الذي يعرف السيد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير يعرف تواضعه وأمانته وصدقه وإرادته الصلبة للخير لوطنه ولسواه من الأوطان. والذي يعرف الرئيس بشار الأسد يعرف صدقه وتواضعه وارادته الصلبة للخير لوطنه ولسواه من الأوطان. والخير لا يمكن ان ينتج عن طمس الحقيقة والتعامي عنها ولا عن تحويرها وتشويهها أو تجميلها. الخير ينطلق من الرغبة الصادقة بالخير للبنان وسورية على السواء. مشكلتنا في هذا الشرق أننا أصبحنا نفضل تحريف الحقيقة على قولها وسماعها، حيث تدغدغ أهواء السامعين وتحفظ مصالحنا، أقله ما نظنه آنياً أو مرحلياً. أي خير يريد لسورية أولئك الذين يمعنون في حجب الحقيقة عن المسؤولين فيها؟ من تراهم أصدقاء سورية الحقيقيون، هل الذين يتبارون في مديح حكامها استدراراً لعطف ودعم وتحقيقاً لحصانة أو هيمنة أو حماية أو مصلحة؟ أم الذين يصدقونها مشاعرهم ومشاعر الناس؟ على عكس كل الذين يطمسون الحقائق ويحورونها، أطلق السيد البطريرك والأساقفة نداءهم لأنهم يريدون الخير، وليس ما عداه، الخير الصادق. والصدى الذي لاقاه النداء، سلبياً أم ايجابياً، معبر بحدّ ذاته عن أهمية المرجعية التي صدر عنها، علماً ان هذه المرجعية ليست بحاجة الى المزيد من الشهادات لبيان أهميتها ومصداقيتها وحقها بمجد لبنان الذي أعطي لها. فهي التي كانت الشاهدة على إعلان دولة لبنان الكبير، وهي التي ما فتئت تطالب باستقلاله ولولا إلحاحها لما كان الانتداب جلا عنه، وهي التي شرعت وثيقة الطائف بموافقتها عليها وهي الوثيقة التي تقوم عليها اليوم الحياة السياسية في البلاد، وتحملت ما تحملت من اتهامات وإهانات. من هنا شدة ألمها لسوء تطبيقها وتسارع البلاد الى هاوية الانهيار. ولا أحد يجرؤ على قول الحقيقة والصراخ في برية الاستزلام والممالقة. هذه المرجعية لا تكن إلاّ الاحترام والخير لسورية، وغالباً ما جاء على لسان سيّدها وبالذات: "قولنا هذا ينبع من مشاعر صداقة إزاء سورية". أجل إن صرخة النداء والعودة إليها لمناسبة افتتاح مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، يعبران بصدق من دون مواربة عما تأمله هذه المرجعية والشعب الذي يلجأ اليها من القيادة الشابة في سورية التي نعرفها ونعرف صدق مشاعرها وحرصها على إرادة الحداثة والعصرنة لمزيد من الحرية والديموقواطية. إن هذا النداء، على رغم شأن مرجعيته، ما كان ليأخذ هذه الأهمية والحدة في الفعل وردود الفعل، سلباً أو ايجاباً، الا لأنه يعبر بوضوح وصراحة عن ثلاثة: حقيقة الوضع القائم في لبنان، ومسألة السيادة، ووجع الناس وتوقهم الى الخبز والحرية. بهذا المعنى، فإن نداء بكركي، يختزل بجرأة وصراحة الوضعية اللبنانية بأبعادها الثلاثة: البعد الخلقي في الحقيقة والبعد الوطني في الكيان والبعد اللاهوتي في الكرامة الانسانية. حاول البعض، وبأسف، ولأسباب يعرفها الجميع، حرف مضمون البيان/ النداء عن ان يكون مدخلاً الى الحوار والمحبة والتأمل بين اللبنانيين، وبين اللبنانيين والسوريين، ومدخلاً الى أصدق وأطيب العلاقات مع دمشق، أما نحن فنعرف حق المعرفة ما لنا من أبعاد مشتركة في التاريخ مع سورية. ونقدر حق القدر سورية الحضارة: وما ينبض في عمق تراثنا من روافد حلب ودمشق وآفاميا وأوغاريت وإبلا وسواها... نحن نتطلع الى تألق حضاري سوري في عهد القيادة الجديدة الشابة المتشحة بالعلم والحداثة. وعليه نود أن نؤكد على الأمور التالية: 1- في رأي اللاهوتي الالماني الشهير أوجين درفرمان انه "لا حرية من دون تمرد". ونداء بكركي هو صرخة تمرد على منطق النعامة، منطق التعامي الآتي والتكاذب المرحلي، منطق المصالح والاستغلال والممالقة والمتاجرة بحرية الوطن والديماغوجية العقائدية التي مر عليها الزمن. هدف هذه الصرخة - التمرد هو التأكيد على أن مفاعيل حروب الداخل والخارج، إذا استطاعت الهيمنة على العديد من مؤسساتنا وحياتنا العامة وحتى الخاصة، فإنها لن تستطيع الهيمنة على ارادتنا الحرة. 2- كثرت الاجتهادات حول توقيت النداء. صحيح ان الفعل هو ابن التاريخ أي ابن مرحلة معينة وأسباب محددة. وبالتالي فالنداء يأتي في سياق أوضاع شهدت بروز قيادة سورية جديدة وشابة، لها عندنا الاحترام ونأمل منها كل خير وقد التقينا قائدها وقد ترك فينا أطيب الأثر ونلتقي معه على أن تكون سورية حرة كريمة ولبنان حر كريم بصداقة وتعاون وأمن واستقرار يخدم مصلحة البلدين. لكن الصحيح أيضاً، هو أن الكنيسة عامة وبكركي خاصة، لها زمنها ومعيارها لقول كلمتها: في ما يتعلق بكرامة الانسان والأوطان والخير العام ومثل هذا الزمن يتخطى المناسبة ويفرض نفسه على التاريخ لانه يصدر عن ايمان بأن القيم هي سيدة الزمن وبأن الانسان والأوطان هما سيدا التاريخ. 3- من أولى فوائد هذا النداء انه استوعب الاحتقان المتزايد في الشارع المسيحي والذي كاد أن ينفجر في الأشرفية حي في بيروت، وعلى الطرقات المؤدية الى ميفوق بلدة في جبل لبنان. أمسك عقال الجماعة ورؤساؤها الواعون والبعيدون عن لعبة المصالح والارتهانات، بزمام الأمور ولم يدعوها تنتقل الى الشارع. لو لم يأخذ أصحاب البيان - النداء المبادرة بلفت الأنظار الى الثغرات والخلل والأخطار المحدقة بالمسيرة الوطنية بعيد الانتخابات وما رافقها من أخطاء ومداخلات قبلها وفي أثنائها، وقبيل تشكيل الحكومة الجديدة وما كان متوقعاً فيها من استمرارية للأخطاء والمداخلات عينها، لكانت النقمة تفاقمت والانقسامات تعمقت وحدة المواقف المكبوتة تضاعفت، ما ينذر بانفجار وشيك وخطير، في بلد تراثه الأول هو الديموقراطية والعقلانية وكنزه الحرية وكرامة الشخص البشري. أما وقد أقدم السيد البطريرك والأساقفة، انطلاقاً من مسؤوليتهم الوطنية الأكيدة التي يخطئ من يشكك فيها أو يحاول الغمز والانتقاص منها، لأي سبب، على الجهر بما يتهامسه الناس سراً، على دعوة المسؤولين الى معالجة الخلل قبل أن يستفحل، والتردي قبل أن يزداد سوءاً وايلاماً، والنقمة قبل أن تؤدي الى ما لا تحمد عقباه، فالواجب الوطني عينه يفرض على المسؤولين التعاطي مع النداء على أساس مصداقية أصحابه ومدى تعبيرهم عن آراء الناس وموضوعيتهم وتعاطيهم بشفافية مع مشاعر الناس والرأي العام وتجردهم عن الارتهانات والمصالح والمكاسب والمناصب. ولا يمكن القول إن هذه الأمور تعالجها الحكومات، فلأي مواطن الحق بالاعتراض والقبول أو الحكم على ما تقوم به حكوماته وممثلوه. ولماذا هذه الحكومات لم تقل هذا الكلام عندما طلبت من البطريرك دعمه وغطاءه لوثيقة الطائف يوم كان معظم الشارع المسيحي ضد هذا الاتفاق، وقد تحمّل البطريرك ما تحمّل من اهانات وإساءات من جراء هذا القرار؟ ما هذه المكيافيلية السياسية التي لا يعرفها سيد بكركي، المتواضع الشفاف الصادق المنزه عن المصالح والغايات ولا يحركه إلا الخير العام والمصلحة الوطنية العامة. أهمية هذه النداء أن أصحابه لم يطلقوه تملقاً أو مسايرة ومداهنة ولا طمعاً بمنصب أو بكسب لأشخاصهم أو جماعتهم. كل ما يتطلعون اليه هو ضمانة مصلحة الوطن العليا وسيادته مع صيانة العلاقات الأخوية الودية مع سورية بعيدة عن كل شوائب قد تهدد استمراريتها وثباتها في المستقبل إذا ما طرأ أي طارئ أو تقلبت الظروف في المنطقة. ودمشق لا تريد لهذه العلاقات إلا أن تقوم على الصدق والاحترام المتبادل والخير المتبادل والود المبني على الثقة والمصلحة المشتركة والمصير المشترك. معرفة الحقيقة تساعد على تثبيتها والمحافظة عليها. حتى الأخطاء نفسها، لا بد لتصحيحها من البدء بمعرفتها. المسؤولون اللبنانيون والسوريون في حاجة ماسة الى معرفة الحقيقة، لا سيما حقيقة الأخطاء، ليتمكنوا من تحاشيها وتصحيحها. وفي غياب الأصوات الصادقة، المجردة عن المصالح، كان لا بد للبطريرك والأساقفة من ملء الفراغ وقول كلمة الحق. كل ما يهدف اليه النداء هو تدارك الأخطار قبل وقوعها، بل أكثر من ذلك، يهدف الى اعتماد قواعد ومرتكزات صحيحة تمنع امكان أي تصدع مستقبلي، وهو يدعو الى حوار صادق كريم وعلى قدم المساواة بين المسؤولين في لبنان وسورية لبناء علاقات صحيحة ومتكافئة، ثابتة ومتينة، لا تستمد قوتها من وجود عسكري بل من شراكة تاريخ وجغرافية وقناعات مشتركة وثقة متبادلة تكونها إرادات حرة وهذه هي قناعات بشار الأسد كما نعرفها مباشرةً وليس بالواسطة! 4- في علم السياسة، ان الدول الصغرى بحاجة الى دعم القرارات الدولية والقوى الكبرى والمؤسسات العالمية والدولية لحماية وجودها واستقلالها من مطامع ومطامح الدول الاقليمية. لهذا تمسك لبنان بقرارات مجلس الأمن الدولي لأنها تؤكد في معظمها على ضرورة المحافظة "على استقلال لبنان وسيادته ووحدة أراضيه" ومنها القرار 425 الداعي الى انسحاب اسرائيل من لبنان من دون قيد أو شرط والقرار 520 الداعي الى خروج كل القوات الأجنبية من لبنان. هذه المقررات الدولية هي ضمان دولي لحق لبنان ودعم الدول العربية والأجنبية لوثيقة الطائف أيضاً من ضمن هذه الضمانات. 5- إن مصادرة القرار اللبناني وما ينتج عنها من كوارث، تطاول مختلف شرائح المجتمع وتؤدي الى الهجرة. فعندما تعجز السلطة عن حماية مصالح الدولة والشعب زراعياً وصناعياً وتجارياً وثقافياً فإنها تكون، على رغم ارادتها ربما، تساهم في اضعاف وإفقار دولتها وشعبها لحساب مصالح دولة أو دول اخرى. وهذا ما أشار اليه وأكد عليه البيان/ النداء، وهذا ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع اللبناني. وهذا ما تحسسه العديد من رجالات الوطن الصادقين أمثال السادة النواب عمر كرامي، نسيب لحود، وليد جنبلاط، ألبير مخيبر، بطرس حرب وسواهم... الحريصين على علاقات وثيقة متقدمة مع سورية وعلى المصالح اللبنانية خاصةً في حقول السياسة والزراعة والثقافة والصناعة وسواها. 6- إننا من موقع يصدق نوايا غبطة أبينا السيد البطريرك الذي لا يريد الا الخير لسورية والداعي لها بالأمن والاستقرار وبتحرير أرضها وبتوجه سيادة الرئيس بشار الأسد الحريص على فتح صفحة جديدة مع اللبنانيين عامة ومع المسيحيين خاصة، نعتبر هذا البيان/ النداء بمثابة مدخل لحوار لبناني - سوري حول الوجود العسكري السوري في لبنان، وحول تنظيم العلاقة بين البلدين الشقيقين بما فيه من حفظ كرامة ومصالح وخير كل منهما بجو من الثقة المتبادلة والاحترام والتعاون. وهو وجود لا بد من فتح ملفه عاجلاً أو آجلاً، تمهيداً للتوافق حوله. 7- وعلى عكس ما يظن بعض المسيحيين، فهذا النداء يتوجه الى المسيحيين أيضاً وربما قبل غيرهم ليدعوهم الى خمسة: الوعي العميق لأوضاعهم وأوضاع بلدهم والتواضع والتضامن في ما بينهم والالتزام الثابت والعاقل بقضيتهم الوطنية والواقعية والشعور الأخوي الصادق في التعاطي مع إخوانهم المسلمين ومع سورية وبُعد النظر في ارتسام ملامح لبنان المستقبل. وبهذا فالمسيحيون يتحملون مثل غيرهم وقبل غيرهم مسؤولية تاريخية للعمل على الخروج من النفق! باختصار وصراحة فإن هذا البيان/ النداء هو نص تأسيسي في الحياة السياسية اللبنانية، وفي علاقات الأخوة اللبنانية - السورية المبنية على الصراحة والاحترام المتبادل لسيادة ومصلحة كل من البلدين. إنه كلام السيد البطريرك يكتسب قوته ومصداقيته مما يعكسه واقع قائم ومؤلم يحياه اللبنانيون جميعاً ويتأملون منه ويأملون في الخروج منه قبل الخروج عليه وانعكاسه بالسوء على السوريين أنفسهم. والسادة الأساقفة الموارنة وعلى رأسهم السيد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير يجسدون في هذا النداء ما ذهب اليه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إذ قال "إن الكنيسة تتبنى احترام الحرية قاعدة لعملها، ولكن الحرية لا تبلغ شأوها إلا باحتضانها الحقيقة" رسالة السنة المئة - فقرة 46. وأعتقد ان المسؤولين في سورية هم أيضاً دعاة حرية وحقيقة واحترام للحق والقيم. لذلك أصلي كي لا يقوم بين بكركي ودمشق الا جسر الحقيقة والكرامة والحوار المحب الصادق من دون وسطاء ومرسلين. وهذا الجسر لا يبنيه إلاّ رجال الوعي والزهد والحكمة والمترسلون للحق والحرية. * رئيس جامعة الروح القدس - الكسليك لبنان.