ليس في الذاكرة العربية الحديثة ما يشير إلى أن الموقف الرسمي العربي كان يوماً في صورة تبعث على الأمل. لكن هذا الأمر تبدّى في الأسبوعين الأخيرين بصورة غير مسبوقة تجمع بين العجز المشوب بدرجة عالية من الإرتباك. وفي غمرة الإهتمام الشعبي بتطورات إنتفاضة الأقصى والتفاعل معها طفى المشهد الرسمي العربي ليصبح هو الموضوع الرئيسي للأحاديث المتداولة، والتعليقات الساخطة والساخرة معاً، سواء في المجالس أو الكتابات الصحفية في أرجاء العالم العربي. أبرز معالم الإرتباك في الموقف الرسمي العربي تبدى بشكل واضح في إضطرار الدول العربية إلى تبني الطروحات الأميركية حول أهمية تهدئة الأوضاع في الأراضي المحتلة وإيقاف الإنتفاضة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه التغاضي عن المواقف الأميركية التي تبرئ الساحة الإسرائيلية من مسؤولية إنفجار الإنتفاضة الفلسطينية. من ناحية أخرى، إجتاحت الشارع العربي موجة عارمة من الغضب والإحتجاج على ما يحدث للشعب الفلسطيني من قتل وقمع وحصار على يد قوات الإحتلال. وتم التعبير عن هذا الموقف بأشكال مختلفة في أرجاء العالم العربي. في أغلب البلدان العربية إتخذ التعبير شكل التظاهرات والمصادمات مع رجال الشرطة. أما في بعض البلدان العربية الأخرى، فانعكس التعبير في الإندفاع الكبير نحو التبرع لدعم الإنتفاضة إستجابة للدعوة الرسمية لذلك. ومهما كان شكل التأييد الشعبي الجارف للإنتفاضة، فإن الأنظمة العربية وجدت نفسها بين مواقف متناقضة لا بد من الإختيار بينها وبسرعة، فلحظة القرار كانت قصيرة. أول مظاهر الإرتباك الرسمي العربي إزاء الأحداث كان في الإعلان عن عقد مؤتمر القمة العربي في بداية السنة الميلادية، أي بعد أربعة أشهر من إندلاع الإنتفاضة. وقد عكس هذا هدوءاً رسمياً مبالغاً فيه في مواجهة سخونة الأحداث على الأرض، خصوصاً العنف الإسرائيلي المتوحش في رده على الإنتفاضة، مما تسبب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين قتيل وجريح، وبشكل يومي. لكن هذا القرار يعكس ما إعتبره بعض القادة "عقلانية" لا بد من التحلي بها في مواجهة موقف مشحون بالعواطف الجياشة، وهي عواطف لا ينبغي، في كل الأحوال، أن تكون هي الموجّه الرئيسي لعملية إتخاذ القرار في مثل هذه الظروف. من حسن الحظ أن "العقلانية" العربية إكتشفت خطأ تقديرها، فتم تقديم موعد إنعقاد القمة ليكون في 21 من هذا الشهر أمس. في الوقت نفسه كان هناك، إلى جانب ضغط الأحداث، ضغوط الإدارة الأميركية لعقد قمة شرم الشيخ الثانية بحضور الرئيس ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، إلى جانب الرئيس حسني مبارك والرئيس الأميركي بيل كلينتون، على أن تكون هذه القمة تحت رعاية الأخير. كانت الجهود الأميركية في هذا الصدد تنصب على أن تسبق قمة شرم الشيخ القمة العربية، وذلك لتفادي أية قرارات متشددة قد تتخذها الأخيرة وتحد من حرية الأطراف العربية في قمة شرم الشيخ. وبما أن الهدف الأميركي في ذلك الوقت كان محصوراً في وقف المواجهات في الأراضي المحتلة، والعودة إلى طاولة المفاوضات، رأت الإدارة الأميركية أن تسبق قمة شرم الشيخ القمة العربية، وذلك لوضع سقف محدد يصعب على الأخيرة تجاوزه، أو ما يسميه البعض "إجهاض القمة العربية". هل كان حسم الموضوع لصالح عقد قمة شرم الشيخ قبل القمة العربية تعبيراً عن إنتصار "العقلانية" العربية، أم إنتصار الضغوط الأميركية؟ قد يكون الأمر خليطاً من هذا وذاك. وفي كل الأحوال عبر إنعقاد هذه القمة عن إستمرار الإرتباك والعجز العربيين إزاء الأحداث. فمن ناحية، سُحبت الشروط لإنعقاد القمة، ومنها وقف العنف الإسرائيلي، وسحب باراك تهديداته للسلطة الفلسطينية. وقد تم تبرير ذلك، بأنه لم يكن هناك مناص من لقاء قمة شرم الشيخ لوقف قتل الفلسطينيين، ولفك الحصار على المدن والمعابر الفلسطينية، وللحفاظ على السلطة الفلسطينية. وتم التأكيد على أنه من دون قمة شرم الشيخ قد يصل عدد القتلى الفلسطينيين إلى ثلاثمئة قتيل، وأن الغذاء والدواء سينقطع عن الشعب الفلسطيني، والله أعلم ماذا كان سيحدث للسلطة الفلسطينية. هذا يعني أن القمة إنعقدت بالشروط الإسرائيلية، وأن آلية العنف التي وظفها باراك قد نجحت في تحقيق ذلك. وفي الوقت نفسه يعكس هذا مدى العجز العربي في مواجهة الأحداث، خصوصاً تجاه التهديدات والضغوط الإسرائيلية. ولا بد في الإطار نفسه من ملاحظة أن قرارات قمة شرم الشيخ الثلاثة التي تم الإتفاق عليها من دون تواقيع هي ترجمة شبه حرفية للأهداف الثلاثة التي حددتها وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، في مقال لها نشرته في صحيفة ال"واشنطن بوست" الصادرة يوم الأحد 15 الشهر الجاري، أي قبل القمة بيوم واحد. الأهداف الثلاثة التي ذكرت الوزيرة في مقالها بأنها كانت الموجهة للسياسة الأميركية منذ إندلاع المواجهات الأخيرة هي: وقف العنف، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الولاياتالمتحدة، وإيجاد طريقة للعودة إلى طاولة المفاوضات. لم تتضمن هذه الأهداف أي شيء عن الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا، أو عن الحقوق التي سقطوا في سبيلها. على العكس، من الناحية الضمنية كانت هناك مساواة بين القاتل والضحية من حيث المسؤولية عما حدث. وهي المساواة نفسها التي تضمنتها قرارات شرم الشيخ. اللافت هنا أن الشارع العربي يرفض المواقف الرسمية، ومحاولاتها التحصن وراء مفاهيم مثل "الواقعية"، و"العقلانية". فالتظاهرات الضخمة التي جابت، ولا تزال، الشوارع، خصوصاً في المدن الفلسطينية، أعلنت رفضها قمة شرم الشيخ ومقرراتها، وتطالب بإستمرار الإنتفاضة. كما تطالب الجماهير القمة العربية بإتخاذ مواقف أكثر حسماً، خصوصاً لجهة قطع العلاقات العربية مع إسرائيل. هذا التناقض بين الموقفين الشعبي والرسمي يعكس مدى الفجوة التي تفصل بين الإثنين، وهي فجوة تشير الأحداث الى أنها آخذة في الإتساع. إرتباك الموقف العربي تبدى أيضاً في سابقة لم تحدث من قبل، وهي تبادل التراشق الإعلامي بين بعض القادة العرب حول كيفية مواجهة الموقف في الأراضي المحتلة. كانت العادة أن تعبر الدول العربية عن خلافاتها من خلال أجهزتها الإعلامية. لكن هذه المرة، وتحت ضغط الأحداث، تم التعبير عن تلك الخلافات بشكل مباشر بين الزعماء أنفسهم خلال الأسبوع الماضي. أول من فجر الخلاف كان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي الذي أعلن إعتراضه على عقد قمة ليست مهيئة لإتخاذ قرار واضح بدعم الإنتفاضة الفلسطينية، وبقطع العلاقات العربية مع إسرائيل. وشاركه في الرأي الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي دان قمة شرم الشيخ ووصفها بأنها "خيانة" للفلسطينيين، ودعا الدول العربية الى المشاركة في النضال ضد إسرائيل. وقد جاء الرد على الزعيمين الليبي واليمني من الرئيس المصري حسني مبارك، حيث إتهمهما، من دون أن يسميهما، بأن مواقفهما تلك موجهة للإستهلاك المحلي ليس إلا. وإذا كان موقف العقيد القذافي ليس مفاجئاً، فإن موقف الرئيس اليمني لم يكن متوقعاً، خصوصاً في وجه تنامي علاقات التعاون بين اليمن والولاياتالمتحدة. وهو التعاون الذي إنعكس في الجهود المشتركة للطرفين في التعامل مع التفجير الذي تعرضت له المدمرة الأميركية "كول" في ميناء عدن. ومهما كانت الأسباب والمبررات وراء هذه المواقف المتقاطعة بين بعض الزعماء العرب فإنها مواقف تعكس عجز الموقف العربي وإرتباكه في مواجهة الأحداث، خصوصاً مواجهة ما كشفته هذه الأحداث من أن عملية السلام بصيغتها الحالية قد وصلت إلى طريق مسدود، وربما أنها سقطت ولم تعد قابلة للإحياء مرة أخرى. صيغة عملية السلام هذه كما هو معروف تقوم على ثلاثة عناصر: رعاية أميركية حصرية، تحالف أميركي إسرائيلي إستراتيجي، وغطاء عربي للتنازلات الفلسطينية. أما المبادئ التي تهتدي بها عملية السلام فهي: غموض بناء في صياغة الإتفاقات، لانهائية الإطار الزمني للعملية، وأولوية الأمن الإسرائيلي. لكن الإنتقال إلى مرحلة الحل النهائي كشف عدم قابلية هذه الصيغة للإستمرار، خصوصاً لدخول عنصر جديد إلى العملية، وهو عنصر الشارع الفلسطيني بالزخم والإستعداد للتضحية الذي تبدى في الاسبوعين الأخيرين. قبل ذلك كانت قابلية تلك الصيغة للتطبيق تعتمد على كونها محصورة في الأطراف الرسمية، وعلى أنها كانت تعالج قضايا المرحلة الإنتقالية، وهي قضايا أقل من حيث الأهمية والحساسية من قضايا المرحلة النهائية. لذلك فإن دخول الشارع في المعادلة، ومواجهة مسائل المرحلة النهائية مثل القدس واللاجئين، وضع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في مواجهة على الأرض وليس على طاولة المفاوضات. من هنا فإن إستمرار الموقف الرسمي العربي في تعامله مع الأحداث على أساس الصيغة التقليدية لعملية السلام فيه تجاهل لما إستجد من أحداث، وما طرأ من ظروف. كما أن التعامل الرسمي العربي مع عملية السلام وكأنها لم تتغير يعكس، كما أشرنا، تناقضاً مع الموقف الشعبي كعامل إستعاد فاعليته في العملية. وهو تناقض يعكس مدى الفجوة التي تفصل بين الإثنين. * كاتب سعودي