ان توخينا الاختزال، وهو ادعاء تبسيطي، فإن مسيرة الرسام القطري علي حسن الجابر هي مجموعة محاولاته للإفلات من قدر حرفته: خطاطاً. كأن لوحاته في الجزء الأعظم من معالجاتها الجمالية، مسعى لفض الاشتباك بين الخط والرسم. فلم تعد عقدة الخطاط تتحكم بخطواته بعد أن قضى سنوات وهو يسعى الى المواءمة التي لم تكن إلا تعبيراً عن فعل أخلاقي، حاول من خلاله أن يكون وفياً للخط العربي وهو يتوق الى صوغ لوحة حديثة. هذا السلوك المزدوج أنتج رسوماً ذات حساسية بصرية مرحة تغلب عليها حيوية الخط وقدرته على الاسترسال في الإيحاء بحرية خادعة. في حين يكون في حقيقته إنما يمارس اخلاصه لعبويته الداخلية في أكثر صورها امتاعاً وألفة. كان الخط العربي رفيق صبا هذا الرسام ومؤنس وحشته في مدينة يستهلك الفضاء جزءاً عظيماً من تشكيلها الأفقي الممتد بين البحر والصحراء. وكان الخط وهو وديعة المقدس، علامة استئناف لحياة خفية، حياة يمارس من خلالها الخطاط، وهو ما كان الرسام الحالي، التماهي مع صبواته ونزقه ومرحه ودعته وجنوحه الى تفرده، ولكن من غير أن يثلم رصانة القواعد التي يتطلبها الخط، ويمكننا تبين هذه النزعة في عدد من ورقيات علي حسن المنفذة بالحبر أو تلك التي نفذت بطريقتي الطباعة من خلال الشاشة الحريرية السلك سكرين أو عبر وسيط معدني هو صفيحة الزنك. حاول الرسام في هذه الأعمال أن يمتحن الخط لا من خلال التشكيك به أو زعزعة ثقته الصارمة، بل من خلال اللعب معه في اتجاهين: افراغه من المعنى المحمول والاكتفاء بكيانه الشكلي مصدراً للسحر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تفكيكه، فيحل نوع جديد من العلاقة بين كليته والأجزاء. فلا تكون علاقة الأجزاء بالكل مثالية في الانصياع والخضوع، بل انها تشي أحياناً بالتمرد والتحرر وتلمس الطريق في اتجاه جماليات تتعثر بلذائذها البصرية المبتكرة. ومع ذلك فقد مثلت تلك المحاولات إحساساً بالتململ الداخلي. هذه الحال انقلبت جوهرياً بوقوع الرسام تحت سحر حرف النون. وهو سحر لم يكن جديداً على الرسام إلا بحجم اجتياحه الحالي ونوع ما أدى اليه من تغيرات على مستوى بناء اللوحة. لقد أدى الاهتمام الجمالي بالحرف لذاته الى أن يشكل الحرف بحرية واضحة جعلته يفارق أي نظام "قواعدي" سابق. وهو لذلك يكتسب تأثيراً مفعماً بجدته مع كل لوحة جديدة. هذا على مستوى سلوك الحرف الشكلي، أما على مستوى البناء فإن الرسام علي حسن يستلهم الحرف حدثاً طارئاً مفارقاً لجسده، منفعلاً بأدائه. ضاجاً بما يحدثه وجوده المفارق هذا من تلاقيات صادقة على سطح اللوحة بين مختلف البنى الشكلية التي يوحي تراصها بانتمائها العضوي الى الداخل، بتشظي الحرف، وهو هنا، النون بالتحديد. صار الرسام يرى في السطح وقائع متخيلة تظهر بشكل مستتر وكأنها نبوءات. فما يظهر منها يوحي بكثافته، وهو برهان سري مستمر. فالرسم هنا لا يقيم على السطح، فحسب، بل وفي داخله وتحته ومن خلاله، وفي ما لا يرسم منه أيضاً. ويكون السطح بذلك ملاذاً آمناً للأشكال، التي لا تبدو انها تعاني من عقدة عدم اكتمالها أو غيابها الجزئي. هذا الإخفاء الذي يتباهى بعفويته، التقنية على الأقل، إنما يطلق العنان أمام التخيل، فيفارق الحرف دوره التلقيني الذي ينسجه الخطاط بصرامة، ليكون جزءاً من عالم هو قيد التشكل، عالم يكون مؤهلاً للمضي في حطامه، وراء كل أمل غامض. علي حسن، الآن في نونياته، لا يستلهم جماليات الحرف، بل يملي على الحرف حيرته وضناه التعبيري. انه يقتبسه ليضمه الى عالمه المتشظي لا ليتغنى بترفه. لقد غادر الحرف منطقة رخائه وكسله التعبيري، وبدلاً من أن يكون حاملاً للمقدس الجاهز ومبشراً به، صار محمولاً على سطح متفجر. سطح هو عبارة عن سطوح متراكمة، لا يخفي بعضها البعض الآخر، بل تتقاطع وتتداخل وتتراخى ويُنهك بعضها في تفسيره البعض الآخر. وكأنها تتحاشى الاعتراف بقدرها التراكمي. وهنا بالضبط يستعين علي حسن بخبرته الأكاديمية، دارساً للآثار ومعقباً عليها. لوحاته الأخيرة تستلهم التنقيب وتقترب من حذر حساسيته. تشير الى الأرض بخفة وكأنها تمارس نوعاً من الاشراق الذي ينكر الوصف، تتصدى للواقعة بخفر وكأنها تسعى الى انعاش خيلائها الحلمية. لا علامات، لا رموز، لا أشكال واضحة، ولا أبنية متماسكة. فالسطح يكتسب جمالياته من الممكن الهذياني المستمر. هناك دورة غير مكتشفة لإيقاع وهمي. دورة يكون الرسام حارسها ورائيها الوحيد. الحرف مع علي حسن صار يهذي بما لا يمكن توقعه، وهو الممتلىء بنبوغه البلاغي، الذي يصل حدود الدهشة. وإذا ما كان هذا الرسام لا يزال متمسكاً بحروفيته، بعكس الحروفيين الآخرين وعلى رأسهم شيخهم العراقي شاكر حسن آل سعيد، فإنه قاد الحرف في اتجاه فنائه الجليل والمبهر، ليكون جزءاً من فعل اكتشاف جمالي، هو جوهره المحرض، وهو بذلك يكون مادة الهدم وداعيته.