"عهد بوريس يلتسن انتهى، لكن الخطر يكمن في ان العهد الجديد لم يبدأ بعد". هكذا لخص الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الوضع الراهن في روسيا، وذلك في اطار مناقشة مستفيضة جرت حول "طاولة مستديرة" وعقدت في مؤسسة غورباتشوف ودعيت اليها "الحياة". وفي محاولة لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل تحدث المشاركون في الندوة الذين ينتمون الى اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة عن الخيارات التي كانت مطروحة أمام الاتحاد السوفياتي. وذكر صانع البيريسترويكا ان مشروعه للتغيير كان يهدف الى الجمع بين القيم الاشتراكية والليبرالية لصنع محصلة تتماشى مع تجربة روسيا التاريخية وطبيعتها. وذكر ان المشروع البديل الذي قاده الاصلاحيون الراديكاليون بزعامة يغور غايدار كان "بلشفية مقلوبة" ومحاولة لمحاكاة المحاولات الستالينية لفرض الشيوعية، ولكن تحت براقع رأسمالية هذه المرة. ودافع نائب غايدار الاقتصادي اليكسي اوليوكايف عن تجربة السنوات الماضية مؤكداً ان الاصلاحيين "لم تتح لهم الفرصة الكافية" وان الاصلاحات كان ينبغي ان تجري بوتائر اسرع وراديكالية أكبر. وذكر ان هذا هو السبيل الوحيد للانتقال الى "العالم الأول" أي الرأسمالية من دون الإنحدار الى مستوى العالم الثالث أو المراوحة ضمن العالم الثاني. وتعرض اوليوكايف الى هجوم عنيف من غالبية المتحدثين ومن أبرزهم العالم ديمتري لفوف حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي ذكر انه وسبعة من زملائه الاجانب حملة الجائزة العالمية نبهوا منذ سبع سنوات الى المآل الخطير الذي ستنتهي اليه الاصلاحات العشوائية. وذكر ان في روسيا الآن 1.5 - 3 في المئة من السكان يملكون 60 - 65 في المئة من ثروات البلد، وان هناك 90 بليون دولار "ضاعت" خلال السنوات الأخيرة ولم ترصد الحكومات "الليبرالية" مصيرها في حين ان الليبراليين المسؤولين عن الكارثة يحاولون اليوم ان يضعوا الأوزار كلها على عاتق يفغيني بريماكوف قبل ان تمر 100 يوم على توليه رئاسة الوزارة. وأشار لفوف الى مفارقة غريبة، قال ان الليبراليين لم يلتفتوا اليها. ومفادها ان الاقتصاد السوفياتي كان خلافاً لسواه من الاقتصادات العالمية يعمل وفق مبدأ "القيمة الناقصة" وليس "القيمة الزائدة". وأوضح ان عوائد بيع الخامات كانت تسد الفرق بين سعر البضاعة وكلفتها الفعلية. لذلك فإن اطلاق الأسعار من دون الالتفات الى هذه الحقيقة أدى الى "قتل" الانتاج. وسخر من الحديث عن اقامة "رأسمالية متطورة" في روسيا، مشيراً الى ان أوروبا الغربية تستخدم ما معدله 6 - 8 أطنان من الوقود للفرد الواحد للحفاظ على مستوى الحياة فيها، ولمجاراتها ينبغي لروسيا ان تنفق 18 طناً للفرد الواحد. والغريب ان هذا الموقف من "الإصلاحات" الليبرالية وجد تأييداً من المشارك الاميركي في الطاولة المستديرة مارشال غولدمان الاستاذ في جامعة هارفرد الذي قال ان "الاصلاحات يصعب تصحيحها والأفضل لروسيا ان تبدأ من الصفر". ويذكر ان الخبراء الاميركيين الذين عملوا مستشارين لدى غايدار هم الذين نصحوه باتباع النهج "المونيتاري" الذي أدى الى الكارثة. وذكر غولدمان ان "الثراء المفرط لروسيا كان لعنة وليس بركة" لأنه أخمد الرغبة في العمل، ومن جهة أخرى صار إغواء للمشاركين في عملية الخصخصة لنهب الثروات. واختلف المتحدثون في تحديد طبيعة النظام الذي اقيم اثر انهيار الشيوعية وتفكيك الاتحاد السوفياتي. وذكر غيورغي شاهنزاروف احد أقرب مساعدي غورباتشوف سابقاً ان كلمة "البونابرتية" هي أفضل تعريف لنظام أقامه بوريس يلتسن وأساسه "الحكم الفردي القائم على توازن بين الشرائح الاجتماعية". ورفض بشدة ان يوصف النظام بأنه ديموقراطي مشيراً الى ان الديموقراطية تعني "قيام مؤسسات تمنع الطغيان". واعترف البروفيسور أوليوكايف بأن الحكم في روسيا طوال الفترة الماضية كان "محاكاة للديموقراطية" فقط لكنه اعترض على وصفه بالبونابرتية "لأنها تحتاج الى بونابرت ويلتسن ليس كذلك، فقد اعتاد ان ينام طويلاً، فيما يستغرق اليوم في سبات". واتفق المتحدثون على ان يلتسن يبقى "بؤرة توتر" على رغم مرضه الحالي اذ ان الدستور يمنحه حق اقالة الحكومة من دون توضيح الأسباب، واذا ما نصح بالإقدام على مثل هذه الخطوة فإن ذلك سيفجر الوضع في روسيا. وأشار غورباتشوف الى ان هذه الحالة الاستثنائية "تقيد حركة" يفغيني بريماكوف. وثمة ما يشبه الاجماع على ان بريماكوف "يعمل على وقف التآكل" كما ذكر استاذ العلوم السياسية البلغاري زخاري زخارييف، لكن المشاركين في الندوة حذروا من تصاعد الهجوم على حكومته من وسائل الاعلام ووصفوا برامج التلفزيون بأنها "ارهاب اعلامي". وأورد الاكاديمي شاهنزاروف مقولة لفيكتور هيغو مفادها ان هناك حريتين اساسيتين هما الاقتراع والكلمة وان احداهما حينما تقمع تشرع الأخرى في الدفاع عنها. ولكن الو ضع في روسيا جعل الحريتين متناقضتين. اذ ان البرلمان الذي يجسد الأولى يمثل الآن مصالح "المتضررين" من الاصلاحات، فيما يمثل الاعلام الجانب المنتفع منها سواء من الاصلاحيين الراديكاليين أو أصحاب الاحوال. لذلك فإن هناك "حرباً ضروساً" بين الهيئة الاشتراعية والاعلام الذي لا يعبر عن رأي الشعب ولا يدافع عن حقوقه. إلا ان الخطر الأكبر الذي يتهدد الوضع الحالي يتمثل، على حد قول مدير معهد الكومنولث قسطنطين زاتوليت في الاشخاص المحيطين بيلتسن والذين كانوا "رموزاً ونجوماً" الا انها لا ترغب في الانسحاب. ودعا بريماكوف الى الانضمام علناً الى الاصوات المطالبة باستقالة الرئيس طوعاً وإجراء انتخابات مبكرة. لكنه ذكر ان رئيس الحكومة لن يقدم على مثل هذه الخطوة الا اذا كان واثقاً ان "حظوظه في كسب المعركة عالية". وطرح مدير معهد الدراسات الأوروبية والدولية في لوكسمبورغ أرمان كليس اسئلة عن طبيعة النظام الذي يطمح بريماكوف والقوى الأخرى اليه، وما اذا كان "رأسمالية بتوجه اجتماعي أم اشتراكية بعلاقات سوق". وسأل عما اذا كان هناك مشروع تنموي يحظى بتأييد الغالبية، وهل انه سيجعل روسيا لاعباً أساسياً على الساحة الدولية. والتالي من هم حلفاء روسيا مستقبلاً. وظلت هذه الأسئلة من دون إجابة عملياً اذ ان المشاركين الروس في الندوة انحصرت همومهم في قراءة الخريطة السياسية الآنية. إلا ان البروفسور اناتولي اوتكين استشهد بمقولة للقيصر الكسندر الثالث الذي سئل عن اصدقاء روسيا فقال: "لروسيا صديقان: الجيش والاسطول". وأضاف ان الامبراطورية، القيصرية ثم السوفياتية، انتهت والناتج الوطني الاجمالي لروسيا اليوم لا يزيد على 6 في المئة عما في الولاياتالمتحدة، لذلك "ينبغي الاعتراف بأننا بلد متوسط الحجم ترتيبه بين العشرة الثالثة من دول العالم"