- 1 - رأيت فؤاد سليمان، لِلمرّة الأخيرة، على فراش الموت. كلاّ، لم أرَ منه إلاّ ما يشبه الظلّ. وبدا لي، ربّما بوحيٍ مما كنتُ قرأتُ له، كأنّه جسمٌ طِفْلٌ يَتقَمّط بكتاباته، متمدّداً في سَرير اللّغة. وَخُيل إليَّ، فيما كان يكلّمني، أنَّ وجهه يَتحوّل الى فضاءٍ شاحبٍ تتلألأُ فيه نجمتان كأنّهما تَغُوران فيما يتكلّم. وأكادُ أن أتبيّنَ الآن أنّ صوتَه الخافِتَ النّاحِلَ تَركَ فِيَّ أصداءَ كأنّها لا تزالُ تتموّج في أَنحائي، وأنّه أَجَّجَ فِيَّ حبّاً لِلشّعر والحياة ينحدر مِن جَذْرٍ لا يَفْنى. - 2 - فيما بعد، أخذتُ أكتشفُ تميّز فؤادَ سليمان بين المبدعين الآخرين من مُجايليه: كيف كانت حياتُه تسيل في نهر الأشياء التي يكتب عنها، بشكلٍ نَفّاذٍ، البصرَ الكالحَ النّظَرِ، والبصيرةَ المغلقةَ الرُّؤية، فيما يرجُّ، على الأخص، عروشَ ثلاثةِ أنواعٍ من الطّغيان في لبنان: طغيان التّمذهُب الدّيني، وطغيانِ التَّسيُّس الطّائفيّ، وطغيان الولهِ بنوعٍ من الذاتيّة التي تكاد أن تكون عمياء. وكنتُ فيما أقرؤه، أتعلّم كيف تصير الكتابة قُرىً ومواكبَ زهَرٍ، وكيف تصير احتجاجاً وغضباً، وكيف تتكتّب جيوش الكلمات. - 3 - أضع فؤاد سليمان في مقدّمة الكتّاب الذين يكملون ما بدأه جبران حول ماذا تريد الكتابة، وماذا تقدر أن تفعل. إنّهم الكتّاب الذين أقاموا تحالُفاً وثيقاً بين زلزلة التّقاليد الاجتماعية، وزلزلة التّقاليد الجماليّة. ويتمثّل دورُ فؤاد سليمان هنا في مُتابَعةِ التأسيس لِنَثْرٍ يُوصل قارئه مباشرةً بالشعر، وفي الكشف عن اللّحظة التي تؤاخي بين حرّية التّجربة وحرّية الشّكل الذي يُفصح عنها، فيما وراء التَّقعيدِ، وبخاصّةٍ الوزنيّ أو العروضيّ، تلك اللّحظة التي يهبط فيها الكاتب الى أعماقه، حاملاً لغته الخاصّة، فيما وراء اللّغة العامّة التي تحمل، هي عادةً، أصحابَها، وتدورُ هي بهم في صحراء التّقاليد. هكذا تخلّصَ فؤاد سليمان من عناصر التّسلّط في المحافظة اللغويّة والأدبيّة، معزِّزاً كلّ ما يُعطي للبراءة والتّلقائية والمخيِّلةِ حقوقها الخاصّة الى جانب الحقوق التي تتمتّع بها العقلانيّة والنّظام والمعايير التي تتأسَّسُ عليهما. هكذا نجدُ في كتابته كلَّ ما يؤكّد أَنّ أَسْرَ الشّعر في بعض الصّيغ، بوصفها تحديداً له، إنّما هو قبل كلّ شيء أَسْرٌ للإنسان نفسه، ولطُرقِ وجوده. عدا أَنّه يكبح اندفاعه نحو ما يتجاوز المُعْطى، ونحو المجهول. وتؤكّد لنا كتابته، على مستوىً آخر، أنّ الشّعر طاقةٌ، وأنّه بوصفه كذلك، غضَبٌ واحتدامٌ، قلقٌ ورغبة، نقدٌ واستشرافٌ، أكثرُ مِمّا هو انفعالٌ عاطفيٌّ يئنُّ، شاكياً، أو يصرخُ مُهلِّلاً. وتكمن خاصّيته الأساسيّة في بَثّ البَلْبلةِ في كلّ نظام وطيد - خصوصاً نظامَ القيم والمراتب، الذي يمليه العقلُ الجَمْعيّ المؤسّسي: افعلْ هذا، لا تفعلْ ذاك. هذا حَسَنٌ وذلك قبيح. ذلك شرٌّ وهذا خير. فالشعر، إزاء هذا كلّه، يضع الإنسانَ دائماً في الحالة القُصوى من التأهُّب واليقظة والتّساؤل. كان الشِعر اللّبنانيّ، والعربيّ بعامةٍ، قبل جبران مكتفياً بكونه يعكسُ الحَدث، واصِفاً إيّاهُ - مديحاً أو هجاءً. هكذا كان تحت التّاريخ، أو مرآةً له، في أحسن حالٍ. غير أنّه، بدءاً من جبران أصبح يؤسّس لتجاوز الحدَث، مخترقاً إياه نحو رموزه ودلالاته. صار التاريخ، بتعبير آخر، تحتَ الشعر: لا التاريخ هو الذي يضيء الشعر، بل الشعر، على العكس، هو الذي يُضيء التّاريخ. فؤاد سليمان من أولئك الذين تؤسّس كتاباتهم لهذا التّجاوز - أولئك الذين بدأت معهم مرحلةٌ شعريّة أخرى. مرحلةٌ تضعُ الأدبيّةَ، أو الشعريّة، موضعَ تجريبٍ مفتوحٍ يتجدّد باستمرار. - 4 - أعرفُ: يلزم وقتٌ طويلٌ وصعبٌ للدخول الى مجرّات الضّوء. أعرف: للأيّام قيثارٌ خفيٌّ لا يتقن العزفَ عليه إلاّ غاوون ينامون في أسرّةِ الأساطير - حيث التّرياقُ الذي لا تزال الفيزياء تبحث عن أسراره، ولم تصل اليه بعد حِيَلُ الكيمياء. وأعرف أنّ الأرضَ التي تعيش مرتعشةً من بَرْدِ الموت، انما هي الأرض التي لا تترك للشعر ان يَسيلَ في جسمها كأنّه دمٌ آخر. اقرأوا فؤاد سليمان، وسوف ترون انكم في قراءتكم هذه تُضْفُون كثيراً من الدِّفء على جسم هذه الأرض. سوف ترون أنّ الشّمس تطلع كذلك من وراء ثلّةٍ زاهيةٍ في حقول كلماتهِ، وأنّ وراءَها ظِلَّيْنِ لفلاّحةٍ وفَلاّح يحاصر الزّمنُ حبّهما في مكانٍ آخر، وأنّ فيها هياكلَ سِحْرٍ يتعذّرُ اسْتنفادهُ وإن سَهُل ورودُه. لكن، عندما ترون، في ضوء هذه الكتابة، الى لبنان، يتأكَّد لكم أنَّ المسألة ليست في أن يزعَم كلٌّ أنّه من جهةِ الضّوء، وإنما المسألة هي: كيف نجعل هذا الضّوءَ مهيمناً على الظَّلام. التحية لفؤاد سليمان الذي يذكّرنا هذا المساء، في هذه اللّحظة من ليل لبنان وليل العالم، كيف نضع أيدينا في يد النُور، وكيف نفتح صدورنا لِشمس الشعر، شَمْس المَعْنى. * هذه الكلمة ألقاها الشاعر أدونيس في "يوم فؤاد سليمان" الذي أقيم في قصر اليونيسكو - بيروت. وشارك فيه: غسان تويني، بهيج طبارة، جورج سكاف، نضال الأشقر وماجدة الرومي. وأقيم الاحتفال بمناسبة صدور الأعمال الكاملة للأديب اللبناني الراحل فؤاد سليمان عن الشركة العالمية للكتاب.