تقول الكاتبة المبدعة غادة السمان: "ثمة أحزان لا يستطيع القلب أن يألفها". الوجع الجسدي يمكن احتماله ويمكن التغلب عليه وقهره بقوة الارادة. الشوكة إذا انغرست في الجسد تؤلم في البدايات كثيراً ثم يذيبها الجسد نازعاً حدتها حتى تذوب وتنصهر فيه. ولكن وجع القلب المفجوع بفقد حبيب لا يتقلص مع الزمن. يظل مثل غمة تغشى القلب وتسلب من الروح الشعور بدفء الطمأنينة. أقول: هناك فعلاً أحزان لا يمكن نسيانها ولا التعايش معها، وأشدها مضاء إذ ينغرس كالمدية الصدئة في أعماق المشاعر هو الغدر ممن نظنهم يحبوننا فنكتشف أن حبهم مرتبط بالظروف. الإنسان ضعيف بطبعه غير قادر على الوقوف وحده، وغير قادر على تخطي ضعفه إلا مستنداً على إيمانه بربه ثم على كتف رفيق حميم. وفي ظروف الشدة تبقيه تلك الثقة واقفاً. وحين يجد نفسه لسبب ما وبمفاجأة غير متوقعة وحيداً مسلوباً تلك الثقة قد يفقد كل ما يؤكد له أن للحياة معنى. معنى الحياة ليس في أن نستمر في التنفس أو أن نضمن راحة اليوم ولقمة الغد، بل أن يكون لاستمرارنا في التنفس قصد أسمى من الإبقاء على راحة الجسد أو لذة التكاثر. معنى الحياة نعيه فعلاً حين نعرف ونعيش الشعور بالانتماء. كثيرون لا يفرقون بين الانتماء حين نجد الحب الحقيقي المتبلور في صداقة صادقة... وبين التجاذب والتلذذ في علاقة عابرة. الصداقة أقرب الى عمق العلاقة الموعودة بالنمو من علاقة إعجاب وانبهار تتوهج لفترة زمنية ثم يقضي على وهجها فرط الإشباع أو تباعد المسافات. البعيد عن العين بعيد عن القلب؟ فقط في حال علاقات تعطش يطلب إشباعاً سريعاً... حتى لو قصدنا به الإشباع العاطفي. منطقياً، لو خيرنا بين الحب والصداقة لاخترت الصداقة، ولو انه عاطفياً لا مجال للاختيار، الحب مجال لا خيار فيه يأتي كالصداع أو كما تأتي فيضانات السيول تغرقنا، تعري جذورنا تنتزعها من تربتها الأصيلة وتجرفها معها الى حيث يأخذها اندفاع العاطفة. الحب غالباً إحساس ملتهب له ما للنار من قدرة على الاستشراء، والتهام الأخضر واليابس الى أن يحتويه إطار يعتقل تلك القدرة ويحولها إضاءات ودفئاً حميماً. ليس هناك حب متعقل هادئ، عندما يهدأ الحب ويتعقل يعود الى دفء المودة. الصداقة هي الصلة الأكثر أماناً والأقل إيلاماً. هي الاستقرار الذي تأتي به الثقة والاطمئنان. والحب في إطار الصداقة هو الأبقى، حين يصبح مودة. أما أنانية التملك وجنون التتيّم فهي إن تسربت الى أساس أي صلة ثنائية نخرت في جذروها حتى تقتلها. سواء تصورنا ذلك عشقاً أو فناء في المعشوق. في الحساب الأخير لا يبقى من الصلات إلا تلك التي لا نفقد فيها أنفسنا... ولا تتطلب منا أن نتحمل في سبيلها تلك الأحزان التي لا يمكن أن يألفها القلب.