتج هذه الدرجة من الإبداع وقوة التعبير لدى حسان علي أحمد، موضحاً أن هذه الحركة تنقسم "إلى مرحلة ما قبل المؤسسة الرسمية، وما بعدها"، وأشار الناقد إلى أن المرحلة الاولى، وهي تمثل "تجربة الفنان الشعبي التلقائي"، تميزت ب"التواصل مع عدد كبير من الناس"، فيما تميزت الثانية ب"الاغتراب عن المجتمع"، على رغم "الاساس المعرفي المتجسد لدى روادها في امتلاك التقنيات الحديثة المكتسبة"، وأيضاً على رغم وعيها المتمثل "في طرح اسئلة وجودية وحضارية مرتبطة بحركة التطور الاجتماعي العام"، مؤكداً "أن حسان من التشكيليين السودانيين القلائل"، الذين "نجحوا في حل المعادلة ما بين التكنيك المكتسب والموروث". وأشار التشكيلي عادل كبيده إلى "مشكلات الحركة التشكيلية في السودان" التي تفتقر برأيه الى التوثيق والدراسات، والتي "خضعت" خلال تاريخها "إلى احكام بعض النقاد السياسية". واعتبر "ان الحركة التشكيلية الحديثة في السودان أعادت على يد رائدها ابراهيم الصَّلحي إحساس الجمال بالأدوات الاستعمالية السائدة داخل المجتمع مثل الزير والدواب"، مبيناً أن هذه الممارسة الجديدة جعلت الفنان التشكيلي السوداني "قادراً على التقاط العنصر الفاعل والقادر على إعادة الحياة إلى اللوحة من خلال هذا الجوهر الاجتماعي"، خصوصاً أن الحركة التشكيلية في السودان مليون ميل مربع وأكثر من 500 مجموعة عرقية وثقافية استفادت من غنى وتعدد وتنوع البيئات الثقافية المحلية... وهذا الزخم الذي انصهر في عاصمة السودان الشعبية ام درمان أفاد حسان منه أيما فائدة، منطلقاً إلى ذلك الحوار الثقافي من أرضية ثقافته النوبية الممتدة في عمق التاريخ". وعلى نحو أكثر خصوصية، تحدث كبيده عن خصوصية اللون عند حسان معتبراً أنه تأثر بالمدرسة "الكريستالية" التي أعقبت مدرسة "الخرطوم"، منتهياً إلى أن حسان رجع أخيراً إلى الشحنات التعبيرية العالية التي كان هرب منها إلى منطقة الغرافيك. وتركزت مساهمة نجوى شعبان على نقد تطبيقي لمعرض حسان الذي أقيم أخيراً في القاهرة فرأت "أن الفنان في لوحاته الأربع والثلاثين كان يمارس التحليق والطيران الحر، أما الفضاء الداخلي فلم يكن شخصانياً ذاتياً ضيقاً، بل رحباً بمقدار رحابة التراث الذي يحمله على ظهره...".