بدت كفورة هائلة. ربما أيقظت أحلاماً قديمة للمعلوماتيّة بأن يصبح الافتراضي هو الأساس في حياة الناس اليوميّة على امتداد الكرة الأرضيّة، فيتمازج مع الواقع الفعلي ليصبح الفصل بينهما مستحيلاً. وعلى رغم أن مخالفة الأرقام تشبه نطح الرأس بجدار صلب، إلا أن هناك وقائع لا تحيطها الأرقام. لعل الأرقام الصلبة التي أطاح بها الرئيس دونالد ترامب هي المثال الأقرب إلى الأذهان، بل بلغت حدّ تخلي شطر كبير من الصحافة الفرنسيّة عن استطلاعات الرأي وأرقامها كلها! ومع تحفظ مناسب، من المستطاع القول أن الاقتصاد الرقمي سجّل قدرته على مقارعة الاقتصاد الفعلي في ساحة بدت طويلاً حكراً على الأخير: العملات وتداولها. في مطلع 2017، تجاوز سعر ال «بيتكوين» حاجزاً تاريخيّاً هو 1100 دولار، ما أشاع انطباعاً بقدرتها على أن تكون من الملاذات الآمنة اقتصادياً على غرار الذهب والفضة والمعادن النادرة وغيرها. ولم يحدث تراجع صريح عن ذلك التوقّع، لكن الفورة نفسها لم تستمر طويلاً. وذكّر ذلك بأن العملة الرقميّة هي أيضاً رهينة ما يحصل من تطوّر في تقنيات المعلوماتيّة والاتصالات. وفي أوقات سابقة، تضرّر سعر ال «بيتكوين» في شكل كبير بعد عمليات سرقة كبيرة قام بها قراصنة الكومبيوتر («هاكرز») في آب - أغسطس، ما أدّى الى انخفاض سعرها اكثر من عشرين في المئة. وتعطي تلك السابقة مؤشّراً إلى العلاقة الوطيدة الممزوجة بالأخطار بين البُعد المعلوماتي في «بيتكوين» من جهة، ومكوّنها الاقتصادي من الجهة الثانية. ابحث عن... ترامب! ثمة محللون اقتصاديّون يربطون بين «بيتكوين» وقيمة الدولار، ما يعني أنّ التغيير في الإدارة الأميركيّة ربما يكون عنصراً مهماً في مسار العملة الرقميّة. إذ يبدو ترامب مزمعاً على الاتجاه صوب زيادة الصادرات ورفع مستوى الأجور للأعمال الأقل دخلاً، ما ربما يترافق مع خفض قيمة الدولار. ويلوح الأمر عينه في ميل ترامب إلى عدم رفع الفائدة المركزيّة، وكذلك تحبيذه خطة تيسير اقتصادي، ما يعني ضخّ كميات كبيرة من الأوراق الخضر التي تكون منخفضة السعر أيضاً. ويتعزّز المسلك عينه بتدني استيراد أميركا للنفط، بل قرب تحوّلها مصدّراً صافياً له. ويضاف إلى ذلك كراهية ترامب للعولمة التي قادتها بلاده عقوداً مديدة. وليس صدفة أن بواكير اجتماعاته شملت لقاءً مع كبريات شركات الكومبيوتر والانترنت في «وادي السيليكون»: مهد ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة التي شكّلت طويلاً رافعة أساسيّة للعولمة. ولم يتردّد ترامب في «نصح» شركات المعلوماتيّة بضرورة «العودة إلى أميركا». وضمن أشياء كثيرة أخرى، الأرجح أن يترجم ذلك التوجّه نفسه في تقلص اندفاع العولمة المعاصرة، وبالتالي تقلّص حجم التجارة الإلكترونيّة. وثمة عنصر ينبغي قوله بصراحة تامة. تستخدم تلك العملات للتهرب من الرقابة الدوليّة على المعاملات الماليّة، وصار ذلك مرتبطاً في الآونة الأخيرة بمسألة الإرهاب وتمويله. وإذا صح عزم الرئيس دونالد ترامب على مكافحة الإرهاب معطوفاً على إعطائه الأولويّة للصراع مع الصين، تكون «بيتكوين» في رأس ضحايا الرئيس الأميركي الشعبوي! ماذا لو... في المقلب الآخر من المشهد عينه، رأى فيني لينغهام، وهو الرئيس التنفيذي لشركة «سيفيك» الأميركية لحماية الهويّة الرقميّة، أنّ نقص كميات ل «بيتكوين»، وانخفاض العملات الرئيسية أمام الدولار مع رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة، ساهما في فورة العملة الرقميّة. ولفت لينغهام أيضاً إلى تأثير عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يضرب شطراً وازناً من الأسواق الناشئة، متوقّعاً ارتفاعاً متصاعداً لل «بيتكوين» لتصل إلى قرابة ثلاثة آلاف دولار عند نهاية 2017. وأعرب عن قناعته أيضاً بأن أبناء الجيل الإلكتروني لا يؤمنون بالذهب كما كان يفعل آباؤهم. وبقول آخر، هناك جيل شاب ومنتج يرى أن الإلكترونات في مثل قيمة الذهب بل ربما أكثر!