يعود تاريخ هذه الأوراق إلى 34 سنة انقضت. تحديداً إلى اليوم السابع من حزيران (يونيو) 1979. صباح ذلك اليوم تلقيت اتصالاً من المدير العام لرئاسة الجمهورية المرحوم السفير خليل حداد الذي قال لي: فخامة الرئيس يريد أن يراك الساعة العاشرة في القصر. لم تكن الأوضاع آمنة في مطلع صيف لبنان ذلك العام. بصوت غلبت عليه البحّة رحّب بي الرئيس الياس سركيس ودعاني إلى الجلوس. وهو جلس وشبك ذراعيه على مكتبه، وراح يتطلّع صامتاً إلى الجدار المقابل. كان يبدو عليه التعب، والحزن، والقلق، لكنه كان هادئاً وهو يتلمظ. ثم انحنى قليلاً على المكتب وراح يتكلم: «أردت أن أراك لأقول لك ما ليس للنشر، إنما لأوضح لك بعض الأمور، للعلم، والاطلاع. وتابع: «حالتي النفسية صعبة. لا يشعر بها أحد إلا أنا، ولا أحد يستطيع أن يقدّر الألم الذي أتحمّله من جرّاء رؤية لبنان بهذا الوضع... «منذ أن تسلّمت الرئاسة (23 أيلول/سبتمبر 1976) قلت للأصدقاء المقرّبين: أرجو أن أتمكن من إعادة تسليم لبنان كما هو. فهذا سيكون إنجازاً كبيراً. «لقد راهنت منذ البداية على المواطن اللبناني غير الملتزم بهذا الفريق أو ذاك. ولم أقع تحت ضغط أو إرهاب أي فريق. كنت، ولا أزال، واثقاً بالجيش. الجيش المتماسك هو الذي يستطيع أن يخلق لحمة تماسك بين اللبنانيين، ويكون أداة لإعادة بناء الدولة والمؤسسات. «من الصعب تأمين الوفاق نظراً لتباين الآراء. فالجبهة اللبنانية لا تريد العودة إلى ميثاق 1943 بأي شكل. والحركة الوطنية ترفض اللامركزية الإدارية الموسعة. «مشاريع الإصلاح السياسي لا يمكن التقدم بها إلى المجلس النيابي، لأن وجهات النظر حولها مختلفة بيني وبين الدكتور سليم الحص (رئيس الحكومة)، فهو لا يستطيع أن يوقّع على أي مشروع مرسوم لا توافق عليه الأحزاب. «لا أزال أراهن على مستقبل تكون واجهة الحكم فيه لشباب من نوع وليد جنبلاط، وأمين الجميل. وليد جنبلاط واقعي، ويعرف طبيعة الشعب اللبناني، خصوصاً في جبل لبنان، حيث تتعايش جميع الطوائف، ويجب أن تستمرّ في هذا التعايش». كانت البحّة تطغى بين وقت وآخر على صوت الرئيس سركيس فيجالد ويكمل: «سوف أدعو إلى مؤتمر قمّة عربي لطرح مشكلة لبنان كما هي الحال، وسوف أطلب من الرؤساء والملوك المساعدة. وقد هيأت نصّ الدعوة، وهو جاهز، وكذلك لائحة المطالب التي سنتقدم بها». كانت ورقة المطالب تتضمن رصد وتقديم الاعتمادات اللازمة لتعمير المناطق اللبنانية الهادئة، وتأجيل البدء بتعمير المناطق الساخنة التي تتعرّض للأحداث إلى وقت آخر. وكان سركيس يرى أن تعمير المناطق التي تنعم بالهدوء من شأنه أن ينشر عدوى السلام والاستقرار في المناطق الأخرى «إذ ليس من الإنصاف أن تبقى المناطق البعيدة عن أجواء الحرب محرومة من النهوض بانتظار أن يعمّ السلام الشامل الكامل». وكشف لي الرئيس سركيس أنه كان قد استقبل في وقت سابق سفير دولة عربية خليجية، وإن ذلك السفير اقترح عليه (بشكل شخصي) أن يقدم على مغامرة إنقاذية، ولكنها خطرة، وغير مضمونة العواقب. كانت الفكرة أن يغادر الرئيس قصر بعبدا سرّاً إلى باريس، ومن هناك يعلن أن بلاده محتلة (من سورية) ويقود حملة سياسية عالمية، ولا يعود إلى لبنان إلا بعد أن يتمّ التحرير ويعمّ السلام، فهذا ما فعله الجنرال شارل ديغول عندما وقعت باريس تحت الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية. حينها غادر ديغول إلى لندن حيث قاد حملة تحرير فرنسا، ولم يعد إلى باريس إلا بعد تحقيق النصر الذي أحرزته الأساطيل الأميركية التي نزلت على شواطئ «النورماندي» الفرنسية. ثم توقف الرئيس سركيس ليفتح ملفاً كان يضعه أمامه، ولا شيء سواه، فأخرج منه رسالة متوجة برمز رئاسة الولاياتالمتحدة الأميركية. كانت رسالة جوابية من الرئيس جيمي كارتر ردّاً على رسالة بعثها إليه سركيس وعرض فيها أوضاع لبنان، طالباً مواقف تقتضيها مواثيق الأممالمتحدة لمساعدة الدول الصغيرة على حماية استقلالها. وكان المطلوب أن تؤكد واشنطن عملياً أنها حريصة على استقلال لبنان وسيادته بما لها من نفوذ عالمي... راح الرئيس سركيس يراجع نص رسالة كارتر الجوابية وهو يهزّ رأسه استخفافاً، ثم علّق: كلام بكلام... وأردف آسفاً: أميركا كانت مع دخول القوات السورية الى لبنان، وبالاتفاق مع إسرائيل، لضرب المنظمات الفلسطينية. وكان على اللبنانيين أن يقدموا الأرض، ويضحوا بالسيادة والاستقلال، وأن يدمروا مدنهم، واقتصادهم، وأن يخسروا مواسمهم من السياحة، والفنون، والثقافة، وفوق كل ذلك شبابهم ومستقبلهم... بألم شديد كان الياس سركيس يتكلم. ثم علّق: ليس هذا ما أعرفه أنا فقط. كلّهم، لبنانيين، وعرباً، وأميركيين، وأوروبيين، وسوفيات، وهنوداً، ويابانيين، وصينيين، وغيرهم: كلهم يعرف. والحقيقة أن الياس سركيس لم يفكر، ولا في أي لحظة، بأن يطلب من أي دولة في العالم تدخلاً عسكرياً للدفاع عن لبنان. وما كان ليوافق على أي عرض من هذا النوع. وكان الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان قد وجّه إليه دعوة لزيارة باريس في العام 1978. لقد أراد جيسكار ديستان من تلك الزيارة أن يفتح باب فرنسا على مصراعيه امام لبنان ممثلاً برئيسه. كانت مراسم الزيارة تتضمن استقبالاً على أعلى مستوى، ويليق برؤساء الدول التي تعني للفرنسيين وسائر الأوروبيين قيم المدنية والثقافة والحضارة. وفي مثل تلك المناسبة كان لباريس أن تتهيأ لاستقبال الرئيس اللبناني، بدءاً من مطار أورلي حيث ترتفع أعلام لبنان مع أعلام فرنسا، ثم يصعد الرئيس الضيف الى جانب رئيس فرنسا، فتشق سيارتهما صفوف الفرنسيين في شوارع باريس المزينة بالأعلام اللبنانية حتى قصر الإيليزيه، وبجواره قصر الضيافة ماريني، مع ما يتبع ذلك من حفل استقبال في قصر الرئاسة يحضره سفراء دول العالم، ونجوم المجتمع الفرنسي من أهل الفكر، والأدب، والفن، والثقافة، والسياسة. هكذا كان تكريم فرنسا للرئيس اللبناني السابق شارل حلو عندما حلّ ضيفاً على فرنسا في عهد الرئيس شارل ديغول في أيار 1965. وهذا ما أراده الرئيس جيسكار ديستان للرئيس سركيس. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل للرئيس سركيس. فهو إذ قبل دعوة رئيس فرنسا، فإنه طلب تجريد الزيارة من كل المظاهر، بحيث تكون مجرد زيارة عادية. وكان تبريره لهذا الطلب أن لبنان في وضع لا يسمح لرئيسه بأن يحظى بمثل ذلك الاستقبال. وهكذا اقتصر استقبال سركيس في مطار أورلي على حضور وزير خارجية فرنسا، وبعض السفراء العرب والأجانب، وذلك في قاعة صغيرة من مبنى المطار. وكان رئيس الحكومة آنذاك الدكتور سليم الحص مشاركاً في الزيارة، وكان الود بينه وبين الرئيس سركيس «بروتوكولياً»... لم تدم زيارة باريس أكثر من يومين. وعند ظهر اليوم الثالث دُعي الصحافيون الفرنسيون المعتمدون في قصر «الإيليزيه» الى لقاء مع الرئيس سركيس عُقد فور انتهاء لقاء الوداع بينه وبين جيسكار ديستان. كان الصحافيون على قدر كبير من الاهتمام بلقاء الرئيس الآتي من البلد المضطرب الذي لا يعرف طريقه الى السيادة والاستقرار. حين دخل سركيس القاعة الفسيحة المخصّصة للمؤتمرات قوبل بتصفيق من الصحافيين الفرنسيين وسواهم، تعبيراً عن تعاطفهم مع لبنان. وإذ وقف خلف المنبر تلا بياناً من بضعة أسطر شكر فيه ضيافة فرنسا وموقفها من لبنان، ثم شكر الصحافيين، ونزل عن المنبر، فعمّ الذهول القاعة، وارتفعت الأصوات بالأسئلة وأهمها سؤال: ماذا طلبت للبنان من الرئيس ديستان؟ لكن الرئيس سركيس رفع يديه معتذراً عن عدم الجواب، ثم دخل الى صالون جانبي. كنت واقفاً أتابع المشهد، وكان لدي سؤال لأطرحه على الرئيس سركيس كي أتيح له جواباً يحمل بعض الاطمئنان الى اللبنانيين. لكن الرئيس كان قد طبق الباب خلفه، فتقدمت وطرقت الباب ودخلت لأجد الرئيس واقفاً قرب النافذة ووجهه الى الخارج. قلت له إن هؤلاء الصحافيين جاءوا ليطرحوا عليك أسئلتهم، وكان ممكناً أن تجيب عن سؤال واحد: ماذا طلبت من الرئيس ديستان لمساعدة لبنان؟ بدا الانفعال على وجه الرئيس فأجاب بحدّة: - هذا هو السؤال الذي لا أستطيع الجواب عنه؟ - لماذا؟ - لماذا؟ لأن الرئيس ديستان هو الذي أصرّ على أن أحدّد طلباتي من فرنسا لمساعدة الجيش اللبناني ودعمه، لكنني اعتذرت عن عدم طلب أي دعم عسكري... لأنني أعرف عواقب مثل هذا الطلب. كان جواب سركيس واضحاً عن ذلك السؤال الذي طُرح في المؤتمر الصحافي في باريس وظلّ جوابه معلقاً. أسئلة كثيرة طُرحت على الرئيس سركيس وظلّت معلقة من دون جواب، وهو كان يملك الأجوبة، لكنه كان يقدّر عواقبها على لبنان. ولعلّه مات قهراً وهو يراجع، مع المرض، سنوات عذابه في رئاسة الجمهورية. فقد أمضى السنوات الثلاث بعد انتهاء ولايته في رحلات علاج الى سويسرا، والولاياتالمتحدة الأميركية، وفرنسا، قبل أن يعود ليوارى الثرى في الوطن المحكوم عليه بأن يستمر مقاوماً القهر. * كاتب وصحافي لبناني