سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عشية مؤتمرها السادس في عمان ... "الحياة" في بعض أطوارها منذ نشأتها وبعد استئناف صدورها . مرآة انقلاب بيروت الى عقدة طرق وساحة مصرفية وبوابة على اختلاط سياسي واجتماعي وثقافي قلق 1 من 2
1- الإنشاء في صباح يوم الإثنين، في 28 كانون الثاني يناير 1946 الموافق 25 صفر 1365 ه، صدر العدد الأول من صحيفة "الحياة" اليومية، ببيروت. وكان إسم الصحيفة، بالرسم الذي ما زالت تحتفظ به إلى اليوم، يتصدر الصفحة الأولى ويعلوها، ولكنه يميل إلى شطرها الثالث، على يسار الصفحة. أما يمين الصفحة فيعلوه عنوان الباب الافتتاحي الثابت "قل كلمتك وامشِ!". بالأسود، من غير عنوان خاص بالإفتتاحية، على خلاف المقالات الإفتتاحية التالية التي وُسمت كلها بعناوين خاصة. ويذيل الإفتتاحية توقيع "صاحب" الصحيفة "ورئيس تحريرها المسؤول"، كامل مروّة، على حسب تعريف إلى يمين الإسم. وأعلنت "الحياة"، في صدر صفحتها الأولى كذلك، إلى يسار الأسم، ثمناً للعدد الواحد وصفحاته الأربع بلغ 15 قرشاً لبنانياً. ويستوقف من المقالة الإفتتاحية الأولى اعتذار صاحبها، في الفقرة الأخيرة من المقالة، عن إقدامه على زيادة صحيفة جديدة، على "فيض الصحف في هذه الأيام". وما كان غنياً عن الشرح والتفصيل يوم ابتدأ كامل مروّة نشر صحيفته، فصَّله في مقالة كتبها في 18 كانون الثاني 1966 ولم ينشرها محتفلاً، ولو عابراً، بانقضاء عشرين عاماً على ولادة الصحيفة. فذكَّر بأن "الحياة" يوم ولدت ببيروت، غداة نهاية الحرب العالمية الثانية وعشية جلاء القوات الفرنسية عن الأراضي اللبنانية، إنما كانت الصحيفة اليومية السادسة والخمسين، وسبقتها إلى الصدور والنشر خمس وخمسون صحيفة يومية. ويعزو كامل مروّة هذا "الفيض" إلى الرغبة التجارية في "الإفادة من كميات الورق التي كانت السلطات الفرنسية توزعها على الصحف بسعر 7 ليرات للماعون"، على حين كان الماعون هذا "يباع ... في السوق الحرة بأكثر من سبعين ليرة". وعلى رغم هذه الحال رجا الناشر الشاب، وكان في الواحدة والثلاثين، أن "يثبت للقراء أن هذه الجريدة لن تكون عالة جديدة عليهم، بل عوناً لهم على ما يريدون وينشدون". والحق أن رجاءه هذا لم يكن وليد تعويل على ثقة مبالغة في النفس أو على بخس "السواد العربي الأعظم" حظَّه من التقويم والتقدير. فمنشئ الصحيفة الشاب كان يُدِلُّ، وهو في مقتبل العمر، بأربعة عشر عاماً من العمل الصحافي، أولها يعود إلى 1932، وله من العمر سبعة عشر عاماً. فيومها دخل صحيفة "النداء"، لسان "حزب النداء القومي"، حزب رياض الصلح - رئيس الحكومة اللبنانية الإستقلالية الأولى في 1943، وأحد وجوه الحركات الوطنية العربية بين الحربين وغداة الحرب الثانية -، محرراً متدرباً على كاظم الصلح، إبن عم رياض الصلح و"كاتبه" ومصدر بعض أبرز أفكاره السياسية. ودام اختبار "النداء" خمسة أعوام كاملة، تولى الفتى تحرير الصحيفة وكتابتها، والإعتناء بإصدارها، في بعض الأوقات، من غير رقيب ولا مرجع ولا مساعد. وفي 1937، عطلت السلطة الفرنسية المنتدبة الصحيفة الوطنية والإستقلالية. فانتقل مروّة إلى صحيفة "النهار" اليومية، وكان صاحبها جبران تويني، بدعوة من صاحبها. و"غمر" جبران تويني، أحد أعيان أهل بيروت وأحد وجوه مجتمعها الناشئ عن روافد طائفية وثقافية واجتماعية كثيرة، "غمر" الشاب، المسلم الشيعي - القادم من الزرارية، قريته العاملية نسبة إلى جبل عامل، جنوبلبنان، من طريق الدراسة في مدرسة المقاصد الإسلامية الخيرية بصيدا وفي مدرسة "ثمرة الفنون" الإنجيلية الأميركية بصيدا كذلك - "بعاطفة أبوية". ولا ينكر منشئ "الحياة" أن هذه العاطفة "كانت تعوزه" يومذاك - وهو يَكْني بذلك عن خسارته، بالوفاة، والده، المهاجر إلى إفريقيا، وهو في العاشرة من العمر. وحظيت "النهار" إلى حظوتها بإشراف جبران تويني وتوجيهه، بقلم محمد يوسف عواد، القاص والديبلوماسي اللبناني. فكان عواد ناظراً على "تمرس" كامل مروّة "بالمهام الصحافية على أرفع المستويات"، على قول المتمرس غداة ثلاثة عقود على تمرسه. فلما وقعت الحرب، في صيف 1939، آنس الصحافي الشاب في نفسه القدرة على إصدار صحيفة أسبوعية يستقل بها، وقد مرت ثماني سنوات على ابتداء تدربه، وعلى انتهائه من دراسته الثانوية. فأصدر، وهو ما زال يعمل في "النهار" محرراً، "الحرب الجديدة المصورة". والأرجح أن كامل مروّة لم يبالغ في امتداح باكورته الصحافية المستقلة مع أحد أعلام الصحافة الأدبية وصاحب دار المكشوف، فؤاد حبيش، "الشيخ" الماروني، حين كتب في مقالته الإسترجاعية، في 1966، أن دوريته المصورة صادفت "رواجاً عظيماً"، من غير أن يعلل رواجها. وقد يكون السبب في رواجها توسل منشئ "الحياة"، مذ ذاك، بوسائل الإعلام الصحافي المبتكرة والمتجددة، ومنها الصورة. وشهدت السنوات التي توسطت الحربين العالميتين، ولا سيما تلك التي سبقت الحرب الثانية، تطويراً واسعاً لأساليب الدعاوة السياسية. واستفادت الصحافة من المنافسة على التأثير في الرأي العام استعمالاً متعاظماً للصورة الفوتوغرافية. وأُخرج الخبر، وتنضيده الطباعي، على شاكلة البيان الحزبي: فعلاه العنوان المكتوب بأحرف بارزة وناتئة، ولخص العنوانُ الخبر، تلخيصاً قوي العبارة، وكُتبت الأخبار بلغة سهلة المأخذ وقريبة من تناول أفهام الجمهور والعامة. ولم يفتأ منشئ "الحياة"، من بعد، متنبهاً، طوال العقدين اللذين رعى في أثنائهما صحيفته، على كل جديد يطرأ على الصحافة، تحريراً أو طباعة أو إخراجاً. وعركت سنوات الحرب الشاب وخبرته الصحافية. وهو اضطر، في 1941، إلى ترك لبنان "لأسباب سياسية" على قوله في نبذته التأريخية، وهو يعني "تبييت السلطات الفرنسية الشر له" أكرم زعيتر، شأنها مع الذين مالوا، على هذا القدر أو ذاك، إلى دول المحور، المناوئ للقوى المنتدبة على بلدان المشرق والمغرب العربيين. وكان كامل مروّة في عداد هولاء. فسافر في 1941 إلى تركيا، المحايدة والمنتظرة، ثم إلى ألمانيا النازية، ومنها إلى بلغارياالمحتلة عشية دخول الجيش الأحمر، السوفياتي، بوابة البلقان وإجلائه عنها القوات الألمانية. وفي مراحل رحلته التي لم يخترها، كان مشدوداً إلى مراقبة العلاقات الوثيقة والمعقدة بين العمل السياسي والعمل العسكري، من وجه، وبينهما وبين تعليلهما وتسويغهما إذاعة وكتابة وتصويراً، من وجه آخر. وهو حين كتب، في ترجمته لنفسه وصحيفته، يصف حاله إبان عودته من المنفى القسري إلى بلده غداة نهاية الحرب: "وعدت ... وقد عجمت الأهوال التي قاسيت عودي، وزادت مشاهدات الأسفار خبرتي، ووسعت المأساة العالمية أفقي" - إنما يريد أن "الأهوال" و"المشاهدات" وملابسة "المأساة" هي عدة الصحافي اليقظ، ودليله إلى معالجة الحوادث التي تعرض له ولقرائه من غير انفعال ولا تسليم لرأي غالب. فلما أزمع العائد إصدار صحيفته اليومية، وهي السادسة بعد الخمسين على ما مر، استبق طباعة العدد الأول ونشره بحملة إعلانية وترويجية غير مسبوقة ولا معهودة. فطبع، في 25 كانون الثاني يناير، أي قبل ثلاثة أيام من توزيع العدد الأول، إعلاناً عن الصحيفة الوليدة اختصره في صورة يسع من يكاد لا يعرف التهجئة "قراءتها": تصدَّر إسمُ الصحيفة الإعلانَ، وصُوِّرت تحته قبضتا يدين مغلولتين، وطالعتين من لجة معتمة، تكسران القيد، فيخرج من الحلقتين المكسورتين نور أبيض، يشبه بياضه بياض الخط العريض الذي يحوط أحرفَ كلمة "الحياة". واختار المعلن شعاراً مكتوباً: "أقلام نظيفة في أيدٍ نظيفة في خدمة مبادئ نظيفة!". ونثرت الوريقات على المارة من الشرفات والسطوح المطلة على الطرقات والأرصفة، ووقف الأولاد على أبواب صالات السينما والمقاهي والمطاعم في ساحات بيروت الكبيرة وبأيديهم الوريقات الغريبة والباعثة على الفضول. وكانت الحملة من ثمار إلفة كامل مروّة الأساليب الصحافية والسياسية والدعاوية المتجددة بأوروبا. ولكن الإلفة هذه لم تقتصر على الترويج وأساليبه، ولا على الدعاوة وطرائقها. بل إن الصحيفة الجديدة، والمستقرة طوال أربعة أعوام كاملة بحجرة واحدة من حجرات "نهار" جبران تويني، في سوق الطويلة القريب من مرفأ بيروت، مزجت، منذ خطواتها الأولى، تقصي الخبر من مصادر متنوعة وكثيرة - بعضها مكتوب ومأخوذ من الوكالات والصحف الأخرى" وبعضها إذاعي أولاه مروّة عناية خاصة" وبعضها الثالث شفوي كانت تنقله "مكاتب" الصحيفة، ويبرق به "مراسلون" متطوعون من أصدقاء صاحب "الحياة" في المدن العربية ولا سيما الفلسطينية" وبعضها كان يهتف به إليه السياسيون العرب من أصدقائه الكثر - مصادر مزجت التقصي بالتركيب الذي يَجمع شتات الخبر في حبكة وسياق. وأوكل مروّة تحرير الصحيفة إلى خمسة محررين، كان هو سادسهم، أجلسهم على "طاولات من مخلفات أسرته في صيدا"، واشترى طاولة أخرى "من باعة حطام الأثاث في سوق سرسق" القريب من سوق الطويلة، ونقل "الراديو القديم الموجود في بيت الأسرة منذ سنة 1943"" "وما عدا ذلك كان الرياش من الكرتون وصناديق الفاكهة العتيقة"، على ما كتب، في أعقاب العقدين، ساخراً ومترفقاً. وراعى صاحب الصحيفة الجديدة، متعمداً أو غير متعمد، جمع محرريه الشباب، وهو عميدهم سناً إذا استثني قريبه حسين مروّة، من طوائف دينية ومذاهب كثيرة" أو هو لم يراع اعتبار الطوائف في اختيار محرريه، بعبارة أدق. فكان المحررون مسلمين سنّة وشيعة ومسيحيين، على قلة عددهم. 2- منهاج الصحيفة ولم يكن ذلك أمراً ضعيف الشأن في لبنان، وفي بلدان المشرق عموماً، في ذلك الوقت، كان لما يزل عهد هذه البلدان بنظام الملل العثماني قريباً، وكانت خارجة لتوها من إدارة إنتدابية توسلت بكثرة الملل والأعراق إلى تقوية سلطانها. والأغلب على الظن أن كامل مروّة صدر، لما جمع محرريه من غير طائفة وملّة، عن عروبة أولى تحدرت إليه، وإلى بعض مجايليه، من رواد "الفكرة العربية"، على ما سميت، ودعوتهم إلى تقديم معايير اللغة والتاريخ والإرادة والمصلحة القومية على غيرها. وهو هلَّل لمسعى رياض الصلح، اللبناني والإستقلالي الجامع، ولقَبوله، باسم المسلمين العروبيين، الإنفصال عن سورية، وإنشاء دولة قائمة برأسها، لقاء دخول المسيحيين في الدولة المشتركة، وخروجهم من الحماية الفرنسية. فكتب إلى صديقه أكرم زعيتر، الفلسطيني وأحد قادة ثورة 1936 - 1939 الفلسطينية - في كانون الأول ديسمبر 1943، يقول: "ولا ريب أن رياض الصلح أسدى للبلدان العربية خدمة جلى ... فقد استطاع في أقل من شهر أن ينسف بناءً متيناً شيده الفرنسيون في ربع قرن ... وبذلك ربحنا لبنان للوطن العربي ربحاً نهائياً ... ويكفي أن يكون لبنان قد كسب وحدته من وراء هذه الأزمة لتكون الأزمة قد جاءت برداً وسلاماً". وهذا الرأي في حادثة سياسية تاريخية، هي استقلال لبنان وملابساته، قرينة على سعي كامل مروّة، و"الحياة" من بعد، في حمل الصحافة والسياسة على معيار مشترك. وهذا المعيار هو تخليص "أصل الحوادث وفصلها"، وتخليص "الأعماق" و"الحقائق"، من "الأحداث السيارة" والعابرة، ومن "المظهر" المتسلط على فهم "المواطن العربي" بقوة "جاروفة الدعاية والغاية" على ما كتب في 26 تموز / يوليو 1963. وهو، وإن لم يُصغ منهاجه السياسي والصحافي إلا في ذكرى انقضاء عشرين عاماً على طباعة عدد "الحياة" الأول - فأوجزه بتبصير "السواد العربي الأعظم ب الحقائق والتبعات السياسية والإقتصادية والدولية التي جاءت مع الإستقلال" 29 كانون الأول 1966 - كان منهاجه هذا واضحاً منذ أول الطريق. فدعا، في افتتاح العدد الأول، إلى "حركة إصلاحية جريئة" تعالج الشؤون الداخلية "بعقلية الدولة الحديثة" وليس "بعقلية الحكومة"، ونبَّه إلى الحاجة إلى "تعديل جريء عادل في أنظمتنا الإجتماعية والإقتصادية". وحذر من تحكيم "الصداقات الموروثة أو المستحدثة"، و"العواطف"، في السياسة الخارجية، فهذه "لا يمكن أن تقوم على غير المصلحة المتبادلة والفائدة المشتركة"، إذا شاء أهل السياسة الخارجية تجنب "الخَبَل" أو هذا "الضرب" منه. وترتب على الأصل السياسي والصحافي المشترك هذا إيلاءُ كل مصادر الخبر المتوافرة العناية والإهتمام. وترتب عليه كذلك تحري الأخبار عن كل مجالات الحياة الإقتصادية والإجتماعية، على خلاف قصر معظم الصحف عنايتها، يومها، على أخبار الساسة البارزين. فإذا وزع منشور، أو بيان، بالبريد أو بوسائل أخرى، على الناس بيافا أو بالقاهرة، أسرعت "الحياة" إلى نشر نصه. وتعقبت أخبار الأحزاب السياسية، ومنظمات الشباب، والتقلبات الإقتصادية والمالية، والهيئات النقابية، ولم تهمل شؤون الهيئات الدينية، والأجهزة الإدارية والعسكرية، ولا غفلت عن مسائل الإعلام، والإتصالات، والهجرة، والسير، والجريمة، والجماعات الطائفية والقومية، والعمالة اليد العاملة الأجنبية، والرقابة، والتعليم، وغيرها. فتناولتها بالخبر والتعليق، وأذاعت الآراء المتفرقة والمختلفة فيها، وردت على مخالفيها الرأي، ونشرت ردود هولاء عليها إذا اتخذ أصحابها من غير "الحياة" منبراً. وخصت الصحيفة الأخبار العربية والإقليمية التركية والإيرانية والدولية بمحل عريض وبارز. فصرفت صفحتها الأولى، وعناوينها، إلى الأخبار هذه. ووقفت الصفحة الأولى كلها، في أوقات كثيرة، على خبر واحد. ففردت العنوانَ العريض، على خمسة أعمدة من سبعة - على ما كان عليه عدد الأعمدة إلى عام 1954 - الصورُ، وهذه قد يبلغ عددها أربعاً، والخرائطُ، في كل مرة كان الخبر يروي حادثة عسكرية أو يتناول مسرحاً حربياً. وسرعان ما عمدت الصحيفة إلى فصل التعليق والرأي من الخبر. فأُوكل إلى أحد أوائل المحررين، باسيل دقاق، منذ عام الصحيفة الرابع، أي في 1950، كتابة رأي وُسم بعنوان "مع السياسة العالمية". وكان التحرير يذيل مقالة المحرر بعبارة "راجع آخر الأنباء عن الحادثة". وأنشئ باب آخر وسم ب"دنيا العرب" صُرف إلى التعليق على الحوادث العربية، وكان يتداول كتابته محررون وكتّاب من "الحياة" ومن أصدقاء رئيس تحريرها وصاحبها، ويمهرون مقالاتهم بأسمائهم. واستقر باكراً تمييز الخبر، المجتمع من مصادر متفرقة، من التعليق ومن الرأي في الحوادث والمسائل المختلفة. وقد يكون هذا التمييز، المعلن والصريح، أحد الاسباب القوية في بروز "الحياة"، وهي الصحيفة الضئيلة الموارد المالية والمستقلة عن الطوائف والجماعات المذهبية على رغم تشيّع صاحبها وعن كتل المصالح الإجتماعية" وهو، على الأرجح، سبب ثابت وأكيد في تلقي أخبارها بالثقة، واتخاذها، على نحو متعاظم، مصدراً ثقة. وهي جمعت، من هذا الطريق، بين صحيفة الخبر وصحيفة الرأي، من غير أن تخلط بين الصحيفتين أو أن تدلِّس على القارئ وتلبِّس عليه الأمر. فمن قصد من القراء الوقائع وروايتها ذهب إليها حيث هي، وترك التعليق والرأي و"التحليل"، ومن آنس في نفسه إلماماً بالوقائع، وأراد الوقوف على رأي، أو ربما على هوى، وسعه ذلك، ودلته أبواب الصحيفة، ودله إخراجها المرئي، على بغيته. فلما استقر هذا التمييز قسّم كامل مروّة العمل بين محرري الصحيفة. فاختص بعضهم، إلى توليه شطراً من التحرير الكتابي والصياغة، بباب من أبواب الصحيفة، وحقل من حقول أخبارها. فكتب هو، إلى المقالة الإفتتاحية اليومية وبابها "قل كلمتك وامشِ!"، باباً يومياً ثانياً، تحت الباب الأول، هو "عيون وآذان"، تنقل بين الصفحة الأولى وبين الصفحات الداخلية، وصرفه إلى الملاحظات السريعة والدقيقة على تظاهرات الحياة اليومية. وكتب، هو كذلك، مقالاً أسبوعياً مستفيضاً في السياسات الدولية، وقعه، مازحاً، "بقلم المعلق الدولي هانس مولارد"، وجمع مادته من دوريات السياسة الخارجية في بعض اللغات الأجنبية وكان يتقن منها الإنكليزية والألمانية والفرنسية. واستكتب من محرري الصحيفة، حسين مروّة، باباً ثابتاً، "من وحي القافلة". وكان حسين مروّة، قريبه، طالب علوم دين نجفياً سابقاً، ترك علوم الدين، على عتبة الإجتهاد في الفقه الجعفري الإمامي، إلى علمانية مناضلة ولكنها خلو من الحدة والقطع في النظر إلى الدين. ولم يجد رئيس تحرير الصحيفة المعتدلة و"الوسط"، ثم المحمول على موالاة السياسات المحافظة ومناوَءة السياسات الثورية، لم يجد حرجاً في تولية كاتب صريح الإعتقاد الشيوعي، إبان الحرب الباردة، باباً يومياً" ولم يراجع يوماً فيه كاتبَه وصاحبه، على ما روى حسين مروّة غداة ثلاثة عقود على الأمر. وطلب رئيس التحرير، باكراً، إلى بعض "أعيان" الحركة العربية، من مجايلي رياض الصلح وطه الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وجميل مردم بك وسعدالله الجابري، مثل أكرم زعيتر، "الكاتب العربي الكبير" توقيعاً، الكتابة في الحوادث الكبيرة التي كان ذلك الوقت يزخر بها ويضج. ولعل مرد الأمر، أي مرد الطلب الى أصحاب مشارب ومذاهب وأفكار سياسية مختلفة الكتابةَ في الصحيفة الواحدة، إلى الفصل بين صحافة الرأي وصحافة الخبر، وترك التوسل المقنَّع بالخبر الى بث الرأي من طرف خفي، أو يحسب أنه خفي. فإذا استقر الفصل وعُرف، جاز الجمع بين الخبر والوقائع والمصادر المتفرقة وبين الرأي والإعتقاد والإنطباع، من غير حرج. وذهب صاحب "الحياة" هذا المذهب. وزاوج الأمرين، تكثيرَ الأخبار والوقائع والمصادر، من وجه، وتوسيعَ حيز الرأي، من وجه آخر. فأوكل إلى محرر الشؤون العربية والإقليمية والدولية، وكاتب بابيهما "دنيا العرب" و"مع السياسة الدولية"، باسيل دقاق، إنشاء خلية تنصت على الإذاعات العربية والدولية، وضم ما يصلح من مادتها، ولم تكن وكالات الأنباء العالمية والمحلية نقلته، إلى رواية الخبر، ودمجه في سياقة متصلة واحدة. فلما روت "الحياة"، على سبيل التمثيل، الحادثة المصرية المعروفة بحريق القاهرة، في 25 و26 كانون الثاني يناير 1952، انفردت روايتها، بين الصحف اللبنانية، بنشر لائحة العمليات في مصلحة إطفاء القاهرة، عملية تلو الأخرى، وفي أوقاتها بالدقائق، وبحسب مواضعها وجهاتها موضعاً موضعاً" وعرَّفت بالطرقات والساحات والأحياء، وبالمباني والمحال المحروقة، وبأصحابها. وكان هذا شأنها طوال الأشهر التي سبقت الحريق. فلم تهمل حادثة جرت بقناة السويس، مهما كانت ضئيلة ظاهراً: فسردت الوقائع المتعلقة بتوزيع البيانات والمناشير، ووصفت جمع الأموال والتبرعات من الناس على الطريق العام وطرائق هذا الجمع، وأخبرت عن الاشتباكات المتفرقة بالقرب من القناة ومدنها. وعندما قتل الحزب السوري القومي الإجتماعي رياض الصلح، في صيف 1951، بالأردن، وسع قارئ "الحياة" الإلمام المفصَّل والدقيق بالقتلة، وإعدادهم الإغتيال وتمهيد السبل إليه منذ عامين، إلخ. وشق منشئ "الحياة" طريقاً لم تحد عنه بعد مقتله. فهي أخبرت، في أيلول سبتمبر وتشرين الأول أكتوبر 1970، وكان كامل مروّة قتل قبل نيف وأربعة أعوام، عن وقائع الأسابيع الدامية بالأردن على نحوٍ قل مثيله دقةً وتنوعَ مصادر. 3- وجوه تجديد ولم تقتصر عناية كامل مروّة على الكتابة الصحافية، رأياً وخبراً وتحريراً. فلما أذن عام 1954 - وكانت تقضَّت أربعة أعوام على ترك "الحياة" المكتب الذي تكرم جبران تويني به إلى مبنى "دار الحياة"، القريب من السور أو "عالسور" في العامية البيروتيةواللبنانية ثم من ساحة رياض الصلح - عمد مروّة إلى حرف الطباعة العربي، وكانت طباعة الصحف شأن طباعة الكتب تتناوله من "الصندوق" لتنضده وتركبه، فاختصر من جسمه واحداً من عشرة أبعاض أو أجزاء. وطلب إلى محترفَيْن من محترفي الطباعة، هما فايز سلطان ورأفت بحيري، تنفيذ "حرف مروّة" المختصر، وتركيبه على "الأنترتيب". وكان الإختصار الطباعي هذا خطوة أولى، لم تلبث أن تلتها خطوة ثانية - ما كان للطباعة الصحافية أن تخطوها لولا تلك التي سبقتها - هي زيادة عدد الأعمدة في صفحات الصحف من سبع إلى ثمانٍ. فزاد اختصار جسم الحرف جزءاً من عُشرِ المساحةِ المطبوعة عموداً ثامناً. واتسعت الصحف اليومية والأسبوعية، وكلها اقتبس الحرف الجديد وزاد عدد أعمدته، لسيل الأخبار المتعاظم في أواخر النصف الأول من العقد السادس. وكانت مرت ثماني سنوات على ولادة "الحياة"، وأربع على استقلالها ب"دارها"، وتقلص عدد الصحف اليومية الصادرة ببيروت إلى نحو نصف الست وخمسين صحيفة. وفي الأثناء لم ينفك عدد سكان بيروت، والمقيمين بها، يتعاظم" وانقلبت العاصمة اللبنانية، في العقد الذي جاء بعقب استقلال الدولة 1943 - وشهد "نكبة" فلسطين" وتوالي الإنقلابات العسكرية على سورية، وإطاحة حركة "الضباط الأحرار" فاروق والأسرة الخديوية بمصر، واحتدام المنازعات الإقليمية، ونشأة المعسكرات والأحلاف الدولية، وانتشار العمل الحزبي الجماهيري - انقلبت بيروت من مدينة تجارة إلى عقدة طرق ومواصلات، وساحة مالية ومصرفية ومكتبية، واستقرت "بوابة" على غرب جغرافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مختلط. وكانت صحافتها وجهاً بارزاً من وجوه دورها الناشئ، والقائم، أولاً، على تعاظم أعمال التداول والتبادل داخل المجتمعات، وبين المجتمعات. والصحافة، تعريفاً ووظيفة، وليَّةُ التبادل والتداول هذين أو هي من متولِّيه. وأتبع كامل مروّة تجديده الطباعي، وزيادة المساحة المطبوعة، بتلوين العنوان الأحمر بالأحمر، وزيادة عدد صفحات العدد الواحد من أربع إلى ثمان. وبعد أن نقّل طباعة "الحياة" بين مطبعة خير الدين الكعكي، أحد قدامى أهل الطباعة ببيروت، ومطبعة صحيفة "لوريان"، اليومية الفرنسية - وكان جورج نقاش، صاحب "لوريان" ورئيس تحريرها، وأحد ألمع الصحافيين السياسيين، صاحب امتياز صحيفة "الجريدة" اليومية العربية، استقلت "الحياة" بمطبعة حديثة، هايد لبيرغ - غوش، على ما تعرف" وأقامت المطبعة هذه على إخراج طبعة بيروت من "الحياة"، في العقد العاشر، إلى وقت قريب. وكان جلياً من هذا كله، وهو استتبع ضم محررين وكتّاب ومراسلين محليين بلديين، في المحافظات والمدن الكبيرة، إلى مراسل قضائي، وآخر اقتصادي...، من غير إفراط، إلى النواة القليلة والصلبة الأولى - أن صاحب "الحياة" نجح في إرساء صحيفته على أركان دوام واستمرار ثابتة وقوية. وكان واضحاً أنه يسعى سعياً دؤوباً في توفير موارد تمد صحيفته بأسباب الإستقلال المادية والمعنوية عن دواعي الميل والمنفعة والهوى. وحمله سعيه هذا على طرق باب الإعلان، وهو باب يتبع القراء، ومعياره رأي القراء في الصحيفة، إقبالاً أو إعراضاً. فأوكل إلى أحد أوائل أهل الإعلان بلبنان، منير طقشي، في 1956، جمع الإعلانات للصحيفة، والإختصاص بهذا العمل من دون غيره. فكان منير طقشي أول مدير إعلانات في صحيفة لبنانية. وترتب على هذا المرفق المحدث ترسيخ استقلال الصحيفة المالي، في وقت حرج تسلطت فيه الأنظمة السياسية الجديدة، العسكرية والحزبية، على الصحافة، وعلى الإعلام عموماً، ومَوَّلت الصحفَ والإذاعات من المال العام لقاء استتباعها وتسخيرها لأغراضها. فكان عائد "دار الحياة" من إعلاناتها ومبيعها لا يقل عن 98 في المئة من جملة عائداتها. وكان الإعلان على صفحات "الحياة"، وزميلتها ال"ديلي ستار" الإنكليزية، مصدر 80 في المئة من العائدات هذه، في أواخر العقد السابع. أما الموارد التي توصف ب"السياسية" فاقتصرت على أقل القليل، على ما هو جلي. وتحمُّل عائد المبيع والدعاية الشطر الأعظم من التكلفة، ينبغي تناوله وتقويمه في ضوء تعاظم تكلفة الصحيفة، وزيادة حصة المحررين، ومرتباتهم ومصروفات تنقّلهم، من الأكلاف العامة. فغداة اغتيال منشئ "الحياة"، في أيار مايو 1966، كان يعمل في كتابتها وتحريرها ومراسلتها، بلبنان، نحو ثمانين محرراً - وهذا ينزلها منزلة المنشآت "الصناعية" أو "المكتبية" الكبيرة والقليلة. وإلى هؤلاء، تولى المراسلة الخاجية، العربية والإقليمية والدولية، بضعة عشر مراسلاً. فكان كامل مروّة أحد أوائل الصحافيين العرب الذين تنبَّهوا على دور السياسات الإقليمية في صوغ السياسات العربية وتوجيهها. فطلب إلى صحافيين محليين متمرسين، بإسلام آباد وكراتشي باكستان، وبأنقرة واسطنبول تركيا، إلى صحافيين وطنيين يعملون في صحف تونس وعمان والرباط وجدة والرياض وبغداد والقاهرة، طلب إلى هؤلاء موافاة "الحياة"، ببيروت، برسائلهم. وكان المسافرون هم وسيلة المراسلة يومها، وقبل شبكة الهاتف الدولية والإتصال البرقي الباهظ الثمن. وتوّج شبكة المراسلين مراسل "الحياة" من هيئة الأممالمتحدة، بنيويورك. و"أنشئ" هذا المراسل في عام 1960، و"اقتسمته" الصحيفة اللبنانية مع "الأهرام" القاهرية المصرية، بكر الصحف العربية مولداً ونشراً متصلاً. وجزت أسواقُ الصحافة العربية، بالمشرق وشبه الجزيرة، "الحياةَ" على احتراف صحافييها، وكثرة مصادرها، ووضوح سياستها العامة، مبيعاً واسعاً - حيث أتيح لها طرح نسخها. وكانت سوق المملكة العربية السعودية، في 1963، أول هذه الأسواق إقبالاً. وبلغ عدد النسخ التي كانت تشحن يومياً من مطار بيروت، ثمانية آلاف نسخة. يحل العراق بالمرتبة الثانية، وبلغ عدد نسخ "الحياة" إليه سبعة آلاف. وجاء الأردن ثالثاً، وبلغ عدد نسخه ألفين. وكان القراء اللبنانيون يشترون، صبيحة كل يوم، ثمانية آلاف نسخة من "الحياة". والأرجح أن هذه الأرقام كانت تتصدر مبيع معظم الصحف اللبنانية، إذا لم تتصدرها كلها يومذاك. فهيئات مراقبة أرقام النسخ المطبوعة من الصحف - وهي الأرقام الوحيدة التي جرت مراقبتها، واحتسبت المبيعات قياساً عليها وعلى المرتجع من المطبوع - لم تحتكم إليها بعض الصحف اللبنانية إلا مع مطلع العقد الثامن. وأذاعت هذه الهيئات أرقاماً لم تزد كثيراً عن توزيع "الحياة" قبل ثلاثة أرباع العقد. * كاتب لبناني.