لا يزال سنان أنطون يجد في الشعر ممارسة أساسية على رغم رواج اسمه كروائي، ولعل ذلك يمنحه فرصة مزدوجة وثمينة لعلاقة متعددة مع الكلمات واستدراج تعبيراتها الممكنة. أصدر ديوانه الأول وروايته الأولى في العام نفسه (2003)، ولكن الرواية تقدمت أكثر لأسباب مختلفة بينها إقلاله هو في الشعر. رواياته: «إعجام» ثم «وحدها شجرة الرمان» و «يا مريم»، وأخيراً «فهرس» لاقت حفاوة واضحة من قراء ونقاد، ونال سنان أنطون عنها ترشيحات وجوائز، ولكن الأهم أنها قدمت لنا كاتباً يعمل بدأب على موضوعاته، ويسعى إلى إدهاش القارئ بهذه الموضوعات الممزوجة بروحية تجريبية وشكلانية وسردية وأسلوبية تجعل الرواية ذاتها عملاً متعدد الطبقات والنبرات. ولعل تشعبات وتعقيدات الموضوع العراقي ساهمت أيضاً في جعل هذه الموضوعات والعوالم تحظى بمداخل ومقاربات ثرية وخصبة، وهو ما يبدو ليس في نتاج سنان أنطون فقط بل في نتاج جيل كامل من الروائيين العراقيين اليوم. هنا حوار معه: لنبدأ من البدايات ... غادرت العراق عام 1991، ولكنك كنت أنهيت سنوات التكوين. ماذا تتذكر من تلك الحقبة وكيف بدأت ميولك الأدبية؟ - بدأتُ القراءة في سن مبكّرة. وكنت ألتهم كل ما تيسّر من جرائد ومجلّات وكتب. في طفولتي لم تكن في البيت «مكتبة.» ولكن كان هناك خليط من كتب من أجناس وحقول مختلفة تجمّع بمرور الزمن في شكل عشوائي وكان مخزوناً في دولاب أو مبعثراً هنا وهناك. روايات مترجمة من كلاسيكيات الأدب (تولستوي، غوركي، ديكنز، مورافيا، وغيرهم). وروايات عربية: جرجي زيدان ونجيب محفوظ. ودواوين شعر قديمة ومتفرّقات حديثة: أحمد فواد نجم «إصحي يا مصر». ومجموعة من كتب علي الوردي. وما زلت أذكر «تاريخ ألمانيا الهتلريّة» بأربعة مجلّدات، قرأتها ذات صيف. في عصر ما قبل الڤيديو و (تلفزيون على مدار الساعة) والفضائيات والإنترنت كانت القراءة هوايتي المفضلة (مع كرة القدم والهوس بها لعباً وتشجيعاً) والمهرب الوحيد من الملل. وأذكر أن أحد أقربائي، من الكبار، رآني أقرأ «الزنبقة السوداء» لألكسندر دوما وقال لي: «هاي مو مال عمرك. شتفتهم منها!؟» في المرحلة اللاحقة استفدت كثيراً من الكتب التي كان يشتريها أخي وأختي ويجلبانها إلى البيت وكانا أكبر منّي. فكنت أقرأها بعد أن ينتهيا منها. روايات عبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وغادة السمّان ودواوين محمود درويش. وبعدها بدأت أشتري الكتب بنفسي وأقرأ بنهم وبشكل يومي. كان لدي ولع بالكلمات واللهجات ونسج القصص. الرغبة في كتابة الشعر والنصوص القصصية كانت موجودة وكانت هناك محاولات، جادّة وغير جادّة أيضاً. وحتى الأخيرة، عندما أتذكّرها الآن، أظن أنّها كانت إشارات إلى مقدرة على التعامل مع اللغة والتعبير بمستويات مختلفة. كنت أكتب رسائل الغزل، بالنيابة عن أحد زملائي في المدرسة الثانوية ليسلمها إلى محبوبته! ونبهني صديق حميم كنت أقرأها له قبل تسليمها إلى ضرورة الاعتناء بموهبتي بجدية. أذكر أنني كتبت مقامة في تلك الأيام أسخر فيها من مدرّس الكيمياء وضمّنتها المصطلحات والمواد التي كان يدرّسنا إيّاها والتزمت السجع فيها. ليتني احتفظت بها! تشعبّت القراءات وأخذت تركّز على الشعر والنقد ومتابعة الإنتاج الثقافي بشكل جدّي وبعمق أكثر في إطار ما كان متاحاً في العراق آنذاك. عندما أصبحت محاولاتي أكثر جدية وقصديّة، في السنة الأولى من المرحلة الجامعية، كان الحقل الثقافي في العراق قد أصبح مكرّساً لأدب الحرب وثقافته التعبويّة. وعلى رغم رغبتي الشديدة في أن أنشر ما أكتبه وأن أحصل على اعتراف ما آنذاك، إلا أنني لم أكن مستعداً لأن أهلّل للحرب أو أشترك في التطبيل للنظام. المحاولة اليتيمة فشلت لأن النصوص لم تكن «تعبويّة» وبقيتُ خارج الشلل والأجيال ولم أنشر أي شي داخل العراق. نصوصي الأولى نشرت في «اليوم السابع» الباريسية. هل كان لكون والدتك أميركية أفضلية معينة لناحية معرفة مبكرة بالأدب المكتوب بالإنكليزية، أو اختيارك لدراسة ذلك في الجامعة، وما تأثير ذلك في تجربتك ككل في ما لو وُجِد؟ - كان والدي موظفاً ولم يحصل على شهادة جامعية. كان متعلّماً ولكنه لم يكن «مثقفاً.» أما والدتي فتركت دراستها الجامعية في الولاياتالمتحدة لتتزوجه وجاءت إلى العراق عام 1959 وعاشت مع عائلة والدي واضطرت لتعلّم العربية بسرعة لأن عمّاتي، اللواتي عاشت معهنّ في البيت ذاته لم يكنّ يتحدثن بها. كنت الأصغر من بين ثلاثة وعندما ولدتُ كانت الوالدة قد أتقنت العربية (المحكية البغداديّة). وباستثناء بعض العبارات التي كانت تستخدمها أحياناً (عندما تغضب!) فإن لغة الكلام في البيت كانت العربية (والدي وعمّاتي كانوا يتحاورون بالعربية وأحياناً بالآراميّة التي كنّا نفهم الكثير منها). كانت والدتي سعيدة لأنني كنت مهتماً بالأدب وأكتب وكانت تشجعني حتى وفاتها (قبل سنتين من مغادرتي العراق). لكن لم يكن بإمكاني قراءة الكتب بالإنكليزية. هذا حدث بعد دراسة الأدب الإنكليزي أثناء سنين الجامعة. لم تكن لدي رغبة في دراسة أي شيء باستثناء الأدب والفنون (السينما والمسرح). ولم يكن الدخول إلى الجامعات في العراق يعتمد على خيار المرء بالضبط، بل معدّل الطالب في الدراسة الثانوية وكانت كل خياراتي التي سجّلتها في الاستمارة هي الأدب (الإنكليزي ثم الفرنسي والإسباني.) كنت قد سمعت أن أقسام الأدب العربي مؤدلجة أكثر من غيرها فلم أضعها في المقدّمة. كتبت الشعر أولاً، وعلى رغم أن ديوانك الأول وروايتك الأولى صدرا في العام نفسه (2014) إلا أن الرواية اليوم صارت تبدو أولوية بالنسبة إليك، هل يعطيك السرد مساحات أكبر مثلاً؟ - لا أعتقد بأن الرواية «أولوية» بالنسبة إلي. ما زلت أكتب الشعر وأفكّر به وأبحث عنه في حياتي اليومية. لكنّني مقل في نشره. لا شك في أن السرد يوفّر مساحات أكبر للكتابة عن محنة الإنسان في الزمان والمكان. لكن هذا لا يعني تفوقاً نوعياً على الشعر، بالنسبة إلي على الأقل. تظل في الشعر تلك القوة السريّة السحريّة الخارقة على «تقطير» الوجود و «قول ما لا يقال». في روايتك الأولى «إعجام» كان هناك تجريب ولعب سردي على عكس رواياتك التالية. هل كان ذلك بتأثير المزاج الشعري، وهل التخلي عنه هو نوع من النضج السردي واستكمال التصور الروائي لتجربتك؟ - كان التجريب واللعب السردي في «إعجام» نابعاً من فكرة الرواية نفسها ومناخها ومرتبطاً بهما، ولم يكن هدفاً بحد ذاته. أرى أن التجريب قد يكون في المضمون أيضاً، وليس في الشكل فقط. في «وحدها شجرة الرمّان»، روايتي الثانية، كانت مهنة «المغسّلجي» وشخصيته وطقوس تغسيل الموتى هي المحور الرئيسي. ولم يكن أحد قد تناول هذا الموضوع روائياً. لم أشعر أن مناخ الرواية الفريد والمؤلم كان في حاجة إلى ألعاب سرديّة. الكوابيس تكفي. في «يا مريم» كان هناك تجريب من نوع آخر، لعله أقل صخباً بالمقارنة ب «إعجام»، حيث تجري كل الأحداث في إطار يوم واحد. لكن اليوم الواحد يختصر حيوات بأكملها بالطبع. وهناك فصل كامل، يجري السرد فيه من خلال وصف الصور الفوتوغرافية. أما في «فهرس» فهناك تجريب على مستويات عدة وتقاطع مع نصوص أخرى وتناصّ مع نصوص وتراكيب نثرية تراثيّة، لأن فكرة الرواية تسمح بذلك، بل تتطلبه. وهناك ثلاث نهايات في الرواية! التجريب، بالنسبة إلي، وسيلة جمالية لإغناء النص وليس غاية بحد ذاته. ولم أتخلَّ عنه. تعيش في أميركا منذ أكثر من عقدين، ولكنك رواياتك لا تزال عالقة هناك في العراق الذي غادرته. هل الكتابة هي جرح الهوية الدائم، هل هي تعويض أو فرصة للعيش المتخيل في الأمكنة الأولى؟ - عشتُ سنوات التكوين الأولى (23 سنة) في بغداد. والتكوين هنا بالمعنى النفسي والثقافي. لديّ ذاكرة حادة وعميقة مليئة بصور وأصوات وروائح وأطياف وأشباح وحكايات وتاريخ وأغنيات ومحكيّات. أتذكّر كافافيس الآن: «ستلاحقك هذه المدينة إلى الأبد». يقول ألكساندر هيمون، الكاتب البوسني الأميركي الذي أحبّ أعماله ونظرته لعلاقة الكتابة بالتاريخ والذاكرة والوطن الأم:»إن الكوابيس تظل تلاحقك مثل ظلّك». الكتابة هي الحفر في طبقات الذاكرة وحوار لا ينتهي مع الذات والزمن. أفكّر دائماً بما قاله الجاحظ العظيم عن أن الكتاب «ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء». هناك لذة في تقمّص شخصيات أخرى والعيش الموقت في أزمنة أخرى. الشخصيات والصور تستحوذ عليّ ولا أستطيع أن أهرب منها. اللاوعي يلعب دوراً مهماً في ذلك وليس الوعي وحده. كما أنني أعيش في البلد الذي تورّط بدعم الدكتاتورية في العراق ثم شن حربين وفرض حصاراً قاتلاً ثم احتل العراق وأمعن في تخريبه. فالعراق كليّ الحضور بالنسبة إلي، وعلى مستويات عدة وبشكل يومي. هناك من يسارع إلى كتابة رواية «المهاجرين» حال وصوله إلى عاصمة أجنبية وتجد معظم هذه الروايات مليئة بالمازوخيّة الثقافيّة والاستشراق الذاتي والهدف منها معروف. لست معنياً بهذه الممارسات. كأن استمرارية التراجيديا العراقية تجعل ذلك نوعاً من مشروع شامل للكتابة وتجعله ممارسة أسلوبية أيضاً؟ - نعم. قد لا تروق مفردة ومفهوم «المسؤولية» لكثير من الليبراليين، في البلاد العربية أو الولاياتالمتحدة. هؤلاء الذين يصرّون على الفصل بين الثقافة وبين السياسة، وبين الأدب وبين أبعاده وتبعاته السياسية. وهذا الفصل بحد ذاته فعل سياسي. بالنسبة إلي هناك مسؤولية وهناك أولويّات. كتب سركون بولص في رسالة إلى خالد المعالي في التسعينات، قبيْل قيام أميركا بقصف العراق، قائلاً: «التاريخ يقدّم لنا موضوعنا على طبق من جمر الجحيم، عمّ نكتب، إن لم يكن هذا؟» في رواياتك هناك مديح خفي وظاهر أيضاً للحياة العراقية في الماضي. شخصية يوسف مثلاً في رواية «يا مريم»، وكذلك شخصية «ودود» والراوي نفسه في «فهرس»... بغداد... الطبقة المتوسطة... العيش المشترك... هل الكتابة هي تأريخ ما أو «عودٌ أبدي» أو على الأقل تقديم صورة غير السائدة اليوم؟ - ليس «مديحاً» بقدر ما هو استحضار لحياة أفراد وشرائح في سياق معيّن ومعقّد في الوقت ذاته. في رواية «يا مريم» هناك طباق بين رؤية يوسف وذاكرته من جهة، وبين رؤية مها وذاكرتها من جهة أخرى، وعلاقتهما بالمكان وفكرة الوطن ومعناه. الحنين، بالمعنى السلبي، أي الحنين الاسترجاعي، مشكلة عويصة في المجتمعات التي يعصف بها خراب الحروب والحروب الأهلية. يصبح الماضي المجتزأ، لطبقة أو جماعة أو فرد ما (بعد تعديله واختزاله من منظار معيّن خارج السياق العام) مهْرباً من بؤس الحاضر. من جهة أخرى هناك ما يسمّى، الحنين التأمّلي، وهو ليس معنياً بالعودة أو باسترجاع ما كان، بل تأمّل الماضي، أو، بالأحرى، المواضي المختلفة، بتناقضاتها وتعقيداتها والتفكير بها. ولا شك في أن في الكتابة الروائية، بالنسبة إلي، بعد تأريخي وصراع ضد النسيان والمحو. وكتابة سرديات وروايات أخرى مهمّشة ومنسيّة. هل ترى أن النقد العربي لا يزال غير منصف تجاه الرواية العراقية؟ - وأين النقد العربي اليوم؟ هناك تدهور مهول في الحقول الأكاديمية والتعليمية في معظم البلاد العربية وهذا ينعكس على النقد بالطبع. كما ضاقت المساحة المتاحة للنقد في المجلات والملاحق والصفحات الثقافية التي اختفى معظمها. هناك مساحات ومنافذ أخرى طبعاً يوفرها الفضاء الرقمي، ولكن هناك فوضى عارمة واستسهال مرعب ومجانيّة. نعم، ما زالت المركزيّات الثقافية تعيد إنتاج التراتبيات وتؤدي إلى التهميش. تجد هذا حتى في حقول دراسات الأدب العربي في الأكاديميا الغربية. إلى جانب الكتابة، لديك مشاغل أكاديمية كأستاذ للأدب في جامعة نيويورك، ومقالات ومشاركات إعلامية ذات طابع سياسي بحت تقريباً... ماذا عن ذلك؟ - نشرتُ مؤخراً مقالة أكاديمية عن سركون بولص في مجلّة أكاديمية محكّمة تختص بالأدب العالمي، وهي الثالثة لي عن شعره، وستكون فصلاً في كتاب عن سركون بولص، بالإنكليزية، بالإضافة إلى مختارات مترجمة من شعره إلى الإنكليزية. وهناك دراسة عن محمود درويش وڤالتر بنيامين ستصدر قريباً أيضاً في كُتيِّب. بالنسبة إلى مقالات الرأي والمشاركات الإعلامية، كلما سنحت فرصة أحاول أن أستغل الهامش الذي أتمتع به من حيث عدم ارتباطي بمؤسسة وعيشي خارج الدكتاتوريّات للإدلاء بدلوي ومواقفي. لم لا؟ أخيراً، ماذا تكتب حالياً؟ هل ننتظر رواية جديدة؟ وهل العراق مجدداً حاضر فيها؟ - هناك مجموعة شعرية تضم ما كتبته في السنين الأخيرة ستصدر عن منشورات الجمل وأعمل على رواية والعراق حاضر فيها مرة أخرى ولكن بشكل مختلف هذه المرّة.