عندما أقرأ أو أسمع عن مدرسة لتعليم فن كتابة الرواية، تأخذني الدهشة. دراسة تاريخ الرواية ممكنة، دراسة أساليب السرد ممكنة. دراسة التقنيات الممكنة، تجوز. ولكن دراسة فن كتابة الرواية هذا ما لا أقدر على استيعابه. مثلها مثل الظواهر الطبيعية، كالمطر والسحاب والشروق والغروب. لماذا يصبح هذا الإنسان روائياً؟ ليس لديّ إجابة جاهزة، لكن ربما عبرت كلمة الموهبة عن الحال المقصود، غير أن الموهبة وحدها لا تكفي، فلا بد من صقل وتعهد وتنمية، وربما يجيء هنا دور الدراسة، دراسة تاريخ الأدب وأنواعه وأشكاله، وقد سمعت أو قرأت عن مدارس تعلم من لديهم الموهبة في الكتابة في الاتحاد السوفياتي قديماً، وكنت أعجب من ذلك، وأربطه بالتخطيط العام للمجتمع الاشتراكي، وربما أضر ذلك بحيوية الكتابة. بالنسبة لي عرفت طريقي بنفسي، لم يكن في محيط أسرتنا من له صلة بالكتابة الأدبية، في ما عدا الوالد - رحمه الله - الذي كان عنده قدرة على الحكي والتأثير على مستمعيه واستخلاص العبر مما يقوله، من يدري.. ربما لو اتيحت له فرصة التعليم كاملة لأصبح روائياً كبيراً. منذ الطفولة كنت أقدم على الكذب الأبيض، احكي لأمي عن معارك تدور في المدرسة بين جيوش تنزل من الفضاء وأخرى تطلع من الأرض، وكنت أقص على زملائي أخبار السراديب تحت قريتنا المؤدية إلى المعابد الفرعونية التي ما يزال رجالها على قيد الحياة، وكنت أصغي أيضا مبهوراً إلى قصص العفاريت، والأرواح الهائمة، ومطاريد الجبل، وحكايات الحارة. لكن الأفق الحقيقي المؤدي إلى الكتابة كانت اكتشاف القراءة في سن مبكرة، إنه الأفق المؤدي إلى هذه اللحظة التي شعرت فيها برغبتي في الكتابة، ربما في العمر نفسه الذي عرفت فيه بلوغي! يمكن القول إن القراءة هي المدرسة الكبرى لتعلم فن الكتابة، ولقد مررت بمرحلتين، في الأولى كنت أكتب نماذج مشابهة لما أقرأه، ولكنني شيئاً فشيئاً بدأت أحاول اكتشاف صوتي الخاص الذي يعبر عني، فلم تكن النماذج المتاحة من قصة قصيرة ورواية تلبي حاجتي إلى التعبير، وكان ذلك أصعب ما مررت به، أن أجد وسيلتي الخاصة للتعبير. إن استيعاب الاشكال السابقة مهم، لكن الأهم تجاوزها ولحسن حظي ان هذه الفترة لم تستغرق إلا حوالى سبع سنوات، وكانت أول علامة على امساكي بصوتي الخاص قصة "هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة". لظروف خاصة اتجهت إلى التعليم الفني، درست فن تصميم السجاد الشرقي، الفارسي بالتحديد، وصباغة الألوان، لم أدرس الأدب دراسة منظمة في كلية أو معهد، والآن بعد اثنين وأربعين عاماً من بدئي الكتابة، أقول: لو عاد الزمن فسوف اختار الطريق نفسه، أن أدرس فن السجاد واتخصص فيه، وأظل مستغرقاً في القراءة، والكتابة، هكذا من دون نهج محدد سلفاً أو مقرر ينتهي عند حد معين، منهجي ينبع مني، ومقرري يتجدد من داخلي، ولهذا ما زلت وسأظل أدرس لأتعلم، وأعمل على تجاوز نفسي قبل تجاوز الآخرين.