Michel Roche. Thژrapie de Choc et Autoritarisme en Russie - La Dژmocratie Confisquژe. المعالجة بالصدمة والاستبداد في روسيا: الديموقراطية المصادرة. L'Harmattan, Paris. 2000. 236 pages. كثيراً ما كان الشعبويون الروس يؤكدون في نهاية القرن التاسع عشر ان لروسيا، بحكم موقعها الجغرافي الفريد، قدراً تاريخياً خاصاً. وقد جاء القرن العشرون ليثبت بالفعل، في بدايته ونهايته معاً، أن لروسيا قدراً يميزها عن سائر أمم أوروبا التي تنتمي اليها بواجهتها الغربية، كما عن سائر أمم آسيا التي تنتمي اليها بواجهتها الشرقية. أين تكمن خصوصية "القدر" الروسي هذه؟ في كون روسيا قدمت في مطلع القرن مثالاً غير مسبوق اليه لأمة كبيرة مصممة على الخروج من مدار النموذج الرأسمالي الكوني. وفي كونها قدمت في نهاية القرن مثالاً، على العكس، لأمة كبيرة متشوقة الى إعادة الدخول في مدار النظام الرأسمالي العالمي. فثورة اكتوبر 1917 كانت سعت، من خلال تأميم وسائل الانتاج واحتكار الدولة للتجارة الخارجية وإحلال الاقتصاد المخطط محل اقتصاد السوق، الى إرساء الأسس الاقتصادية لمجتمع اشتراكي جديد وغير مسبوق اليه في التاريخ. ولكن بعد سبعين سنة من ثورة اكتوبر، وبعد آلام وتضحيات تندّ عن الوصف تحمّلها الشعب الروسي طيلة التجربة الاشتراكية، لا سيما في الحقبة الستالينية منها، وجد المجتمع الروسي نفسه، منذ أواسط الثمانينات، في مأزق مسدود: فالاقتصاد المخطط يواجه مشكلات بنيوية لا علاج لها: هدر للموارد المادية والبشرية، تلويث مريع للبيئة، انخفاض في انتاجية العمل، تدهور في نوعية الانتاج، فاقة في السلع الاستهلاكية، تدنٍ في مستوى حياة السكان. وعلاوة على هذا الفشل في "المنافسة السلمية" مع النظام الرأسمالي العالمي، وجدت روسيا الاشتراكية نفسها على وشك خسارة "سباق التسلح" بعد ان ناءت بتكاليفه الباهظة وعجزت عن مجاراة الغرب في تفوقه التكنولوجي الساحق، وعلى الأخص منذ أن طور الأميركيون "المبادرة الاستراتيجية لحرب النجوم". وإذ أدركت نخبة البيروقراطية الروسية - وتحديداً المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي - طبيعة الخطر المميت الذي يتهدد أسس سيطرتها بالذات، استنتجت ان الاصلاح الجذري للنظام الاشتراكي غدا ضرورة لا مناص منها، ووجدت في شخص ميخائيل غورباتشوف - الذي سمّته أميناً عاماً للحزب - من يمكن أن يترجم ضرورة الاصلاح الى واقع. وهكذا رأت النور، ابتداء من 1985، تلك الظاهر الفريدة في تاريخ الاشتراكية الروسية: البريسترويكا، أي حرفياً "الاصلاح وإعادة البناء". والمفارقة - وهي كبيرة ههنا - ان البريسترويكا، بدلاً من ان تتأدى، كما كان منتظراً منها، الى شفاء النظام السوفياتي المريض، أجهزت عليه. فبغض النظر عن النيّات الذاتية لغورباتشوف شخصياً، فقد تكشّف الترياق عن أنه سُمّ. أهي سُمّية البريسترويكا بحد ذاتها، أم ان مرض النظام السوفياتي كان بالأحرى من طبيعة سرطانية: فكلما استؤصلت أورام سطحية منه تكشفت عن وجود أورام أعمق وأخبث؟ أياً ما يكن من أمر، فإن البريسترويكا، كتدخل جراحي، كانت محكومة بقانون التجذّر. فالطبيب المداوي الذي هو غورباتشوف وجد نفسه مضطراً الى أن يشحذ "مبضعه" أكثر فأكثر، والى ان يُعمله أعمق فأعمق في الجسم السوفياتي المريض. وهكذا تنقسم الفترة، التي مارس تدخله فيها، الى ثلاثة أطوار: ففي طور أول، بين 1985 و1986، حرصت القيادة الغورباتشوفية، في محاولتها العلاجية، على ألا تتعدى حدود الاصلاح "التقليدي"، أي كما يقول غورباتشوف نفسه في مذكراته: إجبار مضخة النظام على معاودة الاشتغال بأقصى طاقتها من جديد، من دون تغيير في مبدأ اشتغالها بالذات: الاقتصاد المخطط. وفي طور ثانٍ، بين 1987 و1989، انصب مجهود القيادة الغورباتشوفية على اعتماد آلية جديدة لاشتغال النظام سميت في حينه "اشتراكية السوق". فمن دون التخلي عن مبدأ التخطيط على المستوى الاقتصادي الأكبر، أطلِقت الحرية لمشاريع القطاع العام لتتصرف على النحو الذي تراه مجزياً في ما يتعلق بسياسة الأسعار وتصريف الانتاج. وقد كان المقصود من هذه الخطوة "تعويم" المشاريع المؤممة الخاسرة لتغدو قادرة على تمويل ذاتها بذاتها بدلاً من الاعتماد على موارد الدولة. وفي طور ثالث، بين 1989 و1991، اكتشف فريق "التدخل السريع" الغورباتشوفي ان الداء ليس اقتصادياً خالصاً، بل هو أيضاً، وفي المقام الأول، سياسي. ففي 26 آذار مارس 1989 نظمت أول انتخابات تعددية في تاريخ الاتحاد السوفياتي. وقد مني مرشحو الحزب في هذه الانتخابات بهزيمة منكرة، لأن مئة وعشرة من أعضاء اللجنة المركزية ممن رشحوا أنفسهم لم ينتخبوا، مما اضطرهم لأن يقدموا استقالاتهم من مناصبهم القيادية في الحزب وفي الهرم الاداري معاً. وفي 1990 صدر مرسوم يقضي بإلغاء احتكار الحزب الشيوعي للحياة السياسية وبإقرار مبدأ التعددية الحزبية. ولكن جميع هذه "الضربات الجراحية" لم تجد فتيلاً: فالانكماش الاقتصادي تعاظم ولم يتقلص، ومعدلات الانتاج سجلت المزيد من التراجع، والروبل تابع انهياره، وتوقف العديد من مشاريع القطاع العام عن دفع الاجور للعمال. وفضلاً عن ذلك برزت العلائم الأولى لتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه من جراء اطلاق الحرية للقوى السياسية والقومية المقموعة من قبل. ومن ثم فرضت فكرة "المعالجة بالصدمة" نفسها. وقد كانت بالفعل "صادمة" الى حد أنها اقتضت الاستغناء عن خدمات "الجرّاح" نفسه، وأتاحت المجال لفريق بوريس يلتسن ليحل محل فريق غورباتشوف ابتداء من آب أغسطس 1991. وبالفعل، كان الخبراء الاقتصاديون العاملون مع الفريق الغورباتشوفي، وعلى رأسهم الاقتصاديان شاتالين وإيافلنسكي، قد صاغوا منذ 1990 برنامجاً للاصلاح الاقتصادي البنيوي عرف في حينه باسم "برنامج ال500 يوم". وقد تضمن هذا البرنامج بنوداً رئيسية ثلاثة: الخصخصة وتحرير الأسعار والانفتاح على الاقتصاد العالمي. وجميع هذه البنود كانت تقتضي عملياً الغاء الملكية الاشتراكية والتحول النهائي نحو "اقتصاد السوق"، وهو الاسم الخجول الذي كان يطلق في حينه على نظام الاقتصاد الرأسمالي المحض. ولم يكن هذا البرنامج يعني أقل من دفن "الغورباتشوفية" من حيث هي محاولة لاصلاح النظام الاشتراكي من داخله. ولهذا، وفي الوقت الذي رفضه غورباتشوف، وجد من يتبنّاه في صفوف "الليبراليين الجدد"، وعلى رأسهم يلتسن ووزير اقتصاده القادم إيغور غايدار الذي سارع يعلن ان روسيا قادرة في 500 يوم على أن تنجز تحولها التام من الاقتصاد المخطط الى اقتصاد السوق، الذي أثبت فعاليته في كل مكان "متحضر" من العالم، وذلك بشرط واحد هو الغاء جميع أشكال الرقابة على الحياة الاقتصادية. "المعالجة بالصدمة" ما كانت تعني شيئاً آخر سوى إعادة إحياء النظام الرأسمالي. والحال ان إعادة إحياء من هذا القبيل ما كان لها أن تتم إلا عن طريق ارادوي عسفي و"فوقي"، نظراً الى أن سبعين سنة من التطبيق الاشتراكي في روسيا كانت قد ألغت من الجذور جميع مقومات الرأسمالية في الدولة والمجتمع معاً. والمفارقة انه في الوقت الذي اقتضت إعادة الإحياء الرأسمالي حدوث "ثورة قصر" لإبدال طاقم حاكم بآخر وهذا ما يفسر السهولة النسبية التي انتصر بها يلتسن على غورباتشوف، فقد وضعت القيادة الجديدة أمام إشكالية قديمة: فكما كان على لينين، في زمن الثورة البلشفية، ان يخلق قوى اجتماعية للاشتراكية من العدم نظراً الى النقص السابق في تطور روسيا الرأسمالي، كذلك كان على يلتسن أن يخلق القوى الاجتماعية للرأسمالية من العدم نظراً الى الملاء السابق للنظام الاشتراكي. وفي الحالتين كلتيهما لم يكن التحول الانقلابي في نظام المجتمع نتيجة تطور عضوي لهذا المجتمع، بل نتيجة استزراع. وكما الحال في كل استزراع مصطنع، كان لا بد من "قبضة حديدية" لتتولى تصميمه وتنفيذه. ومنطق القبضة الحديدية هذا هو الذي حتّم أن يكون وريث لينين هو ستالين، كما أن يكون وريث غورباتشوف هو يلتسن. فالثورة البلشفية التي أرادت نفسها ديموقراطية عمالية /فلاحية، انتهت الى التوتاليتارية الستالينية. والبريسترويكا الغورباتشوفية، التي أرادت نفسها اصلاحاً ديموقراطياً للنظام الاشتراكي، انتهت الى الاستبداد اليلتسني. ففي كل مرة يفتقر فيها النظام المطلوب استزراعه الى طبقة اجتماعية تقوم له مقام القاعدة المكينة، فإن ارادة الاستزراع الفوقية لا بد أن تأخذ شكلاً سلطوياً "يعقوبياً". وعلى هذا النحو نستطيع أن نفهم لماذا بقيت ليبرالية يلتسن المتطرفة في المجال الاقتصادي بلا بطانة ديموقراطية في المجال السياسي. فالطلاق بين الليبرالية والديموقراطية محتوم حيثما تغيب الركيزة الاجتماعية والقاعدة الشعبية الحاضنة للنظام الجديد. ومن هنا يغدو مفهوماً العنوان الفرعي لهذا الكتاب الذي حرره جامعي كندي كيبيكي متخصص في السياسة السوفياتية وما بعد السوفياتية: فيلتسن، بدلاً من ان يلبي الطلب الديموقراطي الذي أوصله الى سدة السلطة صادره. وهذه المصادرة للديموقراطية أخذت شكلاً قمعياً سافراً عندما أصدر في 21 أيلول سبتمبر 1993 مرسوماً بحل مجلس نواب الشعب قبل أن يأمر، بعد اسبوعين، بقصف مقر البرلمان بمدفعية الدبابات، مما أوقع في صفوف النواب وأنصارهم المحاصرين 142 قتيلاً بحسب المعطيات الرسمية، وأكثر من 400 قتيل بحسب مصادر المعارضة. هل معنى ذلك ان يلتسن كان آخر قياصرة روسيا الاوتوقراطيين كما وصفته أوساط هذه المعارضة؟ الواقع ان يلتسن لم يكن إلا نتاجاً هجيناً لمرحلة هجينة في تاريخ روسيا: فعندما تتولى مهمة التحويل الرأسمالي نخبة بيروقراطية، وليس طبقة بورجوازية منبثقة عضوياً من قلب المجتمع المدني، فلا مناص من أن تفرز المرحلة الانتقالية قائداً مثل يلتسن هو أقل من حاكم دكتاتوري وأكثر من رئيس دولة في جمهورية رئاسية.