تعاملت السلطات الليبية بتكتم وتعتيم شديدين مع احداث دامية وقعت في مدينة الزاوية التي تبعد نحو 30 كيلومتراً جنوب العاصمة طرابلس، في اتجاه تونس. وفي محاولة للتقليل من شأن تلك الاحداث، اكتفى المتحدث الرسمي باسم الخارجية الليبية بالقول ان منطلقاتها كانت "أخلاقية اجتماعية" وأوحى بأن أطرافها افارقة، وتحديداً سودانيون وتشاديون. وشدد على عدم مشاركة مواطنين ليبيين فيها... فهل هذه هي الحقيقة، أم أن وراء الاكمة ما وراءها؟ أول ما تناقلت وسائل الاعلام انباء الصدامات الدامية في مدينة الزاوية المشهورة بمصفاة البترول وبشعلتها المحترقة في سمائها، قيل إن سودانيين وتشاديين تشاجروا، وان الدماء سالت والصدامات استمرت ساعات، من دون ان تتدخل قوات الامن، وقيل ايضاً إن عشرات الضحايا ومئات الجرحى سقطوا، بل وورد في الانباء ان السفير التشادي والقنصل السوداني اللذين هرعا الى مكان الحادث احرقت سيارتاهما، وتعرضا للاعتداء. وهنا سأل مراقبون: كيف يحرق مواطنون سيارات تخص سفراء دولهم؟ وقاد ذلك الى الشك في ان المواطنين ليبيون متورطون في تلك الصدامات، والى التشكيك كذلك في ارقام القتلى والجرحى. ففي حين زعمت مصادر ليبية ان عدد القتلى لا يتجاوز العشرين، قال شهود من الذين عادوا الى بلادهم في السودان وتشاد ومالي والنيجروغاناونيجيريا، ان عددهم يفوق المئتين، بينهم من ذُبح كالشاة. وروى احد العائدين - الذين خلفوا امتعتهم وممتلكاتهم وراءهم - انه شهد ليبيين وهم يدقون المسامير في رؤوس بعض الافارقة، فقرر الفرار والنجاة بجلده... "فلا شيء بعد الآن يدعو اي افريقي الى الاطمئنان الى نفسه او اسرته او ماله او ممتلكاته، في ذلك البلد" على حد قوله. وقال مواطن غاني: "توهمنا مخطئين ان ليبيا هي الفردوس، وصدقنا اطروحات الزعيم الليبي ان الحدود الجغرافية بين الدول وهمية". كان الامر اللافت ان وزير خارجية تشاد قصد الى الجماهيرية للوقوف على ابعاد المشكلة، وكذلك فعل رئيس وزراء النيجر، في حين بعث السودان وزير شؤون الرئاسة على رأس وفد رسمي الى طرابلس... وكل هؤلاء - على ما يبدو - اختاروا القنوات الديبلوماسية، لكن ما من احد منهم "فتح الله عليه" بتعليق او توضيح. الا ان موجات بشرية من مواطني بلدانهم تقاطرت براً وبحراً وجواً في رحلة العودة الاضطرارية ، وربما الوحيد الذي عبر عن استيائه وتجاهل القناة الديبلوماسية هو رئيس غانا جيري رولنغز الذي ركب طائرة الى طرابلس نقل فيها مواطنيه، الامر الذي أزعج الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، خصوصاً ان رولنغز لم يحفل حتى بمناقشة الامر معه او مع غيره، ما اضطره الى كسر صمته في محاولة لتهدئة خواطر رفاقه القادة الافارقة. وهذه محاولة تأخرت كثيراً وجاءت في الساعة الخامسة والعشرين، فما معنى تعويض الافارقة العائدين بعشرين مليون دولار؟! المرارة التي يتحدث بها الغانيون تنطوي على تباعد قد يصل الى حد الطلاق البائن. فقد صرح احدهم وفقاً لفضائية عربية، أن شعب القذافي لا يتورع عن وصفهم ب"العبيد" وفي وجههم، وأنهم تعلموا معنى ان تكون مواطناً من الدرجة الثانية! والذين كانوا في الجماهيرية أخيراً لحظوا تزايداً ملحوظاً في عدد الافارقة هناك. وبحسب احصاءات تقديرية هناك اكثر من مليوني افريقي في الجماهيرية، معظمهم من غاناوالنيجروتشاد ومالي والسودان ونيجيريا، وتعج ساحات العاصمة طرابلس وميادينها العامة بأفواج من الافارقة الباحثين عن رزق. وباب الرزق مفتاحه غسل السيارات، وهو عمل هامشي في مقابل دينار ليبي واحد للسيارة... ويلاحظ ايضاً ان الافارقة ولدوا حالاً امنية، فبدأ بعضهم بخطف الناس، من امام المصارف، وقيل ان الوافدين من نيجيريا بالتحديد، يتخذون من الجماهيرية مجرد معبر لمحطاتهم المقبلة. ويشكو الليبيون من ان ثمة افارقة جلبوا معهم ممارسات لم تكن معروفة في بلدهم، مثل تعاطي المخدرات، والمتاجرة بها عبر الحدود. ولا يمكن، بالطبع، تجاهل التغيير المحتمل في التركيبة الاجتماعية في المجتمع الليبي التقليدي المحافظ، بمعنى ان حضوراً افريقياً بهذا العدد، يستحيل ان يخلو من ممارسات اخلاقية واجتماعية ومراقبتها او تطويقها، لان الجماهيرية الليبية، على رغم عدم وجود مرئي او علني لاجهزتها الامنية والاستخبارية والرقابية، تظهر هذه الاجهزة في حال وقوع اي خلل او خطأ، بوجوه واشكال متعددة وفي الوقت المناسب تماماً. لذلك فان احداث الزاوية تعتبر استثناءً، لانها وقعت واستمرت طويلاً قبل ان تظهر اي جهة امنية، وهو امر اثار الكثير من علامات الاستفهام، والكثير من التساؤلات التي لم تجد إجابة شافية على اي مستوى رسمي... والامر الوحيد المؤكد ان اعداداً هائلة من الافارقة قفلت عائدة الى الديار والاهل، بعدما خاب املها بالاخاء واهتزت اقتناعاتها في الاتحاد الافريقي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والمسافات والامكنة، كما بُشِّرت. وتزامن ذلك مع قرارات اتخذها مؤتمر الشعب العام في الجماهيرية اخيراً، المفاجئ فيها الغاء امانة الثقافة والاعلام والسياحة، وتفريغ قائد "ثورة الفاتح من سبتمبر" العقيد القذافي لشأن الاتحاد الافريقي. وفسر بعض الديبلوماسيين في المنطقة ذلك بأنه تمكين لعلي عبدالسلام التريكي امين الوحدة الافريقية سياسياً واعلامياً، الا ان العارفين ببواطن الامور في الجماهيرية يتخوفون من عودة الامور في "الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى" الى المربع الاول في التعاطي والتعامل السياسي مع الدول الافريقية خصوصاً، وفقاً للنهج "التريكوي" الذي وان نجح في الستينات والسبعينات في عهد الحرب الباردة، يشك في نجاحه في الالفية الثالثة. فلكل مرحلة رجالها، وعلي التريكي الذي مارس في الالفية الثانية الابتزاز ثم سياسة الجزرة والعصا، لا مكان له الآن - وان أراد القذافي - والدليل ان الشعب الليبي بادر بمقاومة مشروع الاتحاد الافريقي وأسس امانة الوحدة الافريقية، كرأس حربة في السياسة الخارجية الليبية، بلجوئه الى طرد الافارقة من اراضيه، كبداية تشبه الانتفاضة. والاكيد ان تداعيات احداث الزاوية المؤلمة والدامية ستخلف ظلالاً سلبية على مسار العقيد القذافي المتسارع في اتجاه الاتحاد الافريقي، او على اقل تقدير، تعطيله، خصوصاً ان مؤتمر قمة افريقياً استثنائياً يتم الاعداد له في مدينة سرت الليبية في مطلع العام 2001 لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في قمة سرت غير العادية في 9/9/1999. انها نُذر السقوط في امتحان الاتحاد الافريقي، ولا مفر من تجاوزه الا بإلغاء مدينة الزاوية نهائياً من الخارطة. فما دامت هذه المدينة باقية، فإن فكرة الاتحاد الافريقي وما اليه وما بعده سترتبط بأحداثها وبالدماء الافريقية التي سالت فوق أرضها. وأخطر ما يردده الافارقة الآن سؤالهم عن الفرق بين الدم المسال في الاقصى وفي الزاوية... وذلك ابشع ما يتهدد مبادرة الاتحاد الافريقي الليبي المنشأ!!