تنشر "الحياة" القسم الثاني من المحاضرة التي أعدّها أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية السيد محمود عباس أبو مازن للندوة الأخيرة التي عقدت في اطار المؤتمر السادس لدار "الحياة" الذي عقد في عمان بين 20 و22 الجاري. وحالت التطورات الأمنية اثر عملية الباص في غزة، يوم الاثنين، دون تمكن "أبو مازن" من الوصول الى العاصمة الأردنية، بسبب اغلاق الاسرائيليين لجميع الطرق ومنافذ العبور. وقد قرأت المحاضرة بالنيابة عنه. ان اوسلو اعطت الحركة النضالية الفلسطينية زخما جديداً ودفعاً الى الأمام من خلال بناء السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، حيث حصلت على جزء من مطالبنا وفي نفس الوقت لم تتنازل عن الجزء الآخر. وقد استطاعت ان تستعيد علاقاتنا مع مختلف دول العالم وتثبت فلسطين رقماً معترفاً به على خارطة العالم السياسية واصبح الجواز الفلسطيني واقعاً ملموساً، والعنوان الفلسطيني هدفاً لكثير من زعماء العالم يطرقونه في كل وقت، كما باتت عواصم العالم مفتوحة امام القادة الفلسطينيين، وصارت ابواب مؤسساته الدولية مشرعة امامهم. مع ذلك أؤكد ان كل هذا لا يعني اننا قد وصلنا الى نهاية المطاف، اذ ان الطريق لا تزال طويلة وشاقة، وعلينا ان نثابر وان نصبر وان نصر على الحصول على مطالبنا العادلة وحقوقنا كاملة، لأن اية تنازلات في مفاوضات المرحلة النهائية ما هي الا تنازلات لا رجعة فيها، وخسارة لا تعويض عنها ولا امل باستردادها في المستقبل المنظور. وهكذا.. فهناك فارق كبير بين مفاوضات المرحلة الانتقالية، ومفاوضات المرحلة النهائية، لأن الأولى تعطينا هامشاً واسعاً في المناورة والاخذ والرد، كما تسمح لنا بمساحة من حرية الحركة، لان التعاطي مع قضايا هذه المرحلة يجعلنا ننظر الى حجم المكاسب والايجابيات التي نحصل عليها من خلالها، وما لم نحصل عليه لا يعتبر خسائر، او بمعنى ادق لا يعتبر خسائر نهائية نتيجة لطبيعتها الانتقالية. عودة الليكود الى الحكم في 5/5/1996 وفي منتجع طابا، افتتحنا مفاوضات المرحلة النهائية مع حزب العمل واتفقنا على استئنافها بعد الانتخابات الاسرائيلية، لأن هذه الانتخابات كانت على الابواب، وكان الحزب يعتقد انه عائد الى السلطة لا محالة ولكنه فشل وحل محله حزب الليكود برئاسة بنيامين نتانياهو، الذي كانت ادبياته ابان الانتخابات مبنية على الشعارات التالية: 1- عدم الاعتراف باتفاق اوسلو 2 - عدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية 3 - عدم التحدث الى ياسر عرفات ولكنه بعد فترة من الزمن تحول شيئاً ما عن هذه الشعارات ووافق على بدء حوار معنا وكان ذلك بتاريخ 23/7/1996 عندما وقع لقاء فلسطيني - اسرائيلي في منطقة "ايريز" الاسرائيلية، واعتقد الجميع ان العجلة ستسير وان الامور يمكن ان تعود الى سابق عهدها وانه، أي نتانياهو، تراجع عن شعاراته تلك، الا ان انفجار انتفاضة النفق في الاقصى الشريف يوم 30/9/1997 اعاد الامور جميعاً الى نقطة الصفر. فما كان من الولاياتالمتحدة الا ان دعت الى قمة يحضرها عرفات ونتانياهو والمرحوم الملك حسين والرئيس حسني مبارك على ان يتم اللقاء في واشنطن. لكن الرئيس حسني مبارك لم يحضر هذا اللقاء واكتفى بإرسال وزير خاجيته عمرو موسى على ان لا يشارك بشكل مباشر وانما يكتفي بالتواجد في واشنطن والاطلاع على مجريات الامور عن قرب. وانتهت هذه القمة باستئناف المفاوضات التي انتهت باتفاق الخليل يوم 15/1/1997. لم يطبق هذا الاتفاق وغرق المسار كله في متاهات الاتصالات واللقاءات غير المثمرة، وتذرعت الحكومة الاسرائيلية بأن المنظمة لم تلغ المواد المتعلقة باسرائيل في الميثاق الوطني، واعتبرت ان ما جرى في 23/4/1996 لم يكن كافياً ولا بد من الوضوح الكامل في الغاء او تعديل المواد التي تدعو الى تدمير اسرائيل. وجاءت قمة "واي ريفر" بتاريخ 23/10/1998 التي استمرت اكثر من عشرة ايام واسفرت عن ترتيب زيارة الرئيس كلينتون ليحضر لقاء لمتواجدي المجلس الوطني والفعاليات الفلسطينية يوم 13/12/1998، وليستمع مرة اخرى الى اعادة تكرار نص القرار الذي صدر عن المجلس الوطني في ما يتعلق بمواد الميثاق. ولكن الرئيس الاميركي صدم من موقف حكومة الليكود التي اظهرت عدم التزام بباقي البنود التي تم الاتفاق عليها في "واي"، خاصة مسألة الافراج عن الاسرى، حيث تحدثنا باسهاب في هذه القمة عن قضيتهم وتم الاتفاق على تحرير فوري لدفعة منهم تتبعها دفعات متلاحقة، الا ان حكومة نتانياهو تملصت من هذا الاتفاق واحتفظت بهم رهائن للمساومة على قضيتهم. وعاد الى واشنطن وفي نفسه مرارة وخيبة امل. كانت زيارة كلينتون الى قطاع غزة، علامة بارزة في تاريخ العلاقات الاميركية - الفلسطينية، وكانت اعترافاً من رئيس الولاياتالمتحدة بالكيان الفلسطيني، إضافة الى ذلك فقد تم ترتيبها والاعداد لها بشكل متقن للغاية بحيث لم يحصل اي خطأ على الاطلاق. ومضت سنوات ثلاث قبل ان يسقط نتانياهو لم يتحقق فيها اي تقدم على مسار مفاوضات المرحلة النهائية، ولم يطبق الا النزر اليسير من قضايا المرحلة الانتقالية. عودة حزب العمل الى السلطة وجاء حزب العمل وانصاره برئاسة ايهود باراك اثر الانتخابات المبكرة التي حصلت في اسرائيل بتاريخ 17/5/1999 تلك الانتخابات التي حصل فيها باراك على اربعماية الف صوت زيادة عما حصل عليه نتانياهو، وقد جاءت هذه الزيادة من الصوت العربي الذي وهب له ثلاثماية الف صوت اعتقاداً منا جميعاً انه سيجري تغييراً جذرياً في سياسة اسرائيل وانه سيتعامل مع المفاوضات بجدية وايجابية. ان الكم الهائل من الاصوات العربية التي حصل عليها باراك في الانتخابات الاخيرة لن تتكرر لاحد من زعماء اسرائيل مهما كانت الأسباب لأن اخواننا هناك اصيبوا بصدمة عنيفة جراء الاعتداءات الوحشية التي وقعت ضدهم من الجيش الاسرائيلي اثر مشاركتهم في انتفاضة الاقصى، حيث سقط منهم ثلاثة عشر شهيداً وعشرات الجرحى، وقد عوملوا بمنتهي القسوة والوحشية، ونسي الجيش الاسرائيلي او تناسى انهم مواطنون في دولة اسرائيل وانهم متجذرون في هذه الارض منذ الوف السنين. ان هذه الاحداث مهيأة لإجراء تغييرات شاملة سواء في عقلية المواطنين العرب او في قناعاتهم او في نظرتهم الى هذه الدولة العنصرية التي قضوا فيها اكثر من نصف قرن مواطنين يحملون جنسيتها الا انهم اكتشفوا خلال هذه الاحداث ان كل هذه العلاقات القانونية والاجتماعية والإنسانية، لم تجعل حكومة اسرائيل تتذكر ولو للحظة واحدة انها تسفك دماء شريحة من مواطني الدولة، وان كانوا مواطنين من الدرجة الثالثة او الرابعة، الا انهم في سجلات الحكومة مواطنون لهم نظريا كل الحقوق وعليهم كل الواجبات. تلكأ باراك كثيراً في فتح ملف المفاوضات، وقد مهد لهذا باطلاق العنان لتصريحات عدمية متطرفة معدداً ومكرراً فيها لاءاته وخطوطه الحمراء حيث لم يترك مناسبة تفوته الا وذكر فيها مواقفه السياسية في محاولة منه لتثبيتها في ذهن المواطن الفلسطيني، وكذلك في ذهن الاسرائيلي لتصبح نقطة انطلاق لاية مفاوضات يخوضها. وراح يردد هذه اللاءات حتى اصبحت جزءاً اساسياً من السياسة الاسرائيلية، ولم يعد قادراً على التراجع عنها وفي نفس الوقت لا يمكن لاحد ان يقبل بها. لقد تمثلت لاءات باراك وخطوطه الحمراء بالنقاط التالية: لا عودة لحدود الرابع من حزيران 1967. القدس موحدة وعاصمة ابدية لاسرائيل. لا لتواجد جيش اجنبي غرب نهر الاردن. لا لإزالة المستوطنات. لا لعودة اللاجئين. لو لم ننتبه جيداً الى الاهداف الكامنة وراء اطلاق مثل هذه المواقف لكان لهذا الاسلوب تأثير نفسي سلبي على الطرف الفلسطيني، لأن من تفوت عليه مثل هذه الاساليب يظن ان اسرائيل لن تتخلى عن هذه المواقف بل ان من المستحيل التزحزح عنها وبالتالي لا بد من البحث عن البدائل وعن الحلول الوسط، وهنا نقع في المحظور. وبعد مماطلة زادت عن سنة، بدأنا انواعاً مختلفة من المفاوضات منها العلني ومنها السري، منها ما كان في المنطقة ومنها ما كان في دول مختلفة مثل السويدوالولاياتالمتحدة، منها ما كان ثنائيا ومنها ما كان ثلاثياً. حتى انتهت هذه اللقاءات الى اتفاق شرم الشيخ بتاريخ 4/9/1999 في قمة كانت مهمتها محاولة استكمال تطبيق الاتفاقات المرحلية السابقة وبخاصة تلك التي عقدت في عهد بنيامين نتانياهو. إضافة الى هذا فإن هذه المفاوضات تناولت قضايا المرحلة النهائية الامر الذي جعل الاميركان يستضيفون اكثر من لقاء وفي ذهنهم عقد قمة ثلاثية في اميركا تضم الاطراف المعنية الى جانب الاميركان. وقد استمر الحديث عن هذه القمة فترة طويلة وكان الاميركان والاسرائيليون خلالها يرفضون فكرتنا الداعية الى الاعداد الجيد لهذه القمة حتى لا تكون فشلاً يصعب بعده ترميم الاوضاع. فقد تبلورت لدى الاميركان والاسرائيليين فكرة بأنهم لو عقدوا مثل هذه القمة فإن الرئيس عرفات سيقبل بالافكار التي يطرحونها عليه، تلك الافكار التي سربت لهم والتي يدعي مسربوها ان عرفات يمكن ان يتبناها. بالإضافة الى ذلك فقد اعتقدوا ان وجود الوفد الفلسطيني وحده في سجن كامب ديفيد يجعل هذا الوفد مع شيء من التهديد والوعيد او الاغراء قابلاً للتجاوب مع تلك الافكار والمواقف التي وطنوا عليها النفس بأنها الحد الادنى الذي يقبلون به. بالإضافة الى انه بشكل عام هناك انطباع سائد لدى مختلف دول وزعماء العالم بأن احداً لا يستطيع ان يقول "لا" لاميركا، لأنها الدولة الاعظم القادرة على التحكم بمصائر الدول والشعوب، وهي التي تأمر فتطاع وهي التي تمكنت من تدمير امبراطوريات، وشنت عشرات الحروب في مختلف انحاء العالم، واصبحت الشرطي الوحيد الذي يملك ناصية الامن والاستقرار، والمسؤولة عن كل شاردة وواردة هنا وهناك، فهل يمكن لاحد كائناً ما كانت قوته وهيبته ان يخالف لها امراً؟ لم تنفع كل الحجج والأسباب التي اوردناها للاميركان بضرورة الاعداد الجيد والاستعداد لهذه القمة، واصروا على ان تكون يوم 11/7/2000 في كامب ديفيد، وحددوا عدد كل وفد وابلغونا بالضرورات التي يجب احترامها واهمها ان الخروج من الكامب قبل انتهاء اعمال القمة لا يجوز وان استعمال التلفونات النقالة غير مفيد لأن الاجهزة الاميركية ستعمل على تعطيلها، وان اي طرف يريد ان يحضر عدداً اضافياً من جانبه لن يسمح له بدخول الكامب وانما يمكن لهؤلاء ان يتواجدوا في مناطق بعيدة عنه. كانت حجة الاميركان في الاسراع بعقد القمة تنطلق من ضيق الوقت، حيث ان مدة رئاسة كلينتون على وشك الانتهاء، اما باراك فإنه يتعرض وحكومته لضغوط هائلة قد تؤدي به الى السقوط في أي وقت. كان استعمال هذه الحجة من اجل فرض تنازلات على الجانب الفلسطيني وليس الوصول الى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وهذا يعني انه مطلوب منا ان نقدم التنازلات التي يطلبها الطرفان من اجل ان لا تنتهي فترة كلينتون دون انجاز وان لا تسقط حكومة باراك. وبصرف النظر عن تقييمنا لكلا الزعيمين ومدى حرصهما على عملية السلام وحجم الانجاز المتوقع من قبلهما والجهود التي يمكن ان يبذلاها للوصول الى هذا السلام، الا اننا غير مستعدين اطلاقاً بأن يكون نجاحهما او بقاؤهما في سدة السلطة على حساب مطالبنا وحقوقنا الأساسية. ولذلك فإننا لم نلتفت الى مثل هذه الحجج والذرائع. في كامب ديفيد طرحت القضايا الرئيسية الاربع التالية: القدس: منذ حرب 1967 وبتاريخ 28/6/1967 اعلنت اسرائيل بقرار من الكنيست ضم القدسالشرقية التي احتلتها اليها موحية بأن هذه المسألة وهذه القضية اصبحت خارج الحوار ومستثناة من اية مفاوضات مستقبلية، وعلى الرغم من صدور العديد من قرارات مجلس الامن، واهمها: 252، 253، 465، 478، 298، 267، وغيرها.. فإن اسرائيل استمرت في سياستها التي تقضي ببناء المستوطنات في القدس واستكمال اجراءات الضم التي اعلنتها رسمياً وتسعى لتعميدها واقعياً. ان قرارات مجلس الامن المشار اليها اعلاه، اعتبرت ضم القدس غير شرعي وتعاملت مع الاستيطان على انه غير شرعي ايضاً ووجوده غير قانوني ولا بد من ازالته، ولذلك وعندما نتحدث عن الاستيطان في المفاوضات فإننا نعتبر بقاءه في الاراضي الفلسطينية المحتلة مرفوضا من حيث المبدأ والنتيجة، وذلك منذ ان وضع الاسرائيليون اول حجر في اراضي الضفة الغربية والقطاع. في كامب ديفيد لم يحاول الاسرائيليون ان يتطرقوا الى ملف القدس وانما راحوا مع الجانب الاميركي يماطلون في تشكيل لجنة تبحث هذا الملف حتى الاسبوع الثاني من مفاوضات الكامب. بعد ذلك بدأ الاسرائيليون والاميركان يطلقون البالونات حول وجهة نظرهم في الحلول الخاصة بالقدس. فقد تحدثوا مرة عن سيادة للقرى المحيطة بالقدس وحكم ذاتي لأحيائها الواقعة خارج السور، ونظام خاص للأحياء داخل السور. ومرة اخرى تحدثوا عن سيادة للأحياء خارج السور وحكم ذاتي للقرى المحيطة ونظام خاص للأحياء داخل السور. وفي مختلف المرات تحدثوا عن ضم اكثر من حي من الاحياء داخل السور، ولكنهم كانوا يركزون على الحي الارمني باعتبار ان الحي اليهودي امر مفروغ منه. ولما كنا نرفض كل هذه المشاريع جملة وتفصيلا، فجروا في نهاية القمة قنبلة المطالبة بالسيادة على الحرم باعتبار ان آثار هيكل سليمان موجودة في ساحة الحرم او تحت الحرم القدسي مباشرة. كذلك طالبوا بحق الصلاة - في الحرم - لافراد معدودين في اليوم او في الاسبوع، وبطبيعة الحال رفضنا ذلك ايضاً، ولكننا وافقنا على ان يقوموا بالصلاة الى جانب حائط المبكى دون ان نقر لهم بأية سيادة عليه، وذلك انطلاقاً من قرار لجنة "شو" البريطانية التي اعترفت عام 1929 بأن ملكية الحائط تعود للأوقاف الاسلامية انما يحق لليهود الصلاة الى جانبه شريطة ان لا يستعملوا البوق. وبعد القمة ومن خلال الاتصالات والوسطاء طالبوا ببناء كنيس صغير في باحة الحرم ويكتفون به، ولما رفض طلبهم، عادوا يقترحون ان تقوم دولة اسلامية ببناء مقر لها يستعمل اليهود جزءا منه ككنيس. ولكن هذا رفض ايضاً. وبعدها جاءوا باقتراح بأن تكون السيادة لله فقط ولا يدعي اي من الطرفين حيازتها، ورفضنا هذا الاقتراح لأن سيادة الله على كل الدنيا والكون فلماذا تخصه هنا فقط؟ انهم يخصصونها هنا لتعود اليهم باعتبارهم - كما يدعون - اقرب الى الله من كل شعوب الدنيا، الله الخاص بهم. تتخذ اسرائيل مثل هذه الخطوات التي تبدو قاطعة باترة لتوحي للخصم والعدو ان لا امل له في المطالبة ولتنزل الرعب في قلبه ووجدانه ولتجعله يشعر باليأس والقنوط من مجرد المطالبة بحقوقه وفي احسن الحالات ان يقبل بالمساومة عليها والتنازل عن اجزاء منها، وهنا تكون السياسة الاسرائيلية قد حققت اغراضها لانها تريد ان تصل بالخصم او العدو الى حد التشكيك في حقوقه او في قدراته على استردادها وامكانية التخلي عنها، والوصول بالخصم او العدو لهذه الحالة انتصار بحد ذاته، لأن هذا يعني ان اسرائيل بدأت تحقق المكاسب بالتأثير على نفسية الطرف المقابل ومن ثم بتطبيق ذلك على الارض. لقد سمعت في عام 1974 من المرحوم اسماعيل فهمي وزير خارجية مصر الاسبق بأن فكرة طرحت عليهم بتأجير منتجع شرم الشيخ للاسرائيليين فترة من الزمن لأن موشيه ديان قال بشكل قاطع "ان شرم الشيخ بدون سلام اهم من سلام بدون شرم الشيخ"، وهذا يعني ان قرار اسرائيل النهائي هو عدم الانسحاب من شرم الشيخ ومن مناطق اخرى في سيناء حيث لهم فيها مصالح حيوية لا يمكن التنازل عنها. وبعد بضع سنوات من هذا الحديث وبفضل اصرار مصر على استعادة كل ذرة من ترابها عادت شرم الشيخ ودمرت مستوطنة ياميت المدينة الصناعية في شمال سيناء، وعادت الى السيادة المصرية ايضاً منطقة اقل من كيلومتر مربع هي منطقة طابا. لقد اعتبر البعض ان ازالة الخط الاحمر و "التابو" عن موضوع مدينة القدس انما هو نصر نحققه، وبالتالي فقد تمكنا من ازالة 80 في المئة من الخطوط الحمراء، والحقيقة انه لم يكن لدى اسرائيل مانع من فتح الستارة على المحرمات التي تدعيها لتجس نبض الطرف الآخر وتوحي له بأنها بدأت بالتنازلات وهي التي ابدت المرونة والتساهل وعليه ان يقابلها بالمثل ثم تبدأ بالمساومة. وبالتالي فمهما نحقق من مكاسب ضمن اطار هذا المفهوم نبقى الخاسرين، ولذلك فإن فتح الستائر والغاء الخطوط الحمراء لا يعني اكثر من مناورة تفاوضية ولا يمكن ان نطلق على مثل هذه المناورة اسم النصر او المكسب. ان التعقيد الذي تتصف به مشكلة القدس لا يأتي من كونها مدينة مقدسة لدى الاديان الثلاثة وان الصراع عليها نابع من هذه الصفة فحسب، بل ان هناك عناصر اخرى اسهمت في تعقيد المشكلة، كالسياحة الدينية، التي تعتبر من اهم المصادر الاقتصادية لأية دولة، بالإضافة الى تشابك موضوع القدس مع موضوع الاستيطان واختلاط الامرين بحيث توحي الصورة بأنه لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض وان التنازل المطلوب في موضوع القدس سيرافقه تنازل آخر في موضوع الاستيطان والمستوطنات، تلك المستوطنات التي تحيط بالقدس من كل جانب حتى تكاد تخنقها، بما في ذلك الاحياء والبيوت التي زرعت داخلها. ويبقى موقفنا من القدس بسيطاً وبلا أي تعقيد، وهو ان القدس جزء من الاراضي التي احتلت عام 1967، وينطبق عليها قرار 242، ولا بد ان تعود لسيادتنا لنبني عليها عاصمتنا ولا مانع لدينا ان تكون القدس الشريف والقدس الغربية مفتوحتين على بعضهما البعض تتشاركان في الاعمال البلدية. اللاجئون لم تكن قضية اللاجئين اقل اهمية من قضية القدس، بل ربما تكون من حيث نتائجها اكثر اهمية وصعوبة، حيث تواجه وستواجه اعتراضات شديدة من قبل الحكومة الاسرائيلية، لانها تعني من جملة ما تعني تغيير الطبيعة الديموغرافية التي يسعى الاسرائيليون للمحافظة عليها. إضافة الى هذا فإن الاقرار بوجود قضية اللاجئين من قبل اسرائيل يعني مسؤوليتها عن هذه المأساة الانسانية والسياسية المزمنة. اللاجئون، احدى المحرمات الاسرائيلية واولى خطوط ايهود باراك الحمراء. وابرز قضايا الاجماع الوطني الاسرائيلي التي يلتقي عليها اليمين واليسار والوسط، المتدينون والعلمانيون، القادمون الجدد، والمهاجرون القدامى. ولذلك فإن كل الابواب مقفلة امام هذه المعضلة بدءاً من الاعتراف بالمسؤولية ومروراً بمسألة العودة او التعويض. وباختصار ان مشكلة اللاجئين امر عربي عالمي لا يعني اسرائيل من قريب او بعيد. تلك هي الأدبيات الاسرائيلية التي نراها ونقرؤها ونسمعها صباحاً مساء في كل وسائل اعلامهم ومن خلال بيانات وتصريحات زعمائهم. وعندما ترفع الستائر وتزاح الخطوط الحمراء ويبدأ الحديث الجدي عن مشكلة اللاجئين، وعندما يضطر الطرف الاسرائيل لان يسمي ممثلاً له يتفاوض عن مسألة اللاجئين، لن تعوزه الحيلة، لكي يبحث عن المخارج القانونية وغير القانونية، التاريخية والدينية والسياسية، ولا مانع لديه من اللجوء الى التحايل والتزوير وتمويه الحقائق ليتملص من هذه المعضلة التي تؤرقه. يتحدث الاسرائيليون عن ان خروج الفلسطينيين من وطنهم كان بملء رغبتهم وبدعوة صريحة من زعماء العرب وزعمائهم، هؤلاء الذي كانوا يريدون القضاء على اسرائيل، وعندما فشلوا راحوا يحملون اسرائيل مسؤولية مأساة اللاجئين القانونية والادبية، مع ان اسرائيل لا علاقة لها اطلاقاً بهذه المأساة. والآن وبعد مضي خمسين عاماً او اكثر على هذه المشكلة فإن الحديث عن حق العودة امر مرفوض تماماً، واذا كانت هناك ضرورة لدفع تعويضات لهم فإن اسرائيل يسعدها ان تؤسس صندوقاً دولياً، وهي مستعدة للمشاركة فيه لإعادة اسكان وتوطين اللاجئين خارج اراضي اسرائيل بالطبع... ولكن وحيث ان هناك مأساة موازية هي مأساة اليهود القادمين من البلاد العربية، فإن التعويضات الدولية يجب ان تشمل هؤلاء وبالتالي لا بد ان تقسم تلك التعويضات مناصفة بين الفلسطينيين واليهود. تلك كانت مطالعة الاسرائيليين حول اللاجئين وبخاصة عندما اضطروا لإزالة خطوطهم الحمراء ورفع الستار عن هذه القضية التي يعتبرون ان الخوض فيها نوع من المحرمات. اما نحن فقد كانت حججنا على النحو التالي: - ورد في المادة الثانية فقرة ب من القرار 242 ضرورة البحث عن حل عادل لمشكلة اللاجئين. ولم يتعاط اي قرار من قرارات الاممالمتحدة مع مشكلة اللاجئين الا القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة لسنة 1949، والذي ينص على "التعويض على من لا يرغب في العودة"، وهذا القرار يعني ان حق العودة، اولاً ومن لا يرغب يمكنه ان يطالب بالتعويض. ولا بد من الاشارة الى ان الولاياتالمتحدة استمرت تعرضه كل سنة على الاممالمتحدة لتجديد اعتماده من قبل المنظومة الاممية، حتى سمي "American baby resolution"