افتتحت الألفية الثالثة على سقوط مدوٍ في بورصة "نازداك" الالكترونية، تلاه انهيار أسواق المال في العالم. ومن آثار الحدث ما خلّفه من نتائج على الاقتصاد الجديد الرقمي وصورته وموضعه في مجمل العمليات الاقتصادية. وتبدو العلاقة وطيدة بين الاقتصاد التقليدي والمعطيات الصلبة من جهة، والاقتصاد المعلوماتي من جهة أخرى، فكأن الجغرافيا هي جسد المال الرقمي. لم تكن "الهمروجة" الاعلامية عن "بدء" القرن الطالع والألفية الجديدة تبددت احتفاليتها، حين هرع الى البيت الأبيض جمع هالع. وفي المكتب البيضاوي، طالع ذلك الجمع المكوّن من رؤساء الشركات الكبرى في المعلوماتية وخبراء الأسهم والأموال، الوجه الساكن لمدير الاحتياطي الفيدرالي الاميركي ألن غرينسبان الذي اغتنم السانحة ليذكّر بالوضع المتضخم والمنتفخ في "الاقتصاد الجديد". لم يتخذ غرينسبان الذي يدير أموال الولاياتالمتحدة، أي خطوة لإنقاذ الانهيار المريع في أسهم "شركات دوت كوم" التي أحدثت سوقاً غير مسبوقة في بورصة "نازداك" لأسهم المعلوماتية والاتصالات. تلى ذلك انهيار أسواق المال في العالم كله، وفي أقل من ثلاثة أيام بين نهاية شباط فبراير وبداية آذار مارس من العام الجاري، تبخّر نحو ثلاثمئة تريليون أي مليون مليون دولار. تتعدد القراءات في أسباب ذلك السقوط والياته، لكن ثمة اتفاقاً على الاقتصاد الجديد الرقمي دخل في انعطافة نوعية قوية. مذ ذالك، لم تَنِ الصحف تتداول مصطلحات مثل "انفجار فقاعة اقتصاد الانترنت" و"سقوط ظاهرة دوت كوم" و"موت الاقتصاد الجديد"... الخ وحمل تقرير مؤسسة "أو أي سي دي" OECD حزيران يونيو 2000، وهي من معاقل النيو رأسمالية ودعاة العولمة والخصخصة والاقتصاد المعلوماتي، عنواناً لافتاً "هل ثمة اقتصاد جديد؟". النقود صارت أرقاماً... أرقاماً ولربما اختلفت الرؤى الى اختفاء كتلة تريليونية من الدولارات في رفة جفن، ولكن تتفق آراء خبراء الاقتصاد على حدوث تغيّر في طبيعة النقد، وهذه مسألة جذرية لأن النقود هي قوام الاقتصاد المالي، إذا جازت العبارة، وهي في صلب الاقتصاد في معناه الواسع. في البدء، كانت مسكوكات الذهب والفضة تعلوها صور الأباطرة والملوك، وصيّرتها عجلة الصناعة والرأسمالية أوراقاً ساوت وزنها من الذهب، مطلع القرن العشرين. ثم صارت النقود عبارة عن الاقتصاد في مجمل أدائه ومجموع نواتجه، واكتفت ب"التغطية الذهب" التي انهارت مطلع السبعينات مع الانتقال الى العولمة وصعود التجارة والخدمات والاستثمارات المالية العالمية. وهكذا تم التمهيد للعولمة، بأن صارت النقود أوراقاً وتساوت في هيئتها، كما في تداولها، مع الأسهم المالية وسندات الدين. ومع الانعطافة المعلوماتية في العولمة، صارت النقود أرقاماً الالكترونية تدور عبر الشبكات وتغيّر في الاقتصاديات وتفعل فعلها في المجتمعات، من دون أن تتحقق أو تتجسد؟ في أوراق مال. وفي صلب الاقتصاد الرقمي انه... رقمي، وأمواله هي ما تظهره شاشات الكومبيوتر من أرقام. ويمكن الحديث، باستفاضة، عن "سلطة الرق" في العالم المعلوماتي، وذلك يحتاج الى قول آخر. وكانت الطبيعة الرقمية للنقد هي احد بواعث الحديث عن الاقتصاد الجديد باعتباره "وهماً" أو "افتراضاً"، وهذان مصطلحان لهما ما يوازيهما في التقنية المحض للكومبيوتر، ولكن يبدو ذلك كأنه خطل آخر. الأرجح أن الاقتصاد الجديد حقيقي تماماً، مع تفاوت الرؤى الى طريقة تقويم آلياته، أكثر بكثير من وهم، وأقل كثيراً من البهرجة والضوضاء والاطلاقية والاعجاز... التي يرطن بها البعض في صيغ مختلفة. سلطة الجغرافيا: ما يعطي الأرقام جسداً!! الراجع أن الانهيار الضخم في "النازداك" أخرج الاقتصاد الرقمي من هالاته البراقة المشعة والخلابة، أي أنها مخادعة وزائفة، وأدخله الى الوقائع التفصيلية والصلبة. وترافق ذلك مع أمور صغيرة لا تعدم الدلالة، كمثل تحرك المؤسسات المالية الكبرى والرسمية ضد ظاهرة جزر "أوف شورز" off shores التي كانت من القلاع الوطيدة للاقتصاد الرقمي. وعلت نبرة صندوق النقد الدولي، وهو من حماة الاستثمار المعلوماتي، ضد ظواهر تبييض الأموال و"شركات الواجهة" والمضاربة المنفلتة في "أوف شورز"، مثل جزيرة جيرسي بريطانيا وإمارة موناكو فرنسا وليشتنشتاين وغيرها. ولم يخل الأمر من سوء استخدام سياسي لهذه الظاهرة الايجابية، أي مكافحة "أوف شورز" كمثل استهداف لبنان بدعوى عدم الشفافية المالية، تحت ضغط سياسي من دول نافذة. وفي سياق العودة الى الواقع، ثمة ظاهرة متراكمة ببطء وهدوء، وهي مقاومة العولمة في الغرب على نحو ما تم في انتفاضة "سياتل" وما تلاها من تظاهرات في بانكوك وواشنطن وأوكيناوا وبراغ وغيرها. وفي الأصل، لم يبلغ الاقتصاد الجديد عتواً في قوته إلا حيث رفدته قوة الاقتصاد التقليدي، بل ومقداراً بمقدار. وتفوق قوة الاقتصاد الجديد في الولاياتالمتحدة ما في العالم أجمع، إذ يسنده اقتصادها المهول في الصناعة والزراعة والخدمات والاستثمار. وتقل قوة الاقتصاد الرقمي في أوروبا عن قوة "نظيره" الأميركي، بمقدار التفاوت في "الاقتصاد الصلب" لكلا الجغرافيتين. وما زالت أوروبا تسعى جهدها الى اللحاق بمستوى أداء الاقتصاد الالكتروني الأميركي. والأرجح أن يصح القول نفسه على الاقتصاد الجديد في اليابان والهند وأوروبا الشرقية وماليزيا وسنغافورة... الخ. وأياً تكن جهة الاقتصاد الرقمي، فإن الجغرافيا، بما تضمه من بشر وعلاقات وثقافات وبنى وقوى ومواصلات... هي ما يعطيه جسداً، ويكون له من القوّة والحول بمقدار ذلك "الجسد الجغرافي". وفي العلاقة بين الاقتصاديات التقليدية والجديدة، ثمة مساحة واسعة لنقاش عميم. [email protected]