اذا كانت جميع العلوم، مهما تقدمت، تبقى بحاجة الى علم الفلسفة، فإن علم التاريخ هو احوجها جميعاً. الى ذلك المنهج الذي يرشد الباحث المتأني، الى حسن تقليب وجوه المعرفة، وتسديد خطاه، كلما آن له ان يصادف درءآً في الطريق. ويأتي كتاب رضوان السيد: "الجماعة والمجتمع والدولة" الذي يضمّ بين دفتيه مجموعة من الدراسات الاسلامية، ليقدّم على ما يبدو لنا للوهلة الاولى، تفسيراً جديداً لبعض الوجوه من التاريخ الاسلامي في مطلع عهده. وهذا التفسير اذ يقوم على تقصٍ شامل للمصادر المتوافرة، فإنه ينزع نزوعاً واضحاً للعيان نحو تبيان فلسفة محتملة للتاريخ الاسلامي، وإن لم يحمل رأياً واضحاً وصريحاً حول فلسفة هذا التاريخ الاسلامي. ذلك انه بإمكان القارئ ان يستشف هذا المنحى الفلسفي من خلال التعقيبات التي يوردها السيد في نهاية كل دراسة من هذه الدراسات التسع. ومما شك فيه، ان هذه "التاسوعات" هي ذات قيمة، لما تميّزت به من جهد كبير صرفه صاحبها، مستعيناً بثقافته واطلاعه الغزيرين، إضافة لما تحمل من هدف بارز، الا وهو لفت الباحثين والمؤرخين العرب والمسلمين، لايجاد الصيغة المناسبة والعبرة الحسنة في تاريخنا، كي نستطيع تفادي الخطر المحدق بنا اليوم. ذلك ان مفهوم التاريخ لدى مؤرخي الاسلام يجدّد نفسه باستمرار في امرين اساسيين: 1- ان احداث التاريخ لا بد من ان تشير في النهاية الى موعظة واعتبار. 2- ولا بد من ان يكون ايضاً للتاريخ هدف اخروي / اخلاقي، من دون ان يفقد الحدث التاريخي اهميته، بل على العكس من ذلك، فإن هذا الهدف يجب ان يدعم الجانب الاخلاقي الذي يمكن ان يستبط من وقائع التاريخ. لا أخال الباحث الاسلامي المجدّد رضوان السيّد اراد لنفسه ان يكون رهين هذين المحبسين، وإن ظهرت آثارهما في اطروحاته الاسلامية التسع هذه، وذلك بسبب من آثار المنهج الفلسفي على جملة كتاباته، ومنها هذه التاسوعات التي تؤرّخ وتفسر لحياة الجماعة والمجتمع والدولة في الاسلام. فإذا كان فولتير اول من استعمل لفظ فلسفة التاريخ في عصر التنوير، كما كان ابن خلدون من القدماء، اول من سبق الى القول إن فلسفة التاريخ تتجاوز السرد والحشو للأخبار من دون ربط بينهما، فإن السيد يحاول للمرة الاولى ان يقرأ التاريخ الاسلامي للاحداث، في ضوء منهج متنوّر يفيد من تجربة الباحث الاجتماعي / السياسي الذي يريد ان يتنخّل مقولات التاريخ الاسلامي بمقولات فلسفة التاريخ الاجتماعي والسياسي. واذا كان الباحث الايطالي فيكو 1668 - 1744م، يعتبر في نظر الكثيرين من العلماء والدارسين، اول من ارسى قواعد فلسفة التاريخ، فإن نظريته تقوم في هذا الشأن على ضرورة تقسيم التاريخ الى اقسام ثلاثة: دور الآلهة ودور الابطال ودور البشر. كما ان الانسانية، بحسب فلسفة التاريخ لديه، لا تتقدّم خلال ادوار التاريخ في خط مستقيم، بل ان مسارها هو خط لولبي، كما لو كانت تدور حول جبل لتصل الى قمته، من دون ان يغفل ان العناية الالهيّة، هي التي ارادت ان يكون مسار التاريخ على هذا النحو. ويظهر لنا، ان السيد الذي بدا متأثراً بفلسفة التاريخ السياسي والاجتماعي من جهة، وبتقسيمه الى ثلاثة ادوار كما هو عند فيكو، من جهة ثانية، تردّد كثيراً في بعض دراسات كتابه، حين كان يريد تبيان الفئة التي كان يؤهلها مركزها الاجتماعي، لأن تلعب دور المرشد في الحياة السياسية الاسلامية، خصوصاً في الحقبات التي كان يؤرّخ لها، إذ حافظ بكل صرامة على منح جميع خلاصاته ونتائجه العلميّة، قيمة حياديّة، تصبّ في خانة الرأي المحايد او المهادن على ابعد تقدير. هل نقول ان السيد في المعالجات التاريخية التي قدّمها، كان صاحب نظرة إنتقائية في هذه المواضيع الاسلامية المختلفة، حيث جعلت من فلسفته التاريخانية فرقاً من مختلف المذاهب، وجعلت من موقفه السياسي والاجتماعي، مجرّد نظرة طوباوية، لا تنظر الى عملية التطوّر الاجتماعي والسياسي من زاوية ما هو واقع في الضرورة التاريخية والتوافق مع قانونها، بل تعتمد على ما اسمته "علم الاجتماع الذاتي". من الناحية الشكليّة البحتة، اضفى السيّد على الجماعة دوراً حاسماً وهو يصوغ اطروحته في خلافة معاوية، الا انه في جوهر موقفه، عاد الى نظرة دور الابطال، واعتبر ان اتجاه العمليّة التاريخية، إنما كان يتوقف على الدور النشيط الذي لعبته القلة او الكثرة من العلماء والفقهاء، اصحاب العلوم الدينية والمؤتمنون عليها، والتي كانت تدعم المبادرة الفائزة في الامتحان السياسي / العسكري. ويقول بجرأة ان: الابطال ثم الفقهاء، هم صنّاع التاريخ الحقيقيون. اما الجماعة فهم ليسوا اكثر من صلصال طيّع يشكّله هولاء وفق هواهم، ويعطون حركتهم غير الواعية دلالة ومعنى. إن ترتيب المادرة وتوالي عرضها لا يعنيان تدرج اعتمالها وتكونها الزمني في عقل مؤلفها. إذ يصرّح صاحبها في المقدمة: ص 16 فيقول: "بدأت بكتابة دراسات المدخل الايديولوجي هذه عام 1985. وأقدمها الفصل الثاني من هذا الكتاب بعنوان: "الخلافة والملك: دراسة في الرؤية الاموية للسلطة". واذا غادرنا مسألة الشكل في ترتيب ابحاث الكتاب، فإننا نرى الباحث يبدأ بعرض بحث استطلاعي، يتقصى فيه مواد ونصوصاً دوّنت في القرن الثاني للهجرة، حول البينات الثقافية والسياسية التي طبعت القرن الاول بطابعها، ابتداءً من مقولة الامام علي رضي الله عنه في ضرورة السلطة، وصولاً الى افكار النخب الاسلامية وموقفها من الدولة: بأن مؤسسة الخلافة كانت حارسة الدين، في حين ان السيد يستنتج ان الدين هو الذي حرسها، وهو الذي جعل الامة وجماعتها هي المشروعيّة التأسيسية والعليا، وبناءً عليه، فإن الامة في الاسلام هي الشرعيّة التأسيسيّة، أمّا الخلافة التاريخية فهي من الشرعيات الفرعيّة الموقتة. ص 58. وفي بحثه الثاني: "الخلافة والملك، دراسة في الرؤية الاموية للسلطة" عمد المؤلف الى قراءة خطاب الخلافة القائمة على مبدأ الشورى، وهو خطاب المعارضة بشتى احزابها، كما عمد ايضاً الى قراءة خطاب السلطة الاموية نفسها. وانتهى الى الاستنتاج ان "اهل الشورى" الذين كانوا يطالبون بإزالة ملك الامويين لأنه يقوم على اساسيات الملك العضود، وليس على اساسيات الشورى. لم يستطيعوا ان يفوزوا في الصراع بين اهل الملك واهل الشورى، ولذلك، فعندما سقط الامويون لم ينتهِ النزاع بين "كتاب الله وسلطان الله" ص 121 بل فاز العباسيون بملك عضود آخر. في البحث الثالث، تحدّث السيد عن "كاتب الديوان"، متمثلاً بكل من عبدالحميد الكاتب وابن المقفع. واستنتج الباحث، ان كاتب الديوان كان واهماً باعتباره شريكاً في السلطة، كما كان يظن في نفسه. وعندما قمع بقوة على يد السلطة، استيقظ على دوره كنموذج للتدبير او كاتب للديوان كما في العهد الساساني. ثم اندرج في اهل القلم الذين يخدمون اهل السيف، فصارت الوزارة هي هدفه، حين تحول الى مستشار للسلطة يهدي اليها النصح لا اكثر ولا اقل. وبالانتقال الى البحثين الخامس والسادس، تحدث عن "الجهاد والجماعة"، فشرح دور علماء الشام في تكون مذهب اهل السنّة، كما تحدث في الثاني عن "اهل السنة والجماعة" من زاوية التكون العقدي والسياسي، فقد وجد ان الاتجاه الذي كان يسود اهل السنة، انهم اهل الجماعة والاصل في مواجهة الفرق والشراذم. وعرض لدور علماء الشام في بلورة بعض المفاهيم التي تبنّاها اهل السنّة لاحقاً. وبيّن الباحث انه قرأ ايديولوجيتهم الاولى عبر "بياناتهم" العقدية في القرنين الثاني والثالث، حتى يتوصل الى فحص طرائق تكون عقيدتهم، والى فهم عوامل تحولهم الى الجماعة العظمى على مستوى العقيدة وعلى مستوى المجتمع ايضاً. وتحدّث البحثان السابع والثامن، عن ابي الحسن الماوردي في رؤيته الاجتماعية، وعن المدينة والدولة في الاسلام، من وجهة نظر كل من الماوردي وابن خلدون. وعمل السيد على توضيح رؤية الماوردي الاجتماعية، اولاً الذي عرف التجربة التاريخية الاسلامية بصورة جيدة، وتمثّل الموروث الحضاري المنقول عن اليونان والفرس والهنود، ثم حاول بعد ذلك ان يوضح قواعد الاجتماع الاسلامي في ايامه. كما عمل ثانياً على المقارنة بين نصين عن المدينة الاسلامية لكل من الماوردي وابن خلدون. واستنتج السيد التفاوت الظاهر بين ثقافة كل منهما من جهة، والتجربة المدينية في الاسلام من جهة اخرى، موضحاً ان كلاً منهما وخصوصاً ابن خلدون، يصدر عن فرضيّة مسبقة ذات اصول فلسفية كلاسيكية، حجبت عنه الرؤيا - للتجربة المدينية في الدولة الاسلامية. وجاء البحث الاخير، تحت عنوان: "الدين والدولة: اشكاليات الوعي التاريخي"، حيث وجد السيد ان الامر بدا جذرياً مع الدخول الاستعماري الغربي الى المسلمين، لأنه بحسب الفقه الاسلامي لا يعقل ان يقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا في دار الاسلام غير المسلم. وبعد خروج المستعمرين، طرحت القضية مجدّداً في مواجهة الدعوة المتصاعدة لعلمنة الدولة والمجتمع. وطرحت اخيراً كما يقول، في ظل نظرية الحاكميّة عند المودودي وسيد قطب والامام الخميني. ويلاحظ ان الدعوات لاعادة النظر في علاقة الدين بالدولة، كانت تتم في اوقات الازمات الخانقة. اذ يبرز ما يسمّى بالحل الديني والحال الدينية او الصة الاسلامية، كأمرين شبه بديهيين. ويستنتج، ان تاريخ السلطة الاسلامية مع ممثليها وليس مع الدين هو تاريخ صراعي، أو نزاعي، افضى الى انفصال السياسة عن الفقه وأحياناً عن الشريعة، كما افضى الى قيام مجالين احدهما سياسي والآخر شرعي ص412. وظل هذان المجالان في صراع او نزاع حتى يومنا هذا. يؤكد ذلك، ظهور حركات الصحوة الاسلامية التي تدعو لقيام الدولة الاسلامية وتطبيق الشريعة، مما يبرهن ان مسألة علاقة الدين بالدولة، في المجال الثقافي والسياسي، لا تزال مسألة حية في حياة الشعوب العربية والاسلامية المعاصرة، علماً ان هذه الافكار الجريئة التي يطرحها السيد، تصدر عن موقف متردد، كشف عنه في خواتيم مقدمته ص20 حين يقول: "كان سبب ترددي الخشية من التسرع، وان اكون قد طرحت على النصوص الكلاسيكية سؤالاً معاصراً شائكاً، يفضي استنطاقها بشأنه الى صمت او اجابات غير ملائمة"، ثم يعزو عزمه على نشرها بعد تردد، الى تحفيز القراء والمهتمين "في متابعة هذه الاشكالية التي تشغل الاذهان في مجالنا الحضاري منذ عقود عدة" كما يقول. ومسألة التردد في موقف الباحث من "قضية ما" يتصدى لها، لا تجعلنا نرى فيها ما ينم عن ضعف او وهن، بل ما ينم عن استعداد في اللحظة للمراجعة آن تتوافر دلائل او اشارات اخرى مغايرة لما بين يديه. اذ ما دام مشروع السيد، التفسير القائم على التقصي الشامل للمصادر التاريخية فإنه بالتأكيد سوف يحتاج الى مراجعة هذا التفسير بعد الافادة من المواد التي اكتشفت حديثاً. وهو اذ يتجاوز هذا الامر الى درجة اكبر، فإنه بالتالي يحاول مجدداً اعادة النظر في رؤيته للمسألة وفي المواد المتوافرة لديه قديماً وحديثاً واعادة تفسيرها من جديد. في وجه هذا كله، كان لا بد للسيد من ان يسعى جاهداً للوقوف على النظرة العلمية الجديدة في تقصيه للحقائق التاريخية، تلك النظرة التي تقوم على اساس التأمل في العملية التاريخية كعملية تحكمها القوانين الاجتماعية والسياسية والدينية، التي يسعى من خلالها الى اكتشاف جملة هذه القوانين او معظمها على الاقل، وللارتباط بالتالي، بالقوى الاجتماعية والسياسية والدينية، التي قيض لها ان تلعب دور "الرافعة" في نقل المجتمع الى مرحلة جديدة من مراحل تطوره، خصوصاً على الصعيد السياسي والفقهي والاجتماعي. واستطاع في ابحاثه التاريخية، التفريق بين امرين اساسيين: مادة التاريخ، وهي الاحداث الماضية، والتحليل البعيد الرؤيا، الذي يدرس هذه المادة وينظر لها ويحاول فهمها في سياق مترابط من دون ان يهمل اعادة النظر مراراً بالكتابة التاريخية عند العرب والمسلمين، التي تدخل في نطاق "التاريخ النظري" الذي يرتبط تماماً باللغة السائدة في عصرهم. ادرك السيد، ان "علم التاريخ" المعاصر على وجه الخصوص، انما يستند الى اصول ما قبل علمية، وهي تتمثل في الخبرة الانسانية العامة في النظر الى الماضي والتعامل معه. ولذلك بدا الباحث، وهو يتصدى لقراءة الماضي الاسلامي تجربة ونصوصاً، وكأنه مقيد بقيود الزمان والمكان. غير انه سرعان ما كان يقوم بتفكيك هذه القيود بمهارة، حين نراه يدرك ان العمل التاريخي، انما هو ايضاً عبارة عن ظاهرة تاريخية تكونت في مرحلة معينة من مراحل التطور. وهو يتصل بالتالي لدى كل باحث بأمرين اثنين: الاول التحيد، اي المحافظة على حيادية تامة من المسألة المطروحة. والثاني: الاستيعاب، اي ان يعالج المادة المدركة بالعقل المتدبر وحده من دون غيره من العواطف. واذا كان هناك ثمة خصائص تسم فكر السيد في طروحاته وابحاثه الاسلامية، التي تحتمل التبدد العلمي والمنهجي والفلسفي عند البعض، كما تحتمل عرض جميع التنافرات الممكنة عند البعض الآخر سعياً وراء تطويعها لارادته، فإننا نرى في هذا التبدد شكلاً من اشكال التفكيك، الذي ينتج من حرصه الشديد على التمسك بالتحليل الدقيق، الذي يفصل بين ما هو متعارض منطقياً، ويقيم العلاقات التي تفرض نفسها تبعاً للبحث. فالسيد بعكس ما يظهر أنه غير شديد التمسك بالمنهجة بصورة عامة، فهو من أكثر الباحثين الإسلاميين المعاصرين فهماً لحال العلم الراهنة، الذي نراه معرَّضاً بصورة مستمرة لتصحيحات وتغييرات وانقلابات متواصلة، بسبب الطابع غير المحدد الذي يتسم به البحث التاريخي الإسلامي، الذي يتأبّى في الواقع، على النظم النهائية، علماً أنه في جميع هذه الأبحاث الإسلامية، التي كتبها، تحاشى دائماً إرجاع استفهاماته وتفسيراته، الى مركز أو مبدأ واحد، لأنه، كما نراه، ينطلق من بديهة أصيلة وأساسية، هي اللامحدودية التوسعية والتكثيفية لإحداثيات الحياة السياسية الإسلامية. وهذا ما دفعه الى المقارنة مع ماكس فيبر، الذي يعارض بحزم كل الأنظمة، سواء كانت تصنيفية أم جدليّة أم غير ذلك، والتي تظن بعدما تكون قد بنت شبكة مفاهيم كثيفة بقدر الإمكان، أنها قادرة على استنباط الواقع منها. وإذ يتصف السيد بخصيصة العقلانية في بحثه المشكلات الشائكة التي واجهها المسلمون على صعيد المجتمع والدولة، فإننا نراه أيضاً يلامس حدود العقلنة التي اتصف بها ماكس فيبر في تصديه للمشكلات الغربية، والتي كان يقرنها بمفهوم "الفكْرنة" في كثير من الأحيان. فهي تأتي عنده، نتيجة التخصص العلمي والتمايز والتقني الخاص بالحضارة المعاصرة. وهي بالتالي تقوم على تنظيم الحياة الى صور مختلفة تشمل الدين والقانون والفن والعلم والسياسة والاقتصاد، حيث نراه يجهد للبقاء دوماً ضمن نطاق ما هو ممكن الإثبات موضوعياً، خصوصاً حين يطمح التحليل الى صحة علميّة. فالسيد كما ماكس فيبر لا يأذن لنفسه بإعطاء نبرة شخصية متعاطفة مع المسألة لأنه يريد أن يحافظ في مناقشاته جميعاً، على ما يعرف، عند فيبر ب"الحياد القيمي". فبشأن "الحياد القيمي" نجد ماكس فيبر يلتزم موقف العالم العملي في الحياة العادية الذي يرفض أن تتعرض مبادئه التي يؤمن بها لنزاهة الباحث الفكرية، أو لما يعوقها على أن تكون ماثلة بقوة في ذهنه وهو يبحث أو يناقش أية مسألة من المسائل. وإذا كان الإمام علي رضي الله عنه سبق فيبر الى القول: "آفة العقل الهوى"، فإن السيد في كتابه: "الجماعة والمجتمع والدولة" على وجه الخصوص، كان حريصاً للغاية على ألا تشتبه نصوصه أو شروحه أو مواقفه العلمية في أبحاثه بأي هوى يصرفها عن العقلانية أو عن القيمة العلمية المحايدة. كأنه لا يريد لنفسه أن يكون منحازاً لغير الموقف العلمي وشروطه القطعية الدلالة، في زمن يغلب الظن أن الموقف الحيادي، إنما هو موقف الإنسان الوجل، الذي يأبى أن يكون له رأي، أو أن يعبّر عن هذا الرأي، بدافع الفزع أو الضعف أو الخوف من الخسارة. ألا يحق لنا أن نقول أيضاً إن السيد كان يتجاهل كل ما يمكن ان يزعجه، خصوصاً بالنسبة الى موقفه الشخصي أثناء عرض مسائل أبحاثه وأن يميّز بجدارة بين الإثبات التجريبي والأحكام التقويمية، وبين البحث والاعتقاد الخاص! كذلك لم نره يفتش عن الموقف الإسلامي الأسلم، ولا أن يعبر عن مجموعة من القيم الإسلامية التي قد تبدو أكثر تعزية لأنه كان يعي بحق أن دوره، يجب ألا يكون إلا في خدمة المادة التي ينقب جدران التاريخ الأصم عنها في لحظة الوعي بالتاريخ الإسلامي الآني. * أستاذ في الجامعة اللبنانية. ** "الجماعة والمجتمع والدولة" دار الكتاب العربي، بيروت 1997، 410 صفحات.