النكبة الفلسطينية الحديثة وما رافقها من مجازر وتشريد على أيدي الصهاينة، والمجازر الأخرى التي ارتُكبت في حق العرب الآخرين، هل سجلت ووثقت على الصعيدين السمعي والبصري... ونقلت الى افلام؟ وهل ثمة موسسة او مؤسسات فنية تابعت وتتابع هذا الامر وغيره؟ في البداية انكر الصهاينة وجود شعب عربي فلسطيني في فلسطين. وما الشعار الشهير "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض" إلا العنوان الأبرز في سياسة اخذت تُطبق على ارض الفلسطينيين وفي لحمهم الحي، كاستعمال وسائل واساليب عدة للاستيلاء على الارض، واستعمال وسائل كثيرة ومتنوعة لإفناء الناس او تهجيرهم خارج الحدود الفلسطينية. وبقي شعار "عدم وجود الشعب الفلسطيني في فلسطين" حتى سبعينات القرن العشرين متداولاً في شكل رسمي. إذ ان غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل آنذاك، صرحت في آب اغسطس 1973 للاذاعة الاسرائيلية: "إن كل شيء لم يحدث كما لو كان في فلسطين شعب فلسطني يعتبر نفسه شعباً، واننا طردناه كي نأخذ مكانه. انهم لم يكونوا موجودين". واستمر الاعلام الاسرائيلي والصهيوني في تسويق هذه الاكذوبة. الى ان تم الافراج عن وثائق رسمية اخذ بعض المؤرخين الذين أُطلقت عليهم صفة "جدد" في اسرائيل، وربما قبل ذلك، بنشر اجزاء منها عن عشرات المجازر التي ارتُكبت في حق الفلسطينيين وغيرهم من العرب الآخرين، وما زالت تُرتكب الى اليوم. إنها السياسات والتطبقيات نفسها في الاستيلاء والافناء في حق الشعب الفلسطيني في اماكن وجوده وشتاته جميعاً، لا فرق بين من بقي في اراضي الاحتلال الاول عام 1948، او الاحتلال الذي تلاه عام 1967، او ما تخلل ذلك وما تلاه من احتلالات ومجازر اخرى. ولأن ذلك، او الكثير منه، على رغم مختلف اساليب المنع والممانعة والرقابة، دخل كوثائق مهمة في دحض الاكاذيب والاساطير "المفبركة" عن طهارة السلاح، الصهيوني، وعن الارض والشعب والوعد، وغير ذلك، اخذت الحقائق تتكشف تباعاً، وباح بعض الضحايا الذين نجوا ببعض اسرار الهول والجحيم وحفلات الاعدام التي تعرض لها بعض اهاليهم على ايدي القوات الصهيونية، كما في رسالة الماجستير التي اعدها تيودور كاتس عن مجزرة الطنطورة التي ذهب ضحيتها بين 200 و250 ضحية عام 1948، واغفلت ذكرها المصادر الصهيونية والعربية ايضاً. ودعّم كاتس - وهو باحث اسرائيلي - رسالته بشهادات حية لبعض الناجين من المجزرة، وما زالوا أحياء، فباحوا ببعض الاسرار التي بقيت مخفية ومطوية. ثم ان مجلة "الدراسات الفلسطينية" تابعت دعم حدوث المجزرة بنشرها شهادات حية اخرى للناجين منها. من ابناء البلدة القاطنين في مخيمات اللجوء والتشريد في سورية. ويجب الاشارة الى عشرات الكُتاب والباحثين الذين وثقوا وسجلوا مئات الشهادات الحية للناجين من عشرات المجازر التي ارتكبها الصهاينة في مدنهم وبلداتهم وقراهم، ونُشر بعضها في كتب اصبحت معروفة في هذا المجال، ككتب عارف العارف ومصطفى الدباغ ووليد الخالدي وانيس صايغ ونافذ نزال ونورالدين مصالحة وغازي السعدي وغيرهم. هذا في الجانب العربي. وفي الجانب الاسرائيلي عشرات الكتب ايضاً التي اسهمت في التعريف والكشف وتعرية الوجه البشع من الممارسات والاكاذيب الصهيونية، ككتب يسرائيل شاحاك وبني موريس وايلان بابي وتوم سيغيف وغيرهم. "هولوكوست" حديث إذاً فان الاحياء من الشهود ما زالت ذاكراتهم تسترجع احداثاً علّمت في ثنايا ارواحهم وابدانهم عن "هولوكوست" حديث ارتكبه ويرتكبه ناجون من "هولوكوست" قديم... او اولادهم وربما احفادهم! ثم ان بطولة الكتب و"الارشيفات" المتعددة والمتنوعة تحتوي وثائق مهمة في هذا المجال، فلماذا اذاً لا تتحول هذه المادة، او اجزاء منها، صوراً ناطقة ومصورة، كمادة خام، او في افلام وثائقية وتسجيلية ودرامية؟ ثمة اعداد كثيرة من الاجيال التي شهدت المجازر الاولى اخذت بالانقراض، او ان ذاكرات بعضهم اصابها العطب. فلماذا لا تتم المبادرة بإقامة مؤسسة فنية عامة تتولى جانب التصوير والارشفة، وإقامة صرح فني للوثائق والافلام التي تسجل بالصورة والصوت الاحداث الجسيمة في حياة الامة وتاريخها، اذ لا يجوز ان يبقى الجانب البصري والسمعي في التسجيل والتوثيق والأرشفة الفنية والصناعة الفيلمية الفنية غائباً، او خاضعاً للمصادفات وردود الفعل الآنية، او ل"النزعات" التي تتحمس اليوم لتخبو، بعد ايام؟ مع العلم ان المحاولات في هذا المجال لم تتوقف، وبعضها حمل صفة المغامرة والفدائية. مع ذلك، فإن بعضها فردي، وبعضها الآخر حمل صفة جماعية محدودة في مرحلة السبعينات والثمانينات، أيام المد المتعاظم للتنظيمات الفلسطينية وغيرها. لكنها بقيت محدودة، وأحياناً فئوية كأداة من ادوات التنظيم واحتياجاته الاعلامية والاعلانية. المطلوب إنشاء مؤسسة او مؤسسات عامة بصرية وسمعية تتولى هذه المهمة، والمرجو لها ان تستمر. حتى لو فترت الحماسة، او استهلِكت مرحلة، او حصلت متغيرات معينة!