فُجع العراقيون المعنيون بالفكر، خصوصاً من الذين أجبروا على العيش في المنفى، أو اختاروه هرباً من جحيم الداخل، عندما علموا بنبأ انتحار الكاتبة المبدعة حياة شرارة، المتحدرة من عائلة لبنانية ذات فضل وعلم وقدر عال من الثقافة والمعرفة، نزحت الى العراق الذي احتضنها واحتضنته وأعطت الكثير من جهدها في إغناء الفكر وترصين التعليم. وظاهرة الانتحار كانت نادرة في العراق قبل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي حل فيه إثر الحروب المدمرة التي خاضها النظام، غير أن الانهيار قد خلق أوضاعاً اقتصادية واجتماعية جعلت حالات الانتحار أمراً مألوفاً في عراق الفقر والبؤس عندما بدأ اليأس والجوع والحرمان والظلم والخوف ينهش بالناس عموماً، وخصوصاً الطبقة المتوسطة، حيث أصبحوا يرون أطفالهم جياعاً من دون تعليم وبناتهم ينزلقون الى هاوية الرذيلة طلباً للعيش، الأمر الذي جعل البعض منهم، ممن لا يقوى على التحمل، يرى الموت له ولعائلته أهون من حياة الذل والجوع، ولذا بدأنا نسمع عن حالات من الانتحار ما لم يكن يألفه الناس من قبل. وقد يتبادر للذهن أن حياة شرارة انتحرت لهذه الأسباب بشكل جعل اليأس يدب في حياتها بعد أن فقدت تقاعدها وحرمت من السفر مع ابنتها بسبب قانون عجيب مناف للشريعة الإسلامية والذي بموجبه لا يجوز لامرأة دون الخامسة والأربعين من العمر أن تسافر من دون رجل محرم عليها شرعاً، أي من دون أب أو أخ أو عم، تلك الشريعة التي تجعل الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد تحريم قرآني مما لا يوجد في قضية سفر الإنسان، ذكراً أم أنثى. غير أن الذي يقرأ رواية "إذا الأيام أغسقت" والمقدمة الثرية والتحليلية والتاريخية التي كتبتها شقيقتها بلقيس والتي ظهرت في الأسواق نشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بعد ثلاث سنوات من انتحار الكاتبة، يفهم ما حصل في هذه الفاجعة ولماذا. حياة شرارة لم تنتحر للأسباب التي دفعت الآخرين ممن أنهوا حياتهم بسبب اليأس والفقر، فلماذا اختارت هذه الكاتبة الموهوبة الموت وهي في أوج نتاجها الفكري؟ لو كانت حياة تسعى لمجرد البقاء والعيش كالآخرين ولو بدفع ثمن التنازل عن كرامتها ومعتقداتها لكانت قد فعلت مثل الكثير ممن استمروا في التدريس في الجامعة من طريق الانضمام الى الحزب الحاكم. غير أنها لم تفعل دفاعاً عن كرامتها وعدم الرضوخ لما لا تعتقد به، ولو هي كانت تروم السفر الى خارج العراق بأي ثمن لكانت كتبت "استعطافاً" للسلطة من أجل السفر مع ابنتيها استثناءً من القانون التعسفي، ولكنها لم تفعل مرة أخرى دفاعاً عن كرامتها واعتقادها بأن السفر حق من حقوق الإنسان البسيطة وليس منة تمنها الحكومة. وحياة التي كان الفكر الموئل والمنهل الأساس الحقيقي لحياتها الغنية في العطاء، وجدت هذا الفكر يداس تحت الأقدام في بلد كان يعطي للفكر والمثقفين مكانة أعلى من أصحاب السلطة والمال. إن الانهيار المروع في العراق حوله في فترة قصيرة من بلد غني في كل شيء، سواء في موارده البشرية وعقوله المبدعة أو موارده الطبيعية والنفطية والمائية، مما كان دائماً موضع أطماع الأجنبي، الى بلد لا يعادل مستواه اليوم، في قياس دخل الفرد من الناتج القومي الإجمالي، ذلك السائد في افريقيا المحاذية للصحراء التي هي الأكثر فقراً في العالم، لقد أصبح الرفاه الاقتصادي والاجتماعي العالي مما كان سائداً في العراق قبل أن يخوض النظام حروباً غير ذات هدف وما تبعها من حصار دولي فاقد للشرعية الدولية، أصبح حلماً للعراقيين الذين عاشوه من قريب، الطبقة المتوسطة المثقفة على وجه التخصيص، التي تم سحقها وإفقارها. والأهم من ذلك فإن الانهيار طاول نفسية الفرد العراقي وأنزله من شموخه وطبيعته النزاعة الى الحرية والتعبير عن الرأي وتحكيم العقل، الى جزء من قطيع إن شذا أحد منه يكون مصيره الذبح أو الرجوع الى القطيع صاغراً ذليلاً. انتحار حياة شرارة كان احتجاجاً على هذا الانقلاب الذي استهدف المثقف العراقي سواء في مستوى معيشته أو في مستواه الإنساني ونتاجه الفكري. والأدهى أن هذا الانقلاب استهدف المثقف بسحق شخصيته وكيانه الثقافي، بحيث أصبح أستاذ الجامعة إنساناً ممسوخاً يصفق مع الآخرين ويردد معهم الشعارات المنافية لفكره ويضطر الى المشاركة في المسيرات والتدريبات العسكرية والمشاركة في جبهات القتال. يفعل ذلك تجنباً لما هو مكروه كالفصل من الوظيفة أو الحرمان من البطاقة التموينية أو خوفاً من أن تسوقه أجهزة الاستخبارات الى المصير المجهول أو الإحالة على التقاعد. تقول شرارة التي وصفت الخوف الذي يلف هؤلاء بأسلوب بليغ: "لم يكن خوفهم ذلك الخوف الغريزي الذي يشعر به الحيوان في الغابة عندما يسمع خطى متلصصة تقترب منه أو رائحة عدو تتسلل في الهواء فيلوذ بالفرار للحفاظ على حياته، وإنما خوف يلجم الروح ويشل الأوصال ويميت الكلمات على الشفاه ويبعث الفزع في العيون، ويظل المرء مسمراً في مكانه". اختارت حياة إحدى جامعات بغداد مسرحاً لروايتها، كرمز للثقافة والمثقفين وما حل بهم. فالمكان موبوء بأجهزة الأمن والاستخبارات والمخبرين من الطلاب وحتى بعض الأساتذة، وأجهزة التنصت حيث لا يستطيع الأساتذة ومساعدوهم التحدث إلا بالهمس خوفاً من وصول حديثهم لهذه الأجهزة "لأن للحيطان آذان"، فالخوف من السلطة في كل مكان، والطلاب المرتبطون بهذه الأجهزة الأمنية أو الحزبية يقررون ما يريدون من دون أن يكون للأستاذ أية سلطة ليعامل هؤلاء الطلاب بحسب أدائهم الفعلي، فتعطى الدرجات لهم جزافاً، ويبدون كأنهم أصحاب الفضل. وهناك العميد ببزته العسكرية وشخصيته الركيكة يقف في باب الجامعة ويتبختر في أروقتها بلغة الوعيد والتهديد، وطالما يرعد ويزبد على هذا الأستاذ الذي تأخر عن الحضور خمس دقائق فقط بسبب مشكلات النقل من دون اعتبار لأداء المنضبط السابق، يهين هذا ويصرخ بوجه ذاك، لأنه يريد أن يثبت بأنه رمز السلطة. غير أننا نرى في ما بعد أن صراخ هذا المخلوق يكشف عن الضغوط الداخلية في نفسه، وكأنه بصراخه ينفس عما في داخل نفسه من خوف، هو الآخر، ويعطي الشخصية المهزوزة نوعاً من الثقة. فهو يطيل الخطب الوعظية تحت لافتات وشعارات "الديموقراطية أساس مجتمعنا" و"التقدم العلمي غايتنا"، والعميد يعرف الديموقراطية أنها لا تعني الليبرالية وإنما يجب أن تتصف بالحزم ومعرفة الحدود "فالعصا لمن عصى".!! إن الخوف يدفع البعض الى الارتماء في أحضان أجهزة الأمن والتعاون معها بأن يأتيها بالأخبار والتقارير عن الأساتذة وكل شيء بما تريد تلك الأجهزة. قصة أحد أساتذة القسم بدري الذي فعل ذلك خوفاً من الملاحقة لأن عليه أن يملأ الاستمارات بالمعلومات عن أقاربه حتى "رابع ظهر"، وهو يعرف ان أحداً من أقربائه كان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة تخريب الاقتصاد الوطني، وكان هو نفسه منتمياً في شبابه الى حزب سري كان قد تركه، غير أن عليه أن يدوّن هذه المعلومات في الاستمارات التي تتطلبها اجهزة الأمن. وكان عليه اما التحايل بعدم ذكر تلك المعلومات مما لا ينسجم مع طبعه أو أن يقدمها، وما يعني ذلك من الكابوس الذي يعيش فيه "فكان الاستسلام هو الطريق الوحيد لحماية نفسه وعائلته ووافق أن يتعاون مع أمن الكلية". والنتيجة كانت انهيار هذا الشخص الذكي وأصبحت قنينة العرق جزءاً أساسياً من حياته. غير أن ما حل بشخصية اخرى، الدكتور أكرم، الأستاذ الفاضل الباحث الذي أنجز الكثير من البحوث، تعطي صورة حية لأجواء تشابه ما كتبه جورج أوريل وأحياناً فرانز كافكا. الدكتور أكرم يتسلم أمر فصله من العمل "لخيانته العملية" من دون أن يعرف ما هي هذه الخيانة. وهنا يبدأ فصل عجيب في حياة هذا الرجل. الناس يخافون معاملته كالسابق، بل بدأوا بنسيانه، والذين يبغون زيارته إنما يفعلون ذلك تحت جنح الظلام، لأن أجهزة الأمن تراقبه، وكان قد اضطر الى استعمال سيارته بالأجرة تاكس فلم يفلح لأن ما تدر عليه سيارة الأجرة أقل من كلفة التصليح والأدوات الاحتياطية التي لا يعرف كيفية التعامل بها. ثم اضطر الى العمل مع أخيه في مخزن لبيع الحبوب فلم يقو لأن أخاه لا يشاركه بالربح وإنما يسلمه مرتباً معيناً. وهكذا انكفأ هذا المثقف على نفسه، هنا أيضاً مع قنينة العرق، وكذلك الدكتور عبود الذي غاب عن الدنيا وغابت عنه أثر اخراجه من الكلية. أما الدكتور صبحي مساعد العميد فهو يمثل الشخصية "الواقعية" التي تختار الطريق السهل، بقبول الواقع المرير على علاته والعيش فيه ومعه، لأن الأخلاق والقيم تتغير مع الزمن ولا بد من إبدالها كإبدال الملابس، وما على الإنسان الذي يريد أن يعيش إلا أن ينضو عنه ملابسه القديمة ويعيش بملابس تتماشى مع أخلاق العصر!! هذه الشخصية ذات السريرة الجيدة مهمة جداً في الرواية لأنها تمثل إمكان الفرد في التكيف مع الظروف وقبول الأشياء من أجل البقاء. غير أن الشخصية المأسوية بطل الرواية الدكتور نعمان تظهر المعاناة الحقيقية للمثقف العراقي، هذا الأستاذ الفاضل ذو الخلفية الثرية في البحث والتأليف والتدريس يشعر بتمزق داخلي وإهانة عظمى لذاته عندما يضطر الى تلبية رغبات الإدارة للقيام بأعمال لا تقبلها أمانته العلمية في تقويم درجات أو أبحاث في غير حقيقتها بسبب نفوذ هذا أو ذاك، ولا يستسيغها عقله وأخلاقه المتينة. لذا فهو يفكر بإحالة نفسه الى التقاعد لبلوغ السن القانونية. يحاول صبحي أن يمنعه بل هو يتعجب من شعور المرارة التي يعاني منه ذلك الأستاذ الكبير، نعمان، ويحاول أن يقنعه بالعدول عن التقاعد: "إنك لا تستطيع العيش في حياة التقاعد وإن وجودك في الكيلة ضرورية، حيث يجب أن تبقى رمزاً للعلم والفضل"، فيجيب الأستاذ الممزق الروح "لقد كنت رمزاً في السابق، أما الآن فلا. إنني أضحك عليهم وعلى نفسي، فأنا لست سوى متفرج يقف على الهامش يتطلع لعملية التزييف المستمرة التي تجري أمامه، أو يشارك فيها أحياناً بضمير غير مرتاح ويعتبر ذلك، تمسكاً بأهداب الأخلاق!! إنني أرى كل شيء وأسكت عنه وأظل مكتوف اليدين لا أحرك ساكناً". لم تقبل حياة شرارة النهايات التي انتهى إليها الأساتذة والمثقفون، فهي لم تستطع التعايش مع الأوضاع المنحطة، ولم تقبل الهوان أو نسيانه بتناول المسكنات، ورفضت الانصياع والذل، ولذا فهي قد اختارت خياراً آخر: مواجهة الموت عندما يكون الإنسان أقوى من الموت. وهنا يكمن المغزى البطولي لانتحار مثقفة عراقية لتكون رمزاً للاحتجاج!! ولعل ما شدني للرواية أسلوبها السهل الممتنع والمتأثر كثيراً بالأدب الروسي التي تخصصت فيه الكاتبة والذي عشقته أنا منذ صباي، عندما كنت أقرأ الترجمات الإنكليزية لأعمال دستوفسكي الذي لا أزال أرجع إليه بين الحين والآخر. وأسلوب السرد في الرواية "إذا الأيام أغسقت" يذكرنا بروايات ترغنيف، خصوصاً رواية "الحب الأول" و"العشية" و"الآباء والبنون"، التي تجعل القارئ مشدوداً الى أحداث وأشخاص الرواية متلهفاً لمعرفة النهاية وما يحدث لكل واحد منهم وكأنه يعيش بينهم ويشاركهم مشاعرهم ويريد أن يعرف مصير كل منهم. وحتى قد يصاب بالحسرة لأن الرواية قد انتهت. واللافت في أسلوب حياة متانة اللغة العربية وجمال التعبير، فإنها من بيت أدب ولغة، ويبدو تأثرها بالأسلوب اللغوي للقرآن الذي تقتبس منه ]يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه[ سورة عبس. ويبدو أن عنوان الرواية نفسها على اتساق لغوي مع القرآن ]إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت...[ سورة الانفطار 82، وكذا ]إذا الشمس كورت، وإذا الكواكب انكدرت... وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت..." سورة التكوير 81. ولعنوان الرواية سحر خاص، فالغسق هو الظلام الشديد "ومن شر غاسق إذا وقب" سورة الفلق. غير أن اشتقاق الفعل من الكلمة أمر نادر، ولهذا السبب فقد يستعصي على البعض فهم المقصود من العنوان، الذي يدل لغوياً على انحسار الضوء من أيام عراق الأمس. غير أن هناك في الأدب الغربي معنى مجازياً للغسق، وهو الأفول أو الانحطاط أو نهاية البطل، كالاصطلاح الشائع بأفول الآلهة كما ورد في رباعية ريتشارد فاغنر الأوبرالية في قسمها الأخير حيث يرمز عنوان "أفول الآلهة" الى نهاية البطل سيغفريد وموته. ولعل حياة كانت تقصد ذلك، أي أفول الحضارة وانهيار الفكر في العراق. "إذا الأيام أغسقت" علامة فارقة ونقطة تحول في أدب الرواية في العراق الذي اشتهر بأدب القصة القصيرة، التي توجها فؤاد التكرلي فالرواية سجل ثري ورائع لحياة المثقفين العراقيين القابعين تحت الظلم وحصارين خارجي وداخلي وفي نفق مظلم لا أثر لضياء فيه وغسق طويل لا أحد يستطيع ان يعرف إذا كان هناك يوماً يكون فيه شروق أو شفق. عندما يسترد العراق حضارته ستقرأ الأجيال المقبلة رواية "إذا الأيام اغسقت" وسوف تتعجب من خيال الكاتبة، من دون ان يعرفوا أن حياة شرارة كتبت قصة حقيقية دارت حوادثها في بغداد مدينة الحضارة والإبداع العلمي والأدبي، وهي نفسها بغداد التي غدت تنجب اليوم رؤساء عرفاء يمنحون رتبة فريق ركن، وسائقي حماية يرتقون الى أعلى المناصب ويتصرفون ببلايين الدولارات، وأنصاف أميين ممن لم يكملوا الشهادة المتوسطة يتقلدون أعلى المناصب، وأشباه متعلمين يحملون ألقاب بروفسور... الخ أما المثقف فليس له مكان، فهو إما قابع في بيته مكسوراً أو مسجوناً أو مهاجراً يعيش في الغربة وهي سجن من نوع آخر. لندن 18 أيلول سبتمبر 2000 * كاتب عراقي.