يقول بول سميث، أحد اقتصاديي الموارد البشرية، إن رأس المال البشري هو التأثير المتراكم للتعليم والتدريب على رأس العمل، وان جزءاً من رأس المال البشري يضيع. على هذه الخلفية يمكن التساؤل: ما موقف المجتمع، أي مجتمع، عندما يخسر أبناء بررة في حرب؟ وما موقفه عندما تضيع مئات الآلاف من سنوات الكد والخبرة؟ وكيف يتصرف المجتمع عندما يكون لزاماً عليه أن يتنازل عن "منحنى التعلم" لشريحة واسعة من عمالته، وكأن اقتصاده باب دوار يدخل عمالة لتمكث بعض الوقت ثم لا تلبث أن تغادر بعد سنوات وهي محملة بالخير، وبطبيعة الحال، ليس بالإمكان سلب أحد خبرته، لكن يمكن اكتساب تلك الخبرة واستنساخها إن جاز التعبير ثم تطويرها. ويمكن الجدل أن الحرص على الحد من الانكشاف البشري على الخارج من ضرورات تعزيز الميزة التنافسية وامتلاك أسبابها. ومهما أسهبنا في التفكير والتدبر سنجد أن تأهيل الموارد البشرية المحلية هو الصيغة الأنجح لتحقيق مكاسب متزايدة في اقتصاد دولي ينحاز للمعرفة ويبتعد بتؤدة عن الاعتماد على الموارد الخام والجهد العضلي بصورة أكثر تحديداً، والاقتصاد السعودي أمام تحدٍ للحفاظ على ثمار الأنفاق الضخم على تنمية الموارد البشرية، والذي يُقدر بنحو 670 بليون ريال على مدى العقود الثلاثة الماضية. أصحاب المعرفة لعل من المفيد أن نسبة محدودة من قوة العمل هي من أصحاب المهن، حيث تُقدر نسبة أصحاب المهن الفنية والعلمية بنحو 16 في المئة من إجمالي القوى العاملة في السعودية قرابة 1.1 مليون عامل ويبدو أن هذه الشريحة، ذات العلاقة المسيسة بالجاهزية للاقتصاد المعرفي، لن تشهد تغيراً يذكر من حيث ايجاد فرص عمل جديدة حتى سنة 2004، وفقاً للإسقاطات الرسمية، لكن الأمر الملفت أن قرابة 200 ألف وظيفة مهنية فنية وعلمية سيشغلها خلال الفترة المذكورة مواطنون محل وافدين، أي بمعدل 40 ألف وظيفة سنوياً. يبقى العنصر البشري هو المحرك الحقيقي لأي نهضة اقتصادية، فالعقول الحاذقة هي التي صنعت كل ما حولنا ليس فقط من منتجات معقدة، بل من خدمات مربحة، وإدارة مدبرة وخطط تؤمن فرص النجاح، وغني عن القول ان لكل مجتمع صفاته واهتماماته التي تعكسها أولوياته المعلنة أو المنفق عليها في الوعي العام للمجتمع، ولعل الحرص على تحقيق الذات ورسم معلم حضاري راسخ هو ما يدفع الأفراد والشعوب للنبوغ والعطاء. وبذلك تتجسد أهمية إبقاء جذوة العطاء متقدة والرغبة في التعلم والتطور الدائمين متجددة، ضمن استراتجية وطنية لتنمية رأس المال البشري، وليس محل شك أن أهمية مساهمة رأس المال البشري ازدادت حرجاً مع بروز معالم الاقتصاد المعرفي الذي يشمل الاقتصاد الرقمي. احصاءات تجدر الإشارة إلى أن السعودية حققت نمواً بشرياً عالياً في العقود الثلاثة الماضية بلغ متوسطه السنوي نحو 4.4 في المئة، أي أكثر من ضعفي معدل نمو سكان العالم، وبطبيعة الحال، انعكس هذا النمو على عدد سكان المملكة الذي قدر بحوالى 9 ملايين في عام 1980، وارتفع إلى 19 مليوناً عام 1996ويتجاوز حالياً 21 مليوناً. ووفقاً لتقديرات البنك الدولي من المتوقع أن يبلغ عدد سكان المملكة 31 مليون نسمة سنة 2010، بافتراض تباطؤ معدل النمو السنوي للسكان الى ما متوسطه 3.3 في المئة، وطبقاً لتعداد السكان والمساكن، يشكل غير السعوديين 26.4 في المئة من السكان، معظمهم 70.4 في المئة من الذكور، وفي ما يخص السعوديين تبلغ نسبة من هم في سن العمل بين 15 - 64عاماً حوالى 47.5 في المئة منهم 2.9 مليون ذكر، و2.9 مليون انثى. ويبدو أن عدد السعوديين ممن هم في سن العمل سيتزايد مع مرور الوقت، وأكبر شريحة عمرية من حيث العدد حالياً هي 5 - 9 سنوات التي تمثل 17 في المئة من السعوديين في حين أن عدد الذين يتأهبون للتقاعد 50 - 64عاماً لا يتجاوز من ذكور وإناث 722 ألف نسمة... وعلى وجه التقريب فإن مقابل كل مواطن أو مواطنة يتجاوز سن العمل نتيجة للتقاعد مثلاً يدخل 8 سعوديين. ولعل من المفيد التذكير بأن المعلن عن العمال الوافدين في الاقتصاد السعودي هو سد الفجوة بين العرض والطلب، ولا بد لهذه الفجوة من الانحسار بوتيرة متصاعدة لأسباب ستناقش لاحقاً، ويمثل العمال الوافدون حوالى 4 ملايين من إجمالي تقدره المصادر الرسمية في السعودية بحوالى 7.2 مليون نسمة عام 1999، ويعمل قرابة 86 في المئة لدى القطاع الخاص، الذي يساهم بنحو 51 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. وعلى رغم أن الخطة الخمسية السابعة تتوقع زيادة في مساهمة العمال المواطنين في قوة العمل بمعدل 4.7 في المئة سنوياً، فقد بلغ متوسط ما حوله العامل الوافد الى خارج السعودية 3300 دولار للفرد عام 1999 محتسباًَ وفقاً للبيانات الرسمية المجمعة ميدانياً من المصارف العاملة في السعودية، أي ما يعادل 13.3 بليون دولار في ذلك العام، أما في الأعوام السابقة فقد تجاوز ذلك الحد، وبلغ 15.3 بليون دولار عام 1995 و14.5 بليون دولار عام 1996 و13.8 بليون دولار عام 1997 و14.3 بليون دولار عام 1998. ونجد أن سداد تحويلات الوافدين يستنفد حصة مهمة من حصيلة صادرات النفط، تجاوزت الربع 26.8 في المئة في عام كانت فيه عائدات النفط مرتفعة نسبياً كعام 1996 تجاوزت قيمة صادرات النفط 54.1 بليون دولار وحتى في السنة الجارية من المتوقع أن تسجل ايرادات النفط مستويات قياسية منذ الثمانينات، ومن المستبعد أن تقل فاتورة تحويلات الوافدين عن 20 في المئة من ايرادات النفط، وهذا عبء يعادل ما ينتجه اقتصاد بحجم اقتصاد كينيا أو حتى لوكسمبورغ من سلع وخدمات لمدة عام. وهذا باب من الانفاق يتعذر تبريره اقتصادياً الا إذا كان جزءاً من تعليم وتأهيل الموارد البشرية المحلية، ولا يمكن النظر للكلفة على أنها محصورة في ما تحوله العمالة الوافدة مباشرة، فالانفاق العام على تنمية الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية والصحية قارب تريليون ريال على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتصبح الحسابات أكثر حدة عند الأخذ في الاعتبار أن الاقتصاد السعودي يفقد سنوياً آلافاً من سنوات الخبرة، هي الفارق بين مستوى الخبرة والتأهيل التي أتى بها العامل الوافد الى السعودية ومستوى خبرته عند مغادرته البلاد، ولا يمكن الاستمرار في اهمال هذا الفاقد من دون اكتراث، فتراكم الخبرة والمعرفة هو الأساس في بناء المجتمع، أي مجتمع، لرأس المال البشري ولتنميته وتطويره، وتُقدر نسبة العمال الوافدين التي تحمل مؤهلاً جامعياً في حدود 11 في المئة، أما من الأمية فهناك مؤشرات بأنها في حدود 14 في المئة. ويمكن الزعم أن التحدي الذي على الاقتصاد السعودي اجتيازه هو بناء رأس مال بشري، ولعل نقطة البداية تكمن في التعامل مع الفاقد من رأس المال، فالمتبع حالياً وعلى نطاق واسع أن يأتي الوافد ويمكث سنوات يمارس خلالها خبرته ويصقل مهارته ويحسنها، وهذا أمر حري حسمه من خلال برامج مقننة، فالخبير دوره استشاري وليس ممارساً منفذاً يلتهم فرصة عمل هي حق مكتسب لمواطن. ولعل أحد الخيارات للخروج من مأزق الخبير الممارس، التوسع في صيغة عقود التدرج التي نص عليها نظام العمل الحالي، فيكون الانجاز من نصيب المواطن ليتدرب على رأس العمل ويراكم الخبرة، وبذلك نسخر منحنى التعلم لفائدة العمال المواطنين وتطويرها، بأن يكون الوافد خبيراً يُعلم ويُدرب ويُساهم في اكتساب المواطن أو المواطنة للمهارة. وعلى رغم أهمية صندوق الموارد البشرية والدور الرائد المتوقع له، نحن بحاجة الى مراكمة خبرات ومهارات بذاتها ولذاتها، فكل يوم يغادرنا برفقة فارق كبير في الخبرة مبرمج وطبيب ومهندس وممرض مارسوا العمل هنا لسنوات طويلة، نعود الى نقطة البداية بالبحث عن وافد خبير آخر. خفض وزيادة ولعل من القبول أن قدرة منشأة ما على زيادة السعوديين أو خفض عدد غير السعوديين، أو الأخذ بمزيج من الأمرين هي قدرة متفاوتة، ومن جهة أخرى، فلعل الاقتصاد السعودي بحاجة لزيادة مشاركة السعوديين في قوة العمل بزيادة عددهم زيادة مطلقة كما هي الحال عند تطبيق القرار 50 تطبيقاً حرفياً، لكن يمكن الجدل أن الاقتصاد بحاجة كذلك لتحقيق مكاسب انتاجية حتى يحسن قدرته على المنافسة، ولعل احدى الوسائل خفض العمالة غير الضرورية تتجاوز العمالة في قطاع الخدمات الجماعية والشخصية 2.2 مليون عامل كما أن خفض قوة العمل غير السعودية خفضاً متدرجاً يخفف من التأثيرات السلبية على النمو الاقتصادي ومن مخاطر التضخم ويساهم في الوقت نفسه في خفض الضغوط على حساب المدفوعات السعودي. وهكذا يمكن القول ان خفض العمال غير السعوديين لا يقل أهمية عن زيادة مشاركة المواطنين والمواطنات في قوة العمل، ولا بد هنا من الاستدراك بالقول ان استقطاب العمال الوافدين المؤهلين ضرورة ليس ممكناً التأكيد عليها بما فيه الكفاية، وفي المحصلة، نجد أننا بحاجة الى استراتيجية توظف الموارد البشرية، بما يخدم نمو الاقتصاد الوطني، باعتبار أن الازدهار الاقتصادي هو أساس رفاه المواطن. وعلى علاقة بما تقدم، يمكن الجدل أن خفض قوة العمل الوافدة خفضاً انتقائياً لا يقل أهمية عن زيادة مساهمة العمال الوطنيين في قوة العمل، انطلاقاً من أنهما أمران متكاملان يحققان توظيفاً أفضل للموارد البشرية والمالية المحلية، وهناك حاجة ملحة لاعادة هيكلة العمال الوافدين للجمع بين خفض العدد على اطلاقه واستقطاب المبدعين وأصحاب المهارات العالية التي تساهم في دفع النمو، واذا كانت السعودية قطعت مسافة صعبة على طريق تحسين مناخ الاستثمار العام الماضي، فمسافة مماثلة يجب أن تقطع للتعامل مع قضية استغلال رأس المال البشري، وفقاً لعدد من المبررات منها: - ان السكان يتكاثرون بنسبة 3.3 في المئة سنوياً، أي أكثر من ضعف المعدل الدولي 1.4 في المئة سنوياً. - ان مساهمة العمال الوافدين هي السائدة 55 في المئة، وتشير الاحصاءات الرسمية الى أن عددها تجاوز اربعة ملايين عامل في نهاية عام 1999 مقابل 3.1 مليون عامل سعودي. - ان العمال الوافدين حققوا ايجابياً طفيفاً من حيث العدد. - ان اجمالي العمال السعوديين يرتفع بمتوسط سنوي يزيد على 125 ألفاً. يُشار الى أن مساهمة السعوديين في قوة العمل كانت 39.2 في المئة في نهاية 1994، وارتفعت الى 44.2 في المئة من اجمالي قوة العمل المدنية في نهاية العام الماضي 1999، طبقاً للاحصاءات الرسمية، في حين أن عدد الوظائف في القطاع الحكومي ينمو بأكثر من المتوقع، وتجاوز 900 ألف شخص عام 1999، في حين بينت اسقاطات الخطة الخمسية السادسة أن الاجمالي سيكون في حدود 827 ألفاً. دور الحكومة في حين أن من الصعوبة بمكان تدخل الحكومة في سياسة التوظيف التي تتبعها المؤسسات الاقتصادية، لكن الحكومة تمتلك الحق كاملاً لمنع تجديد رخصة العمل ولتقنين الاستقدام والحد منه، وهذا يجعل ممكناً على الأقل نظرياً تنفيذ استراتيجية تعزز استقدام العمال من أجل رفع وتيرة الانتاج، ولعل هذا الحق يمثل مدخلاً اضافياً لزيادة مساهمة السعوديين في قوة العمل، ولعل من المفيد للمجتمع ككل بما في ذلك أصحاب الأعمال في القطاع الخاص، أن تنظر الحكومة في توسيع مفهوم القرار رقم 50 للموازنة بين جملة أمور منها: - تحسين فرص حصول المواطن والمواطنة على عمل منتج. - تفهم احتياجات القطاع الخاص تبعاً للتقلبات الاقتصادية. - حاجة الاقتصاد الوطني لتحسين كفاءته الانتاجية باستخدام العدد الضروري من العمال من دون تكديس. واضفاء مرونة عند تطبيق القرار رقم 50 مفيد لتحقيق الموازنة بين احتياجات المواطن ورب العمل، والاقتصاد الوطني، وتنبع أهمية اضفاء مرونة في تنفيذ القرار من أسباب عدة منها: - تفاوت اوضاع المؤسسات من جهة تبعاً للنشاط الاقتصادي الذي تزاوله. - الموقع الجغرافي الذي تزاول فيه المؤسسات نشاطها. - الأوضاع الاجمالية للاقتصاد الوطني، وتوافر السعوديين في مهن ومهارات بعينها. - رغبة السعوديين، في حال توافرهم، في العمل في مناطق معينة. وليس من شك أن صندوق تنمية الموارد البشرية الذي أعلن عن تأسيسه اخيراً سيساهم في تحسين جاذبية العمال المواطنين، لكن لا بد من بيان أن هناك حاجة لآليات اضافية لتحقيق سياسات الاستراتيجية الوطنية للعمال الوطنيين، التي وضعت وأقرت من قبل مجلس القوى العاملة. ولعل من المقبول القول ان هناك حاجة ماسة للتعامل مع قضية تطوير رأس المال البشري المحلي تعاملاً استراتيجياً ومؤسسياً شاملاً، باستحداث منظومة من البرامج للتعامل مع المؤسسات الانتاجية والخدمية، وتعمل في المحصلة ليس فقط لتوظيف السعوديين واحلالهم بل كذلك للتثبت من أنهم يكتسبون مهارات من خلال عقود تدرج وتدريب على رأس العمل، بهدف الوصول الى مخزون استراتيجي محلي من الخبرات والمهارات الضرورية، تمثل قرص الرحى الذي يحرك الاقتصاد الوطني ويدفعه الى آفاق جديدة من النمو والابداع في حقبة الصناعات المعرفية المتنامية. * متخصص في المعلوماتية والانتاج.