جسده المضني انحسرت عنه سورات النشوات القديمة، التي لم يعرفها بعد، وكانت كامنة فيه. فجوة واحدة بين صخور الحبل الرمادي الحار، مفتوحة على سماء حجريّة لا استجابة منها، بيضاء غير صافية البياض، مشتعلة. شجرة الدوم نحيلة، عتيقة، عليها طبقة خفيفة من التراب، أغصانها تنوس في نعمتها القاحلة، على الجذع المكين المشقّق، يعرف أنه لا حظّ له منها إلا نظرات أخيرة، واهنة، ربما، لكن فيها حدة النهايات. أحس في سمائه الداخلية رفرفة طيور الفراق، مازالت جُثُوماً بعد، فهل هي على أهبة الانطلاق؟ الألم في ضلوع صدره رقيق لكنه لا يريم، وفي عينيه سحابات غائبة. رأى في غَبَش سحابة ملتبسة، الجسم الأنثوي الصغير عارياً، لا مناعة له في الظاهر، لكنه حصين في نعومته، يبدو أنه مُعَرض للبلى سريعاً. ها هو الآن قد هاله الزمن، يقف أمام نهايته، وبجانبه أسدٌ مقتول - هل قتله أم سوف يقتله؟ - ممدّد الأطراف، مخالبه المقوسة الطويلة ناشبة في تراب الأرض الخام غير المستوية، بلا جدوى. رأسه مثقوب بطلقة رصاص واحدة، شعر لبدته الغزير الثقيل نازل عن الكتفين المنهارتين، فيه خصلٌ ملبّدة بالدم، لكن فيه كرامة لا تُنال. كان كل شيء صامتاً رمادياً أغبر في هذا الفجر الساخن الذي يُخيل بأنه فَجْرٌ صعب المجيء. صمتُ بدء الخليقة قبل أن تنطلق صرخات الطيور من وكناتها. فلما عاد إليه ذلك الصباح، رأى بالتأكيد، أنه على بسطة السلّم الحجري، من غير سياج، ملاصقاً لحائط البيت القديم، تهبط درجاته إلى الفناء الواسع الذي لم تصله أشعة الشمس بعد. رأى نفسه طفلاً، صغير الجسم جداً، يقظ الوعي. كان جالساً على أرض البسطة الحجرية، بجانب الزير العالي يكاد يلتصق ببطنه الفخاري العتيق المحبب بثغرات دقيقة جداً، مندّى ندى خفيفاً بنضح الماء عليه، يعطيه هذا النضح ملاسة وليونة على صلابة جسمه المتين، نصفه منير بوهج الصبح الباكر ونصفه الآخر معتم قليلاً لكنه واضح الاستدارة والكمال. كان حسه بالطفلة إلى جانبه حساً نقياً. وكان يعرف أن اسمها مارينا. الأنس بمجرد وجودها معه عاد إليه، بكل قوة الطفولة، أن يتجاوز الحب أو الشهوة. سوف يعرفهما، الحب والشهوة، بكل عرامتهما وجموحهما وإلحاح نهشهما لروحه مع هذا الأنس نفسه، بوجود التجسد الأخير لمارينا معه، في الزمن الأخير، لكن حسه بهذا الأنس هذا الصلح، أشمل وأعمق من سورات النشوة القادمة في مقتبل الزمان، أهدأ وأروح وغير موضوع للسؤال أو تقلّب الهواجس. كانت القصعة المسطحة الواسعة تحت الزير تترقرق بماء صافٍ في مثل صفاء روحه الطفلية، تناثرت فيه حبات قليلة من نوى المشمش، بلونها البني الخشبي المرسوم بخطوط منبعجة طولية في غاية الرهافة، يضخم الماء المتموج فوقها من حجمها، بينما كان يعرف أن قعر الزير، من جُوّه، قد امتلأ بنوى المشمش، وفصان البلح الصغيرة المستدقة، لأن أباه كان قد رفعه إلى فوهة الزير الواسعة وشال عنها قرص الغطاء الخشبي المدوّر إذ أمسك بالعارضة البارزة التي تضم نصفي القرص أحدهما إلى الآخر بمسامير خشبية عاشق ومعشوق، أعطاه أبوه قبضة من نوى المشمش الجاف وقال له: أزْجُلْ يا سيدي يابن ستي. أزجُلْ النوى في الميه تحصل البركة من يدك، أزجُلْ. وعندما رمى الحبات في عتمة الزير سمع صدمة طرية إذ سقط النوى في عمق الماء، وسمع له بقبقة سريعة متتالية بانبثاق فقاعات الهواء من على سطح الغمر. كان باب غرفة النوم الكبيرة مردوداً، خشبه الثقيل قد بهت لونه قليلاً عند حافة احتكاكه بالحائط الحجري، وكان عالياً جداً في عيني الطفل، يحجز دونهما، هو ومارينا، عالم الكبار الحافل بما هو غير مفهوم وربما غير ضروري. كان قد نزل. كاد يتدحرج ويقع من على السرير الضخم الذي تنام عليه أمه وأبوه وهو وعايدة الصغيرة، معاً، رفع طرف الناموسية البيضاء الكثيفة، وعندما وصل إلى الباب ردّه بجهد وعناء ولكن بفرح التشوّف والمغامرة. ألم يكن هذا شأنه على الدوام؟ خرج إلى بسطة السلم فوجد مارينا قد استيقظت قبله، وجلست تحت الشباك التي تخترق الشمس ما بين أخشاب ضلفتيه، خطوط من النور رفيعة مستقيمة تقع على جانب وجهها وشعرها، وهي متربعة على حجر بسطة السلّم. ساقاها الصغيرتان حتى في هذه الطفولة مليئتان ومخروطتان بانسياب، انكشفتا تحت فستانها الخفيف المشجّر بالأحمر والأزرق، يشف عن قميص داخلي ضيق غامض اللون. هل كان ذلك أول الصبح بدري بدري؟ لم يكن في البيت الكبير صوت، لم تدب إليه بعد ضجة الحياة اليومية المليئة بالأحداث. كانت أشعة الشمس تسقط على الماء الذي تهتز له مويجات رقيقة في القصعة العريضة العميقة، تنفذ خيوط الضوء، حادة وناعمة في الوقت نفسه، إلى عمق هذا الماء، وتقع على حبّات نوى المشمش فتعطيها حياة أخرى وتبدو كبيرة، مليئة بالسرّ. قطرات الماء تسقط، مدوّرة ناضجة، كبيرة، واحدة بعد الأخرى، بتمهل. بين هبوط قطرة الماء وتكوُّن القطرة التالية وانفصالها عن جسم الزير زمن يتصوره طويلاً جداً، ترتطم بسطح الماء المشع فتستدير لها موجة دائرية تنداح باتساع وتخفت حدة دورانها حتى تصطدم بحافة القصعة وتذوب بهدوء. مارينا - دائماً أشجع منه وأقدر على المبادرة - تمد يدها الصغيرة وتلعب بحبات النوى تحت الماء المروّق الذي سوف نشرب منه. سمع صرخة ثاقبة. كان أبوه قد قال له: هذا الصقر، يحلق عالياً جداً في السماء يا ولدي، لكي يحرس أخميم من كل شر، هذه صرخته الحادة إذ يلتقط ببصره النافذ تلوبات الثعابين على الأرض، فيهرب الثعبان الى جحره بأسرع ما يستطيع قبل أن ينقض عليه الطائر من السماء. لم تكن الصرخة نذيراً في السماء الساطعة بشمس هذا الصباح، بل لعلها كانت في حسه نوعاً من تأكيد الحس الشامل بالأنس وبنعمة اليوم الجديد. لا يستطيع أن ينسى مشهد الماء المهتز على سطح القصعة الفخار الملساء، وفي قاعها العريض العميق وعليها حبات نوى المشمش، تخترق جسم الماء خطوط شمس صبحية أخميم، بنعومةٍ ومضاءٍ معاً. مرت أمامهما بسرعة عقرب كبيرة متجهة إلى جحر لها في ركن البسطة، كانا يرقبانها بلا قلق، بشيء من اللامبالاة، وبفضول. مرّت من أمامهما بسلام. كان مثول هذا المشهد، ودوامه في روحه، احتفالاً متجدداً بنعمة لا نكران لها حتى إن شابتها وضربتها طعنات كثيرة. وجه مارينا دمث السمرة. شعرها الأكرت مضفور ضفيرتين صغيرتين مربوطتين بفيونكة من قماش فزدقي انفكت أطراف عقدتها وتهدلت، عيناها الخضراوان الواسعتان شمس أخرى فى هدأة نصف العتمة نصف النور التي تكسو وتبطن كل شيء، بنوع من السكون والصمت لا حاجة فيه للكلام. هل يذكر أي كلام دار بينه وبين أنس العالم في ذلك الصباح؟ لعله لم يكن بحاجة للكلام إلا بعد ذلك بسنوات كثيرة. ليته ما كان بحاجة للكلام يعرف أنه إذ يَمْتع النهار قليلاً وقبل أن تحترق أخميم بصهد الظُهر سوف يخرج الى سطح البيت الذي عمرته صوامع الغلّة وأبراج الحمام المدهونة بالأبيض، وعشش البط والوز والدجاج المختبئ من الحر في ظل جدار السطح، تنافح عنه الديوك والذكور بفحيح وهجوم غير هياب بالمناقير المشرعة. وبجانب سور السطح ترتفع رصة الألواح الخشبية التي يقرّص عليها العيش الشمسي. كان يصعد الى السطح، يتدأدأ ويحتمي من الحر في ظل صوامع الغلة أو أبراج الحمام، يرقب أقراص العجين على الألوان الخشبية، تسخن تحت الشمس في وقدة السطوع الثابت، قبل أن تُسحب وتوضع في الفرن الذي يوقد ويترك حتى تفتر حرارته، إلى أن ينضج العيش وتفوح له رائحة شهية. كانت حنينة التي تشتغل عند عمتي ديماريس تعمل في الخبيز بعد الظهر عندما تحمى أقراص العجين ويقب سطحها. أقف بجانبها مفتوناً وهي تبدأ بأن تدخل أقراص الجلّة المدوّرة من الفتحة السفلية على الجانب الأيسر للفرن، وتغذيه من دون توقف بحطب القطن الناشف وأعواد الذرة الجافة بعد أن تقصفها الى أجزاء صغيرة. والفروع الرفيعة الذابلة التي يكسرها لها الولد خِلّة ابن روماني من شجرة الجميز العتيقة، وهي تحرص طول الوقت أن يظل الفرن فاتر الحرارة، يتقد للنار وهيج هادئ له وشيش وفحيح خافت. ومن الفتحة العلوية على أرضية الفرن المسطحة المصقولة السوداء يخرج العيش الشمسي، سطح كل رغيف قبة مدورة ناضجة وفواحة، تجره حنينة بعصا معقوفة الطرف من فوهة الشابور الخلفية الذي هدأت ناره الآن، بعد أن كانت حنينة تؤرثها بين كل أونة وأخرى. ياما أكّلتني حنينة البيض المشوي، على مهله، على قرص الفرن الساخن، وياما شربت بعده من قسط اللبن الدافئ المحلوب تواً من جاموسة ابن عمتي الخواجة شفيق ديمتري. وكما كنا كلما لبسنا الحذاء أو جلسنا على الكرسي أو تمددنا على سرير - بعد ذلك بسنين - ننظر أولاً بحرص وننفض البنطلون أو الجلابية بقوة، ونستوثق تماماً من أن الفراش أو الملاية أوالشلتة بريئة من العقارب المستكنة فى الثنايا. كانت حنينة - يذكر الطفل ذلك ذكرى حادة - في كل مرة توقد الفرن، تنطلق عقرب أو أكثر من قرص الفرن الناعم الصلب، بسرعة خافتة. وفي كل مرة، والطفل يرجع للوراء خطوتين ثلاثاً ويكتم صرخة تفاجئه هو نفسه، كانت المرأة العجوز القوية على استعداد، ممسكة بالبشكور الطويل الصلب معقوف الطرف الذي تجذب به العيش بعد نضجه، تضرب به العقرب المندفعة شائلة الحُمة، ثم تمسح القرص الذي بدأ يدفأ بخرقة نظيفة منداة بقليل من الماء مسحاً وثيقاً وهى تتمتم. * كاتب مصري.